كتاب ومقالات

انتعاش ذاكرة «العروس»

نجيب يماني

• بعد النّظر المستشرف لأفق لا محدود..

• نفاذ البصيرة الوقّادة الذي يرى ما لا يراه الآخرون..

• التفكير خارج الصندوق

• الإيمان بالقدرة على الإنجاز حد محاولة المستحيل..

تراءت لي كل هذه المعاني النائفات وغيرها، وأنا أتابع إعلان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن إطلاق مشروع «إعادة إحياء جدة التاريخية»، بمزيج من إحساس الفخر بهذا المشروع في أبعاده الثقافية والحضارية والاقتصادية، من جانب، وأطياف الزهو بالنوستالجيا من جانب آخر، بما يحمله المشروع من صيانة لذاكرة «العروس»، ووفاء لإرثها وحضارتها التي تضرب بجذورها عميقًا في التاريخ، وكأني بالآباء والأجداد والأصحاب ومن بقي منهم على قيد الحياة، قد جرت في عروقه دماء الشباب، واستيقظت في روعه أطياف الطفولة والصبا، وأعاد رسم خريطة المدينة في خاطره على عهدها القديم، واطمأن أن ذلك «الزمن الجميل» عائد مع طموح هذا المشروع الخلاق وأن الهوية المعمارية لمدينة جدة بكل ثقلها التاريخي محفوظة ومصانة.. أما الذين رحلوا فلا أقل من أن نحسّ بأرواحهم تجوس بيننا فرحًا اليوم، وهم يستشعرون في برازخهم معاني الوفاء لما تركوا، وصيانة ما أنجزوا ليخلد في سجل تاريخ هذه المدينة التاريخية.

يمر أمامي طيف المرحوم محمد صادق دياب ونحن شلة (د. فؤاد عزب، سامي خميس، د. عاصم حمدان، د. عدنان اليافي، عبدالله رواس، عبدالمحسن حليت) يأخذنا كل ليلة إلى جدة التاريخية يتكلم بحماس ويشرح بعمق ويعدد تاريخ كل معلم ولا يعود بنا إلا بعد أن يطمئن على أن كل حجر وباب وروشان قائم لم يمسسه أحد بسوء.

بهذا الشعور المازج بين الإعجاب بالمشروع في بعده البراغماتي المتوائم مع واقع اليوم، وبعده الحضاري الصائن للموروث بحمولته الثقافية والتاريخية، نظرت إلى المشروع، وحاولت أن استقرئ المآلات الوضيئة التي سينتهي إليها حال اكتماله بالتصور البديع الذي رسم له، فبحسب الإعلان إننا أمام مشروع يهدف إلى «تطوير المجال المعيشي في المنطقة؛ لتكون مركزًا جاذبًا للأعمال وللمشاريع الثقافية، ومقصدًا رئيسًا لروّاد الأعمال الطموحين»..

وإني على تمام اليقين من قدرة المشروع على تحقيق هذا الهدف النبيل، كونه يعتمد على «النفس الطويل»، لتحقيق مستهدفاته، بمدة زمنية تمتد إلى خمسة عشر عامًا، سيتواصل العمل فيها بشكل دؤوب على إبراز المَعالم التراثية التي تحفل بها المنطقة وفق مسارات متعددة تشمل: البنية التحتية والخدمية، وتطوير المجال الطبيعي والبيئي، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز الجوانب الحَضرية.. فكل هذه المسارات من شأنها – متى ما أنجزت على الوجه المطلوب – أن تجعل المنطقة التاريخية في جدة فضاءً مفتوحًا لتمازج التاريخ بالحاضر، والحضارة بالمعاصرة، والموروث بالحداثة، في تناغم يجسّر المسافات بين الأجيال دون إحلال وإزاحة، ويضمن للتاريخ والحضارة أن يكونا مرتكز استلهام، ومبعث همة، وليسا عائقًا أمام التطور.

وبهذا المفهوم نضمن بعدًا اقتصاديًّا واستثماريًّا محفّزًا، ومنظور ذلك في أحد أهداف المشروع بجعل «جدة التاريخية موقعًا مُلهمًا في المنطقة، وواجهةً عالمية للمملكة عبر استثمار مواقعها التراثية وعناصرها الثقافية والعمرانية الفريدة لبناء مجال حيوي للعيش تتوفر فيه مُمكّنات الإبداع لسكانها وزائريها، انطلاقًا من رؤية عصرية للتخطيط الحضري رُوعي فيها مفهوم الحِفاظ الطبيعي على الموروث وضرورة مواءمته مع احتياجات الإنسان ومُحفّزات النمو التلقائي للإبداع، بما يجعلها حاضنةً للإبداع يلتقي فيها روّاد الأعمال والفنانون ضمن مجتمع إبداعي خلّاق، وفي محيطٍ تتألق فيه عناصر التراث الوطني والطبيعة مع التصاميم الهندسية المعاصرة».

بوسع المرء أن يتراحب في تبيان مزايا هذا المشروع، وتعديد إيجابياته، فيكفي فخرًا أنه يأتي في سياق حرص ولي عهدنا الأمين على حفظ وصيانة المواقع التاريخية وتأهيلها، ضمن مستهدفات رؤية 2030، وكون المشروع يرمي إلى أفق بعيد، ويخطط بشكل مدروس إلى خلق بيئة متكاملة وجاذبة في جدة التاريخية، تتوفر فيها أسباب المتعة، وجودة الحياة، والنفع الاقتصادي، ومراعاة بعدها التاريخي والحضاري والإنساني..

لا أشك مطلقًا في تفاعل أهالي جدة مع هذا المشروع الطموح، ومساهمته الفاعلة في نجاحه، والمبادرة في اغتنام الفرص الاستثمارية التي سيطرحها، بما يعيد الحيوية والنشاط للمنطقة التاريخية.

وفي المقابل فإن تفاعل جمهور المثقفين والأدباء والفنانين والمسرحيين والموسيقيين، وكل طائفة المبدعين في كافة المجالات، سيكون لهم دورهم المنوط بهم أن يلعبوه ويبدعوا فيه، وحراكهم المنشود أن يؤدوه، وكأني أتطلع بمنظار المستقبل وأطوي حجب الزمن لأرى جدة التاريخية وقد استحالت مسرحًا مفتوحًا للفنون والأدب والثقافة، وكتابًا مفتوحًا لقصص التاريخ، ومعرضًا قائمًا للتراث الشاخص، الذي يقاوم النسيان ويتعالى على الطمر والنسيان.. فشكرًا ولي عهدنا الأمين ودمت ذخرًا وفخرًا لوطننا الذي نباهي به ونعتز.