كتاب ومقالات

استلاب.. !

نجيب يماني

«الاستلاب».. لم أجد غير هذه الكلمة واصفًا وملخّصًا للحالة التي اعترت العالم أجمع -ونحن منه- جراء انقطاع الخدمة عن وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، أنستغرام)، مطلع الأسبوع الفارط.. فعلى مدار السويعات القليلة التي انقطعت فيها الخدمة؛ ساد جو من التوتر، وخيم شبح من القلق، وطغى إحساس بالضياع والتوهان، وتوقّفت حياة البعض، وازدادت رنّات الهواتف مستفسرة ومستنكرة.. ولم تقصّر نظرية المؤامرة في فرض حضورها، بحثًا عن سبب هذا الانقطاع، ومن يقف وراءه، وأي الجهات المستفيدة منه.. !

ساعات قليلة؛ أدركت فيها حجم «الورطة» التي أوقعنا أنفسنا فيها، وانغمسنا بالكلية في خضم هذه الوسائل التقنية الحديثة، بوصفها نوافذ للتواصل الاجتماعي، أدمناها بمحض إرادتنا، وكأننا لم نكن قبلها نحسن تدبير حياتنا، ونضبط إيقاع زمننا بما يكافئ المتطلبات، ويفي بالواجبات، وهي التي كان من المفترض أن تكون عالمًا «افتراضيًا»، لا واقعًا مسيطرًا بكل هذا العنفوان، والحضور الطّاغي؛ لندرك أننا بالفعل قد قلبنا المعادلة رأسًا على عقب، فصار ما هو «افتراضي» واقعًا، وما هو «واقعي» في حكم المضمحل والمتلاشي والضامر..

قد أجد ألف ألف عذر وسبب لقلق وحيرة من سخّروا هذه الوسائل التقنية لإدارة أعمالهم، وأنشطتهم التجارية، ومعاملاتهم المالية، وكل ما يتصل بشؤونها، فمن حقّهم أن يقلقوا، ويشتطوا في القلق، قياسًا بحجم الخسائر المهول الذي منيت به مؤسساتهم جراء سويعات الانقطاع التي حدثت، لكنني في المقابل لا أجد أي عذر مقبول ومناسب ومنطقي لحالة القلق والتوهان التي عاشها كثير ممّن يتعاطون مع وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها متكأً لـ«طق الحنك»، أو لمداورة الأخبار على اختلاف هذه الأخبار ودرجة أهميتها، أو«الوناسة» وإهدار الوقت كيفما اتفق، أو ما إلى ذلك من «الترّهات» من شاكلة التعاطي السلبي وغير المثمر، التي زحمنا بها هذه الوسائل، وأدمنا استعمالها بشكل عبثي؛ فصار كلّ واحد منا رهينًا للوح في يده، يخاطب به حتى أهل بيته وهم لا يبعدون عنه بضعة خطوات، فلا يكلمهم إلا عبر «ثرثرة» أصابعه على هاتفه المحمول..

فعلام كان القلق إذًا..!؟

ولم طغى علينا كل ذلك التوتر..؟!

ألم تكن تلك اللحظة ملهمة لنا وباعثة لمراجعة علاقتنا بهذه الوسائل المبذولة إلينا بكرم «حاتمي» فيّاض، بحيث نقيّم علاقتنا بها، ونضعها في الموضع الصحيح في حياتنا، والأليق بواقعنا، وندرك أن التواصل الاجتماعي الذي ننشده ويجب أن نحقّقه في حياتنا قدر بعدنا عنه كلّ البعد، وصار استخدامنا للتقنية بهذا المستوى الكارثي ينوب عنّا في أداء المهام على وجه المجاملة الباردة، والانصراف المخزي، فقامت حوائط بيننا عصيّة على التسلّق، واهترأت صلات كانت قمينة بأن ترعى وتصان، وضاعت قيم وأواصر كان حريًّا بها أن تكون مرعية، لو لا هذا الاستخدام غير الرشيد للتقنية، وعدم فهم المرامي من وراء استحداثها، والغاية المرجوّة منها..

ليس في ما أقول أي دعوة، أو حتى شبهة دعوة، للانقطاع عن حركة الحياة المعاصرة، في فورانها المائر، وسرعتها المهولة؛ بل هي دعوة للتفكير فيما نحتاجه من وسائل التواصل الاجتماعي والتقنية الحديثة، وإدراك الغاية التي ننشدها حين نستعملها ونتعاطاها، مع التقدير الأمثل للأولويات في حياتنا، والسيطرة من ثمّ على هذه الوسائل، لا أن نترك زمام أنفسنا لها لتسيطر هي علينا بما يشبه الإدمان، ويفضي إلى «الاستلاب» قولاً واحدًا..

وسبب آخر يدفعني إلى هذه الدعوة للمراجعة والنظر في وسائل التواصل الاجتماعي، التقنية الحديثة، متصل بالإفادة التي قدمتها إحدى الموظّفات بشركة «فيسبوك» أمام الكونغرس الأمريكي منتصف الأسبوع المنصرم، والمعلومات الخطيرة التي أدلت بها في شهادتها المثيرة للجدل، والباعثة على البحث والتحرّي والاستقصاء والمحاسبة، فقد كان شهادة صادمة، ينالنا نصيب منها بلا شك، ويتوجّب علينا الانتباه كل الانتباه لما جاء فيها، فما قيل لا يخص المجتمع الأمريكي وحده؛ بل يظلل شبحه الماحق بالجميع دون استثناء،.. ولعلي أجد في هذا مدخلاً لتحريض العقول العربية بعامة، والسعودية بخاصة، نحو العمل بشكل جاد ومنهجي، لإنشاء منصّات للتواصل الاجتماعي أسوة بما هو مطروح في عالم «الميديا» اليوم، وهو أمر لا أظن أن الإمكانيات المادية المتاحة، والعقول العربية والسعودية بعاجزة عن الإيفاء به، وتحقيقه على وجه السرعة والدقة والرصانة وفقًا للمقاييس والمطلوبات العالمية، ضمانًا لوسائل اتصال اجتماعي ذات محتوى أخلاقي منضبط، يتواءم مع الثوابت الاجتماعية والقيم الإنسانية المشتركة، بعيدًا عن أي إسقاطات منفّرة، وبغير انغلاق يفضي إلى حالة من العزلة عن العالم، والتوقوع في المحيط المحلي أو الإقليمي، وبانفتاح محسوب لا تذوب فيه الهويات، وتتسرّب من ثقوبه المحظورات التي تهدّد السلم الاجتماعي، والأمان الأسري، ويقيني أن هذه المعادلة ممكنة الحدوث، لاتساع رقعة المشترك القيمي الإنساني، وضيق هامش المختلف عليه، متى ما أحسنّا النيات، وصدق فينا العزم..

إنّنا في مسيس الحاجة للانعتاق من هذا «الاستلاب» الذي نعيشه أمام وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة اليوم، فإن بدا للبعض أن الوقت قد فات لهذا الاستدراك، فلا أقل من المحاولة، مع كامل يقيني بأن هذا لن يكون سهلاً وميسورًا، بل أقر بأنه صعب وصعب جدًّا، ويحتاج إلى إرادة فاعلة، وعزيمة ماضية، فلا مستحيل بعد ذلك على الإطلاق، فحاجتنا إلى الخروج من دائرة الاستهلاك والارتهان لـ«الغير»، والالتزام بشروطه وأدبياته باتت ماسّة وملحّة، ولن يعجز العقل السعودي، وبخاصة شبابه الذين نفاخر بهم في محافل الابتكار ومثبات براءات الاختراعات، أن يبدعوا لنا نوافذ للتواصل الاجتماعي، تتناسب وقيمنا، وتتواءم مع واقعنا، وتنسجم تمام الانسجام مع «رؤيتنا» المستشرفة لآفاق رحبة، براحات لا تحدها سقوف، أو تؤطرها مصدّات.. إنه رهانكم ورهان رؤية 2030 الذي واثقتكم عليه بأن تضعوا المملكة فوق هام السحاب.. وقد جاء دوركم، وحان ميقات انطلاقكم.