كتاب ومقالات

المعاناة العاطفية.. للأب الفزاعة

بشرى فيصل السباعي

ماذا يعني مصطلح «المجتمعات التقليدية؟» تساؤل هام لأي مجتمع تقليدي كمجتمعنا، فالمصطلح يعني واقعيا أن هناك قوالب موحدة محددة معممة قياسية جامدة موروثة قولبها اللا وعي الجماعي لكل فئة من فئات الناس وتتم قصقصة أجنحة وأطراف الفرد حتى يمكن حشره بالقالب ليتقولب به ويفقد بذلك كل فرديته وذاتيته وعفويته الصادقة والإنسانية الطبيعية ويصبح مجرد آلة تكرار للأنماط اللا واعية الجماعية لقالبه بغض النظر عن حقيقته الداخلية ومدى موافقة تلك الأنماط التقليدية أو مخالفتها لما بداخله، ولهذا غالبية الناس لا يشعرون بالرضا عن أنفسهم وحياتهم، وعلى سبيل المثال؛ قالب شخصية «السلطة الأبوية الذكورية» التي تم حبس الذكور فيها سبّبت ليس فقط للنساء والأطفال المعاناة المادية والمعنوية، إنما حتى الرجل نفسه يعاني منها بشكل مرير ماديا ومعنويا وقد يشتكي وقد يكتم وفي كلا الحالين هو يتضرر نفسيا وصحيا من عواقب هذا الدور الذي تم حبسه فيه وهو ما يسمى بالتعبير الشعبي دور «الأب الفزاعة» حيث يستخدم لتخويف الأبناء وترهيبهم سواء في حضوره أو غيابه، وقد لا يقوم حتى بتعنيفهم جسديا إنما غضبه مخيف ويكثر الصراخ والانفعالات الحادة التي تروع الأبناء وتشعرهم بالخطر، وبالطبع هناك دراسات لا تحصى عن الأضرار النفسية والعقلية والصحية والاجتماعية على الأبناء جرّاء هذا النمط وتأثيره السلبي على تطور أدمغتهم وشخصياتهم وقد يصيبهم بالشذوذ الجنسي نفورا للبنت من أن تتزوج رجلا كوالدها «المرعب البغيض» ونفورا للولد من أن يشبه والده «المرعب البغيض» لكن أيضا الآباء يعانون من تبعات نفسية وصحية حرفيا قاتلة لهم نتيجة لعبهم هذا الدور السلبي في حياة العائلة؛ فهم يصابون بنسبة أكبر من النساء بالأمراض العقلية والنفسية والاجتماعية والصحية الناتجة عن الانفعالات الحادة المستمرة المتعلقة بممارستهم للعنف الأسري المادي والمعنوي كأمراض القلب والشرايين وافتقارهم للدعم العاطفي من الأسرة لنفور الأسرة منهم، وهذا سبب وفاة الرجال بمعدل عشر سنوات أصغر من النساء وسبب أن واحدا من كل خمسة رجال لا يصل إلى سن الخمسين ويموت قبلها «منظمة PAHO» الصحية 2021 ويسمى هذا الدور بالمصطلحات الغربية «الذكورية السامة-Toxic masculinity»، ولذا حاليا بالغرب ما عاد الخطاب السائد ضد العنف الأسري يركز على الضحايا التقليديين له أي النساء والأطفال، فالدراسات والإحصائيات العالمية أثبتت أن قيام الرجل بدور الفزاعة المخيفة للأسرة ضار به أيضا، والأب الذي يتفانى بخدمة أسرته يشعر بألم عاطفي ونفسي عميق عندما يرى أن أبناءه لا يشعرون تجاهه إلا بشعور الإنسان تجاه مصدر الخوف والتهديد والرعب والخطر.. أي النفور، بينما كل الحب والحنان والقرب والارتباط العاطفي هو بالأم ولو كانت مهملة لهم والسبب هو مبدأ نفسي يسمى (ارتباط شرطي سلبي)، وتولد هذا المصطلح ونظريته من أبحاث العالم (ايفان بافلوف) على سيلان لعاب الكلاب تجاوبا مع تقديم الطعام لها، فالكلاب بعد التعود على روتين محدد لتقديم الطعام تضمن صوت جرس صار لعاب الكلاب يسيل لمجرد سماعها الجرس أو رؤية الشخص الذي عادة يقدم الطعام أو رؤية طبق الطعام حتى دون وجود أي طعام، لأن كل تلك العناصر المتزامنة مع تقديم الطعام باتت بشكل لا واعٍ مرتبطة بالطعام، وهذا هو (الارتباط الشرطي)؛ أي أن يصبح أمر ما مرتبطا بأمر آخر لتكرار تزامن حدوثهما معا، وبهذا المبدأ صارت شخصية الأب مرتبطة بكل الأحوال البغيضة المنفرة من تخويف وترهيب وخطر وعنف مادي ومعنوي؛ ولذا حتى عندما يغيب العنف وما يمكن أن يثير خوف ورهبة الأبناء من الأب عندما يكبرون يبقى شعورهم تجاهه هو النفور وإرادة تجنبه والتباعد عنه تبعا لنزعة تجنب مصدر الخوف والخطر الفطرية اللا واعية، والحل؛ أن يرفض الأب هذا الدور السام لصحته النفسية والاجتماعية والعضوية ويتحرر منه، وتتوقف الأم والأقارب والمدرسة والمجتمع عن ترسيخ دور الأب كفزاعة خطر ورعب وتخويف وترهيب لأبنائه بما يحرم الأب والأبناء من الشعور بذات حميمية الحب والأمان والحنان والقرب الذي يكون بين الأم والأبناء.