عبدالرحمن المجحم.. عاشق «الخدمة الاجتماعية» ونصير المعاقين
الأحد / 18 / ربيع الأول / 1443 هـ الاحد 24 أكتوبر 2021 01:22
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
أكتب هذه المادة الاستثنائية لتوثيق سيرة شخصية من شرق المملكة العربية السعودية لم تنل ما تستحقه من تكريم واحتفاء. لقد نسيه الناس ولم يعد أحد يتذكره، على الرغم من أياديه البيضاء وإنجازاته الرائعة على صعيد العملين الإنساني والاجتماعي انطلاقا من موقعه الوظيفي بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية وتخصصه الأكاديمي في «الخدمة الاجتماعية» وعلم الاجتماع.
فالمرحوم عبدالرحمن المجحم الذي شاءت الأقدار أن يرحل عن دنيانا مبكرا، لم يكن مجرد موظف بيروقراطي يؤدي مهامَ معينة لقاء راتب في نهاية الشهر كغيره، وإنما كان عاشقا لوظيفته ومتيما بأعبائها، ويجد متعة في ممارستها وإيجاد حلول لمشاكلها. ولا أبالغ لو قلت إن متعته تلك كانت مشابهة لمتعة من ينجح، بعد جهد وتفكير، في حل معادلة جبرية أو فك طلاسم لغز محيّر. ومن هنا كان زملاؤه ومرؤوسوه يلقبونه بـ«دودة عمل» على غرار لقب «دودة كتب» الذي يطلق على المتيمين بالقراءة والاطلاع الدائمين، وإنْ كان اللقب الأخير ملتصقا به أيضا، كما سنبين لاحقا.
من حسن حظي أني تعرفت في سنوات شبابي المبكرة على هذا الألمعي، فنشأت بيننا صداقة فكر وروح ووجدان استمرت حتى رحيله المفاجئ. وعلى مدى تلك السنوات لا أتذكر أننا اختلفنا يوما لأي سبب. فقد كانت مشاعرنا واحدة وكذا أفكارنا ومواقفنا وتوجهاتنا وهواياتنا وأذواقنا، بل كان افتراق أحدنا عن الآخر لأي سبب يشعر كل واحد منا أنه افتقد توأم روحه. حدث كل هذا على الرغم من أننا لم نتزامل دراسيا ولم نتجاور سكنيا، ولم نولد في بيئة مشابهة، لكن عشق مدينة الخبر وبيئتها الاجتماعية الدافئة المنفتحة والمفعمة بالود والتواصل وحب الحياة جذب كل واحد منا إلى الآخر، لنكتشف بسرعة وجود مشتركات كثيرة بيننا.. الطموح والتفوق والمرح والقراءة والاطلاع والكتابة الساخرة والتوثيق التاريخي ومتابعة الفنون بشتى أشكالها غناء وتمثيلا وعزفا ورسما وخطا.. إلخ.
تعرفت على الراحل بطريق الصدفة في صيف عام 1967 في مجلس صديق مشترك بشارع الأمير ناصر بالخبر، كان يتجمع فيه بعض شباب الخبر يوميا -بعد العودة من المدرسة وتناول الغداء- للتدخين وشرب الشاي وتبادل الأحاديث. وكنا وقتها قد أنهينا مرحلة الدراسة الإعدادية بشق الأنفس وسط حالة نفسية صعبة بسبب هزيمة العرب في تلك السنة في حرب الأيام الستة، ونستعد لبدء المرحلة الثانوية. غير أن المجحم لم يكن متشجعا لمواصلة تعليمه الثانوي معنا. كان يردد أنه سئم من مواد التعليم العام ويريد تجربة شيء مختلف. وبعد نحو عام قضاه دون أي عمل سوى قراءة المزيد من الكتب في اللغتين العربية والإنجليزية والفلسفة والسياسة والتاريخ والشعر والسير الذاتية، فاجأنا بقراره السفر إلى الرياض للالتحاق بمعهد الخدمة الاجتماعية الذي كان يقبل حملة شهادة الكفاءة المتوسطة ويوفر لهم السكن الداخلي المجاني ويمنحهم راتبا شهريا في حدود 500 ريال ويوصي بتعيينهم بعد التخرج في وظائف حكومية ذات صلة بدراستهم.
حاولنا ثنيه عن هذا القرار، اعتقادا منا أنّ الدراسة في معهد ثانوي لا يناسب شخصا متفوقا مثله، وأنّ من كان بتفوقه ومواهبه وطموحه وتميزه في المقررات والمعلومات العامة ينبغي أن يلتحق بجامعة مرموقة من بعد نيل الشهادة الثانوية. وذكّره أحد الزملاء بأنه سوف يفتقد معشوقتيه (الخبر والبحر) برحيله إلى الرياض قائلا: «وهل تطيق فراقا أي الرجل؟»، فكان رده: «أعلم أني لن أطيق، لكني سأغامر.. فقط ادعو لي بالتوفيق وأن يكون تعييني في المنطقة الشرقية». لاحقا علمنا أن سر إصراره على الالتحاق بالمعهد المذكور، ليس فقط مقرراته الدراسية المتفقة مع روحه المتطلعة لخدمة مجتمعه وناسه، وإنما أيضا شعوره بأن الانتقال إلى معهد يوفر السكن ويمنح راتبا سوف يسقط عن كاهل شقيقه الأكبر عبء إيوائه والإنفاق عليه لسنوات أخرى.
فورتي ناين
ولد عبدالرحمن بن صالح بن عبداللطيف بن صالح المجحم بفريج الحوطة من حي النعاثل من مدينة الهفوف بالأحساء في 29 أبريل 1949، وهو ابن لأسرة متواضعة الحال كان ربها، المتزوج من سيدة من عائلة الدريس، يعمل في الغوص ومن ثم في الزراعة والفلاحة، لكنه كان حافظا للروايات والحكايات وتاريخ أنساب منطقته. كان ترتيب عبدالرحمن هو الخامس من بين سبعة أبناء (ثلاثة ذكور وثلاث إناث)، إذ سبقه في الميلاد من الذكور شقيقه محمد الذي كان من أوائل السعوديين الذين التحقوا للعمل بشركة أرامكو النفطية في بقيق ومن ثم في الظهران بدليل أنه كان يُعرف في أوساط الشركة بـ«فورتي ناين»، في إشارة إلى رقمه الوظيفي، أي أنه كان الموظف السعودي الـ49 ممن التحقوا بأرامكو. وتلاه شقيقه الأصغر المرحوم عبدالله المجحم الذي عمل في التدريس. ومحمد المجحم، لمن لا يعرفه، كان موظفا مجتهدا استطاع سريعا أن يتعلم الإنجليزية ويكيف نفسه مع بيئة عمله وينهي مقررات أرامكو الدراسية ويتسلق سلمها الوظيفي حتى حاز على وظيفة مرموقة تخللتها دورات وانتدابات عدة إلى الولايات المتحدة وهولندا. ومن الأمور المدهشة عن محمد المجحم، عدا كرمه وأريحيته وطراوة حديثه، أنه بسبب عشقه للغة الإنجليزية، أتى بما لم يسبقه أحد، وهو حفظ قاموس اللغة الإنجليزية من الغلاف إلى الغلاف، فصار مرجعا لنا نلجأ إليه كلما استعصى علينا شيء من مقرر الإنجليزية المدرسي، فكان يخرج إلينا بهيئته الأرستقراطية وهو يضع «بايب التدخين» بين شفتيه ليجيب على تساؤلاتنا ويشرح لنا معنى هذه المفردة الإنجليزية أو تلك وتصريفاتها واشتقاقاتها وطريقة نطقها واستعمالاتها.
وتتحدر عائلة المجحم في الأحساء -طبقا لما أخبرني به عبدالله سلمان المجحم- من نجد، وقد سكنت الأحساء منذ عام 1919 الذي عُرف بسنة المجاعة، وغيرت اسمها من المقحم إلى المجحم تكيفا مع لهجة أهل الأحساء التي تقلب فيها القاف جيما.
التحق عبدالرحمن المجحم بالتعليم عام سنة 1957 دون المرور بالكتاتيب، حيث درس الابتدائية بمدرسة المزروعية (المثنى بن حارثة لاحقا) التي تخرج فيها عام 1963، وكان ضمن أوائل الطلبة من الصف الأول إلى السادس. أما المرحلة المتوسطة فقد درسها بالمدرسة المتوسطة الحكومية بجنوب الخبر، بسبب انتقاله إلى الأخيرة من الهفوف، بُعيد وفاة والدته، للسكن مع شقيقه محمد.
تخرج صاحبنا بنجاح لافت من معهد الخدمة الاجتماعية بالرياض في مطلع السبعينات الميلادية وعاد إلى أحضان معشوقته الخبر بشوق، من بعد تجربة في الاعتماد على النفس وتكوين صداقات وطيدة مع نماذج متنوعة من أبناء وطنه لا تزال تتذكره بالخير وتشيد بخصاله وتترحم عليه كلما ورد اسمه. ومن خلال صداقتنا، تعرفت على بعض من هؤلاء ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة عبدالله العامودي ومحمد العسيلان وعبدالرحمن بالطيور. كما قادتني تلك الصداقة والرفقة إلى التعرف على عدد من أصدقائه الشخصيين من أبناء الأحساء من أمثال: العزيزين عبدالله بن صالح السهيل، وعبدالله بن عبدالرحمن العليان، وغيرهما.
ومثلما تمنى، تمّ تعيينه في بداية الأمر في وظيفة باحث أول بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في الدمام، ثم راح يصعد ويتنقل وظيفيا، فعمل في «دار التوجيه الاجتماعي» قبل أن يصبح مديرا لها، وتولى لبعض الوقت قيادة دار الأيتام ودار الأحداث قبل أن يتولى إدارة شؤون تأهيل المعاقين التي وجد نفسه فيها فمنحها كل جهده وطاقته وعلمه، بل سعى جاهدا لدى رؤسائه في الرياض كي يكون للمنطقة الشرقية مركز متطور لرعاية وتأهيل المعاقين على أعلى المستويات. وبالفعل خصصت الدولة أرضا واسعة على طريق الخبر - الدمام، بجانب منشآت الحرس الوطني، لإقامة مركز حديث ضخم ومجهز بأفضل الأخصائيين والمدربين والتجهيزات والاحتياجات لخدمة ذوي الإعاقة، ووضعتْ المجحم، بعد تشييد المركز وتجهيزه، على رأسه ليمضي صاحبنا الجزء الأخير من حياته فيه واضعا نفسه في خدمة هذه الفئة المحرومة من الحياة الطبيعية.
من الواقع
وعلى الرغم من الساعات الطويلة، التي كان يقضيها في هذا المركز متابعا لكل صغيرة وكبيرة من أعماله وأنشطته ومتعاطفا مع مشاكل ساكنيه والمتدربين فيه ومادا يد المساعدة للأسر التي كانت تفضل إبقاء أطفالها وأبنائها المعاقين لديها مع حصولها على إعانات نقدية شهرية، فإنه كان يخصص بعض الوقت لمطالعة كل جديد في مجال عمله، وذلك من منطلق إيمانه بأن التطور من سنن الحياة وأن ما درسه من مقررات ونظريات لا بد أن يُحدّث من وقت إلى آخر، كما كان يخصص بعض الوقت لكتابة زاوية تحت عنوان «من الواقع» لصحيفة اليوم الصادرة من الدمام، وكانت هذه الزاوية ذات صلة بتخصصه وعمله الوظيفي أو تعكس مكنونات نفسه الحائرة وأمانيه الكثيرة نحو مجتمع أكثر التزاما باحتياجات المعاقين. وقد ظهرت مقالاته هذه لفترة من الزمن -قبل توقفها بسبب ضغوط العمل- وكانت تحظى بمتابعة واسعة بسبب جرأتها وصياغتها الجميلة وسلاسة مضمونها. وهذه الخاصية في مقالات المجحم كانت ناجمة دون أدنى شك من تبحره في اللغة العربية. فبقدر ما كان شقيقه الأكبر محمد المجحم ضليعا في الإنجليزية كان عبدالرحمن متبحرا ومتفوقا في اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة وتعبيرا، بحيث لم يكن أحد من زملاء دراسته قادرا على منافسته. وأتذكر أننا كنا نقضي الساعات في حفظ قصيدة مقررة، بينما كان هو يحفظها عن ظهر قلب في ثوان بمجرد قراءتها مرة واحدة، ما يدل على امتلاكه موهبة فريدة ساعدته في استيعاب وتذكر تواريخ ومعلومات ومقولات وقصائد وأشعار مغناة لا حصر لها. وفي سياق الحديث عن مهارته اللغوية والنحوية أتذكر أنه هو الذي تولى تنقيح أول كتاب صدر لي في عام 1990 تحت عنوان «عشرون عاما من الترحال»، كما أنه هو الذي الذي شجعني في عقد الثمانينات على دخول عالم الكتابة الصحفية عبر كتابة مقالات نقدية اجتماعية ساخرة في جريدة اليوم، بل كان يتولى بنفسه إيصالات مقالاتي إلى مكتب الجريدة بالدمام وهو في طريقه إلى عمله كيلا يتأخر نشرها.
العودة للمدارس
لم تغب مطالعة الصحف ومشاهدة البرامج التلفزيونية وملاحقة الإصدارات الجديدة وقراءة الكتب المتنوعة عن ساعات المجحم اليومية، حيث كان يخصص لها بضع ساعات من وقته المزدحم. وحينما افترقنا بذهابي إلى بيروت لمواصلة دراستي الجامعية في مطلع السبعينات، كان يكاتبني بصفة دائمة، ويكلفني بأن أحضر له في إجازاتي هذا الكتاب أو ذاك، فكنت اجتهد في تلبية طلبه رغم كل الصعاب التي كانت تحيط آنذاك بعملية إدخال المطبوعات إلى السعودية. وأتذكر أنه كان معنيا في تلك الفترة بالحصول على مؤلفات رواد في علم الاجتماع والجريمة وجنوح الأحداث من أمثال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، وعالم الاجتماع الفرنسي الآخر أوغست كونت وزميليهما الإنجليزي هربرت سبنسر والألماني ماكس فيبر. على أن أجمل ساعاته اليومية كان في أواخر الليل، حينما كان يختلي بنفسه لقراءة كتاب مع فنجان شاي مطبوخ ثقيل وسيجارة من نوع «كرافن إيه»، وأغنية من بين مئات أغاني السيدة أم كلثوم التي كان يحتفظ بها في أشرطة كاسيت ويحفظ كلماتها عن ظهر قلب.
في عقد الثمانينات، قرر المجحم أن يعود إلى مقاعد الدراسة، وكأنما اكتشف فجأة أنه لا غنى عن تعزيز تحصيله العلمي بشهادة جامعية، فاختار الالتحاق بكلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة لنيل ليسانس علم الاجتماع. لم يكن المجحم في حاجة لبذل مجهود كبير لنيل الدرجة الجامعية. فقد كانت خبرته ومطالعاته ومشاركاته في اجتماعات ومؤتمرات محلية وإقليمية، معطوفة على ملكاته الفردية لجهة سرعة الاستيعاب والتذكر كفيلة بإتمام دراسته الجامعية دون عناء كبير وتخرجه بتفوق لافت. ليعود على إثر ذلك إلى موقعه الوظيفي في الدمام مع حصوله على ترقية مستحقة بمرتبة مدير عام بأمر من وزير العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك الدكتور علي بن إبراهيم النملة.
عدو المظاهر الفارغة
بدا المجحم في هذه الفترة سعيدا بشهادته الجامعية، كسعادته يوم أن اقترن في منتصف السبعينات بكريمة رجل فاضل من رجالات الخبر هو العم عبدالوهاب السويدان، وكسعادته يوم ميلاد ابنتيه الغاليتين راوية ونورة، ويوم أن استقل بسكنه للمرة الأولى في شقة متواضعة بشارع الملك فهد بالخبر، ويوم أن اشترى سيارة صغيرة خاصة، ويوم أن قرر مرافقتي في رحلة استجمام إلى اليونان.. أو بلاد أرسطو وأفلاطون وسقراط كما كان يحلو له تسميتها. كانت أحلامه الشخصية، على خلاف أحلامه العامة، بسيطة، وكان عدوا للمظاهر الفارغة التي يختفي وراءها قليلو العلم والثقافة، فلم يسع مثلا إلى شراء أو بناء منزل خاص به، ولم تؤثر فيه حمى تملك الأراضي والعقارات في حقبة الطفرة النفطية التي شهدت مضاربات حولت العديد من معارفة وأصدقائه إلى أثرياء وملاك في غمضة عين. كانت فلسفته أن الأغلبية العظمى من سكان كوكب الأرض ليسوا من فئة الملاك، فلماذا يشذ عنهم؟. وكنت أناكفه بالقول إن الأغلبية العظمى من سكان الأرض لم يكملوا تعليمهم فلماذا لم تقتف أثرهم؟ ولأنه كان يمتلك مشاعر الشاعر والفنان فقد كان أيضا عدوا للفوضى والتسيب واللامبالاة والفساد والغلو والتطرف والنفاق، إذ كانت تزعجه مثل هذه المظاهر وتؤرقه وتوتره.
وتشاء الأقدار وإرادة المولى -عزّ وجل- أن يكون المجحم في البحرين، التي أحبها وأحب أهلها منذ شبابه المبكر، حينما أصيب في عام 2001 بجلطة دماغية مفاجئة نقل على إثرها إلى مجمع السلمانية الطبي للعلاج. كنتُ وقتها في لندن فسارعت، بمجرد علمي بالخبر المؤلم، بالعودة إلى البحرين للبقاء بجانبه. وكم آلمني أن أرى الرجل الفصيح المفوه غير قادر على النطق، وأن أشاهد من كان شعلة في النشاط والحركة ملقى على سريره لا يستطيع الحراك، بل تألمت أكثر حينما اكتشفت أن صاحب الذاكرة الحديدية لا يتذكر شيئا مما كان بيننا.
شخصية كريمة ودودة مفعمة بالنشاط والحيوية
مضت الأيام وهو على تلك الحالة لا يستجيب للعلاج رغم الرعاية الخاصة التي أمر بها مشكورا وزير الصحة البحريني آنذاك الصديق الدكتور فيصل الموسوي بناء على طلب تقدمت به إليه. ومن جانبي كنت أزوره يوميا محاولا، على الأقل، تنشيط ذاكرته، من خلال محاورته كتابة وإشارة، لكن دون جدوى. لاحقا، حينما استقرت حالته قليلا وصار قادرا على الحركة وتذكر صور باهتة من الماضي البعيد دون الماضي القريب، قرر شقيقه محمد نقله بعربة إسعاف إلى الخبر لمواصلة علاجه بمستشفى الخبر التعليمي الذي بقي فيه لمدة شهرين دون جدوى، الأمر الذي دفع عائلته إلى نقله للمنزل مع تخصيص ممرضتين لرعايته. واستمر الوضع على هذه الحال إلى أن جاءت موافقة الجهات الرسمية على نقله إلى ألمانيا للعلاج على نفقة الدولة. وبالفعل سافر المجحم مع شقيقه إلى ألمانيا، لكنه أصيب هناك بتسمم في الدم فتوفي -رحمه الله- في مارس عام 2002، وتمّ نقل جثمانه إلى الخبر حيث صُلي عليه بمسجد النور ودفن بحضور جمع غفير من أصدقائه ومعارفه الكثر.
وهكذا انطوت صفحة شخصية كريمة ودودة مفعمة بالنشاط والحيوية، ورجل موسوعي في تخصصه ومتبحر في غير تخصصه، ومسؤول خلوق نزيه، ومواطن زاهد قنوع، وصديق مخلص طيب المعشر يأسر مستمعيه بأحاديثه ونوادره ويشيع البهجة والسرور أينما حلّ بتعليقاته وقفشاته. رحم الله ابن الخبر البار عبدالرحمن صالح المجحم وغفر له وجزاه خيرا بقدر ما قدم لوطنه ومجتمعه وناسه من صالح الأعمال.
فالمرحوم عبدالرحمن المجحم الذي شاءت الأقدار أن يرحل عن دنيانا مبكرا، لم يكن مجرد موظف بيروقراطي يؤدي مهامَ معينة لقاء راتب في نهاية الشهر كغيره، وإنما كان عاشقا لوظيفته ومتيما بأعبائها، ويجد متعة في ممارستها وإيجاد حلول لمشاكلها. ولا أبالغ لو قلت إن متعته تلك كانت مشابهة لمتعة من ينجح، بعد جهد وتفكير، في حل معادلة جبرية أو فك طلاسم لغز محيّر. ومن هنا كان زملاؤه ومرؤوسوه يلقبونه بـ«دودة عمل» على غرار لقب «دودة كتب» الذي يطلق على المتيمين بالقراءة والاطلاع الدائمين، وإنْ كان اللقب الأخير ملتصقا به أيضا، كما سنبين لاحقا.
من حسن حظي أني تعرفت في سنوات شبابي المبكرة على هذا الألمعي، فنشأت بيننا صداقة فكر وروح ووجدان استمرت حتى رحيله المفاجئ. وعلى مدى تلك السنوات لا أتذكر أننا اختلفنا يوما لأي سبب. فقد كانت مشاعرنا واحدة وكذا أفكارنا ومواقفنا وتوجهاتنا وهواياتنا وأذواقنا، بل كان افتراق أحدنا عن الآخر لأي سبب يشعر كل واحد منا أنه افتقد توأم روحه. حدث كل هذا على الرغم من أننا لم نتزامل دراسيا ولم نتجاور سكنيا، ولم نولد في بيئة مشابهة، لكن عشق مدينة الخبر وبيئتها الاجتماعية الدافئة المنفتحة والمفعمة بالود والتواصل وحب الحياة جذب كل واحد منا إلى الآخر، لنكتشف بسرعة وجود مشتركات كثيرة بيننا.. الطموح والتفوق والمرح والقراءة والاطلاع والكتابة الساخرة والتوثيق التاريخي ومتابعة الفنون بشتى أشكالها غناء وتمثيلا وعزفا ورسما وخطا.. إلخ.
تعرفت على الراحل بطريق الصدفة في صيف عام 1967 في مجلس صديق مشترك بشارع الأمير ناصر بالخبر، كان يتجمع فيه بعض شباب الخبر يوميا -بعد العودة من المدرسة وتناول الغداء- للتدخين وشرب الشاي وتبادل الأحاديث. وكنا وقتها قد أنهينا مرحلة الدراسة الإعدادية بشق الأنفس وسط حالة نفسية صعبة بسبب هزيمة العرب في تلك السنة في حرب الأيام الستة، ونستعد لبدء المرحلة الثانوية. غير أن المجحم لم يكن متشجعا لمواصلة تعليمه الثانوي معنا. كان يردد أنه سئم من مواد التعليم العام ويريد تجربة شيء مختلف. وبعد نحو عام قضاه دون أي عمل سوى قراءة المزيد من الكتب في اللغتين العربية والإنجليزية والفلسفة والسياسة والتاريخ والشعر والسير الذاتية، فاجأنا بقراره السفر إلى الرياض للالتحاق بمعهد الخدمة الاجتماعية الذي كان يقبل حملة شهادة الكفاءة المتوسطة ويوفر لهم السكن الداخلي المجاني ويمنحهم راتبا شهريا في حدود 500 ريال ويوصي بتعيينهم بعد التخرج في وظائف حكومية ذات صلة بدراستهم.
حاولنا ثنيه عن هذا القرار، اعتقادا منا أنّ الدراسة في معهد ثانوي لا يناسب شخصا متفوقا مثله، وأنّ من كان بتفوقه ومواهبه وطموحه وتميزه في المقررات والمعلومات العامة ينبغي أن يلتحق بجامعة مرموقة من بعد نيل الشهادة الثانوية. وذكّره أحد الزملاء بأنه سوف يفتقد معشوقتيه (الخبر والبحر) برحيله إلى الرياض قائلا: «وهل تطيق فراقا أي الرجل؟»، فكان رده: «أعلم أني لن أطيق، لكني سأغامر.. فقط ادعو لي بالتوفيق وأن يكون تعييني في المنطقة الشرقية». لاحقا علمنا أن سر إصراره على الالتحاق بالمعهد المذكور، ليس فقط مقرراته الدراسية المتفقة مع روحه المتطلعة لخدمة مجتمعه وناسه، وإنما أيضا شعوره بأن الانتقال إلى معهد يوفر السكن ويمنح راتبا سوف يسقط عن كاهل شقيقه الأكبر عبء إيوائه والإنفاق عليه لسنوات أخرى.
فورتي ناين
ولد عبدالرحمن بن صالح بن عبداللطيف بن صالح المجحم بفريج الحوطة من حي النعاثل من مدينة الهفوف بالأحساء في 29 أبريل 1949، وهو ابن لأسرة متواضعة الحال كان ربها، المتزوج من سيدة من عائلة الدريس، يعمل في الغوص ومن ثم في الزراعة والفلاحة، لكنه كان حافظا للروايات والحكايات وتاريخ أنساب منطقته. كان ترتيب عبدالرحمن هو الخامس من بين سبعة أبناء (ثلاثة ذكور وثلاث إناث)، إذ سبقه في الميلاد من الذكور شقيقه محمد الذي كان من أوائل السعوديين الذين التحقوا للعمل بشركة أرامكو النفطية في بقيق ومن ثم في الظهران بدليل أنه كان يُعرف في أوساط الشركة بـ«فورتي ناين»، في إشارة إلى رقمه الوظيفي، أي أنه كان الموظف السعودي الـ49 ممن التحقوا بأرامكو. وتلاه شقيقه الأصغر المرحوم عبدالله المجحم الذي عمل في التدريس. ومحمد المجحم، لمن لا يعرفه، كان موظفا مجتهدا استطاع سريعا أن يتعلم الإنجليزية ويكيف نفسه مع بيئة عمله وينهي مقررات أرامكو الدراسية ويتسلق سلمها الوظيفي حتى حاز على وظيفة مرموقة تخللتها دورات وانتدابات عدة إلى الولايات المتحدة وهولندا. ومن الأمور المدهشة عن محمد المجحم، عدا كرمه وأريحيته وطراوة حديثه، أنه بسبب عشقه للغة الإنجليزية، أتى بما لم يسبقه أحد، وهو حفظ قاموس اللغة الإنجليزية من الغلاف إلى الغلاف، فصار مرجعا لنا نلجأ إليه كلما استعصى علينا شيء من مقرر الإنجليزية المدرسي، فكان يخرج إلينا بهيئته الأرستقراطية وهو يضع «بايب التدخين» بين شفتيه ليجيب على تساؤلاتنا ويشرح لنا معنى هذه المفردة الإنجليزية أو تلك وتصريفاتها واشتقاقاتها وطريقة نطقها واستعمالاتها.
وتتحدر عائلة المجحم في الأحساء -طبقا لما أخبرني به عبدالله سلمان المجحم- من نجد، وقد سكنت الأحساء منذ عام 1919 الذي عُرف بسنة المجاعة، وغيرت اسمها من المقحم إلى المجحم تكيفا مع لهجة أهل الأحساء التي تقلب فيها القاف جيما.
التحق عبدالرحمن المجحم بالتعليم عام سنة 1957 دون المرور بالكتاتيب، حيث درس الابتدائية بمدرسة المزروعية (المثنى بن حارثة لاحقا) التي تخرج فيها عام 1963، وكان ضمن أوائل الطلبة من الصف الأول إلى السادس. أما المرحلة المتوسطة فقد درسها بالمدرسة المتوسطة الحكومية بجنوب الخبر، بسبب انتقاله إلى الأخيرة من الهفوف، بُعيد وفاة والدته، للسكن مع شقيقه محمد.
تخرج صاحبنا بنجاح لافت من معهد الخدمة الاجتماعية بالرياض في مطلع السبعينات الميلادية وعاد إلى أحضان معشوقته الخبر بشوق، من بعد تجربة في الاعتماد على النفس وتكوين صداقات وطيدة مع نماذج متنوعة من أبناء وطنه لا تزال تتذكره بالخير وتشيد بخصاله وتترحم عليه كلما ورد اسمه. ومن خلال صداقتنا، تعرفت على بعض من هؤلاء ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة عبدالله العامودي ومحمد العسيلان وعبدالرحمن بالطيور. كما قادتني تلك الصداقة والرفقة إلى التعرف على عدد من أصدقائه الشخصيين من أبناء الأحساء من أمثال: العزيزين عبدالله بن صالح السهيل، وعبدالله بن عبدالرحمن العليان، وغيرهما.
ومثلما تمنى، تمّ تعيينه في بداية الأمر في وظيفة باحث أول بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في الدمام، ثم راح يصعد ويتنقل وظيفيا، فعمل في «دار التوجيه الاجتماعي» قبل أن يصبح مديرا لها، وتولى لبعض الوقت قيادة دار الأيتام ودار الأحداث قبل أن يتولى إدارة شؤون تأهيل المعاقين التي وجد نفسه فيها فمنحها كل جهده وطاقته وعلمه، بل سعى جاهدا لدى رؤسائه في الرياض كي يكون للمنطقة الشرقية مركز متطور لرعاية وتأهيل المعاقين على أعلى المستويات. وبالفعل خصصت الدولة أرضا واسعة على طريق الخبر - الدمام، بجانب منشآت الحرس الوطني، لإقامة مركز حديث ضخم ومجهز بأفضل الأخصائيين والمدربين والتجهيزات والاحتياجات لخدمة ذوي الإعاقة، ووضعتْ المجحم، بعد تشييد المركز وتجهيزه، على رأسه ليمضي صاحبنا الجزء الأخير من حياته فيه واضعا نفسه في خدمة هذه الفئة المحرومة من الحياة الطبيعية.
من الواقع
وعلى الرغم من الساعات الطويلة، التي كان يقضيها في هذا المركز متابعا لكل صغيرة وكبيرة من أعماله وأنشطته ومتعاطفا مع مشاكل ساكنيه والمتدربين فيه ومادا يد المساعدة للأسر التي كانت تفضل إبقاء أطفالها وأبنائها المعاقين لديها مع حصولها على إعانات نقدية شهرية، فإنه كان يخصص بعض الوقت لمطالعة كل جديد في مجال عمله، وذلك من منطلق إيمانه بأن التطور من سنن الحياة وأن ما درسه من مقررات ونظريات لا بد أن يُحدّث من وقت إلى آخر، كما كان يخصص بعض الوقت لكتابة زاوية تحت عنوان «من الواقع» لصحيفة اليوم الصادرة من الدمام، وكانت هذه الزاوية ذات صلة بتخصصه وعمله الوظيفي أو تعكس مكنونات نفسه الحائرة وأمانيه الكثيرة نحو مجتمع أكثر التزاما باحتياجات المعاقين. وقد ظهرت مقالاته هذه لفترة من الزمن -قبل توقفها بسبب ضغوط العمل- وكانت تحظى بمتابعة واسعة بسبب جرأتها وصياغتها الجميلة وسلاسة مضمونها. وهذه الخاصية في مقالات المجحم كانت ناجمة دون أدنى شك من تبحره في اللغة العربية. فبقدر ما كان شقيقه الأكبر محمد المجحم ضليعا في الإنجليزية كان عبدالرحمن متبحرا ومتفوقا في اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة وتعبيرا، بحيث لم يكن أحد من زملاء دراسته قادرا على منافسته. وأتذكر أننا كنا نقضي الساعات في حفظ قصيدة مقررة، بينما كان هو يحفظها عن ظهر قلب في ثوان بمجرد قراءتها مرة واحدة، ما يدل على امتلاكه موهبة فريدة ساعدته في استيعاب وتذكر تواريخ ومعلومات ومقولات وقصائد وأشعار مغناة لا حصر لها. وفي سياق الحديث عن مهارته اللغوية والنحوية أتذكر أنه هو الذي تولى تنقيح أول كتاب صدر لي في عام 1990 تحت عنوان «عشرون عاما من الترحال»، كما أنه هو الذي الذي شجعني في عقد الثمانينات على دخول عالم الكتابة الصحفية عبر كتابة مقالات نقدية اجتماعية ساخرة في جريدة اليوم، بل كان يتولى بنفسه إيصالات مقالاتي إلى مكتب الجريدة بالدمام وهو في طريقه إلى عمله كيلا يتأخر نشرها.
العودة للمدارس
لم تغب مطالعة الصحف ومشاهدة البرامج التلفزيونية وملاحقة الإصدارات الجديدة وقراءة الكتب المتنوعة عن ساعات المجحم اليومية، حيث كان يخصص لها بضع ساعات من وقته المزدحم. وحينما افترقنا بذهابي إلى بيروت لمواصلة دراستي الجامعية في مطلع السبعينات، كان يكاتبني بصفة دائمة، ويكلفني بأن أحضر له في إجازاتي هذا الكتاب أو ذاك، فكنت اجتهد في تلبية طلبه رغم كل الصعاب التي كانت تحيط آنذاك بعملية إدخال المطبوعات إلى السعودية. وأتذكر أنه كان معنيا في تلك الفترة بالحصول على مؤلفات رواد في علم الاجتماع والجريمة وجنوح الأحداث من أمثال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، وعالم الاجتماع الفرنسي الآخر أوغست كونت وزميليهما الإنجليزي هربرت سبنسر والألماني ماكس فيبر. على أن أجمل ساعاته اليومية كان في أواخر الليل، حينما كان يختلي بنفسه لقراءة كتاب مع فنجان شاي مطبوخ ثقيل وسيجارة من نوع «كرافن إيه»، وأغنية من بين مئات أغاني السيدة أم كلثوم التي كان يحتفظ بها في أشرطة كاسيت ويحفظ كلماتها عن ظهر قلب.
في عقد الثمانينات، قرر المجحم أن يعود إلى مقاعد الدراسة، وكأنما اكتشف فجأة أنه لا غنى عن تعزيز تحصيله العلمي بشهادة جامعية، فاختار الالتحاق بكلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة لنيل ليسانس علم الاجتماع. لم يكن المجحم في حاجة لبذل مجهود كبير لنيل الدرجة الجامعية. فقد كانت خبرته ومطالعاته ومشاركاته في اجتماعات ومؤتمرات محلية وإقليمية، معطوفة على ملكاته الفردية لجهة سرعة الاستيعاب والتذكر كفيلة بإتمام دراسته الجامعية دون عناء كبير وتخرجه بتفوق لافت. ليعود على إثر ذلك إلى موقعه الوظيفي في الدمام مع حصوله على ترقية مستحقة بمرتبة مدير عام بأمر من وزير العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك الدكتور علي بن إبراهيم النملة.
عدو المظاهر الفارغة
بدا المجحم في هذه الفترة سعيدا بشهادته الجامعية، كسعادته يوم أن اقترن في منتصف السبعينات بكريمة رجل فاضل من رجالات الخبر هو العم عبدالوهاب السويدان، وكسعادته يوم ميلاد ابنتيه الغاليتين راوية ونورة، ويوم أن استقل بسكنه للمرة الأولى في شقة متواضعة بشارع الملك فهد بالخبر، ويوم أن اشترى سيارة صغيرة خاصة، ويوم أن قرر مرافقتي في رحلة استجمام إلى اليونان.. أو بلاد أرسطو وأفلاطون وسقراط كما كان يحلو له تسميتها. كانت أحلامه الشخصية، على خلاف أحلامه العامة، بسيطة، وكان عدوا للمظاهر الفارغة التي يختفي وراءها قليلو العلم والثقافة، فلم يسع مثلا إلى شراء أو بناء منزل خاص به، ولم تؤثر فيه حمى تملك الأراضي والعقارات في حقبة الطفرة النفطية التي شهدت مضاربات حولت العديد من معارفة وأصدقائه إلى أثرياء وملاك في غمضة عين. كانت فلسفته أن الأغلبية العظمى من سكان كوكب الأرض ليسوا من فئة الملاك، فلماذا يشذ عنهم؟. وكنت أناكفه بالقول إن الأغلبية العظمى من سكان الأرض لم يكملوا تعليمهم فلماذا لم تقتف أثرهم؟ ولأنه كان يمتلك مشاعر الشاعر والفنان فقد كان أيضا عدوا للفوضى والتسيب واللامبالاة والفساد والغلو والتطرف والنفاق، إذ كانت تزعجه مثل هذه المظاهر وتؤرقه وتوتره.
وتشاء الأقدار وإرادة المولى -عزّ وجل- أن يكون المجحم في البحرين، التي أحبها وأحب أهلها منذ شبابه المبكر، حينما أصيب في عام 2001 بجلطة دماغية مفاجئة نقل على إثرها إلى مجمع السلمانية الطبي للعلاج. كنتُ وقتها في لندن فسارعت، بمجرد علمي بالخبر المؤلم، بالعودة إلى البحرين للبقاء بجانبه. وكم آلمني أن أرى الرجل الفصيح المفوه غير قادر على النطق، وأن أشاهد من كان شعلة في النشاط والحركة ملقى على سريره لا يستطيع الحراك، بل تألمت أكثر حينما اكتشفت أن صاحب الذاكرة الحديدية لا يتذكر شيئا مما كان بيننا.
شخصية كريمة ودودة مفعمة بالنشاط والحيوية
مضت الأيام وهو على تلك الحالة لا يستجيب للعلاج رغم الرعاية الخاصة التي أمر بها مشكورا وزير الصحة البحريني آنذاك الصديق الدكتور فيصل الموسوي بناء على طلب تقدمت به إليه. ومن جانبي كنت أزوره يوميا محاولا، على الأقل، تنشيط ذاكرته، من خلال محاورته كتابة وإشارة، لكن دون جدوى. لاحقا، حينما استقرت حالته قليلا وصار قادرا على الحركة وتذكر صور باهتة من الماضي البعيد دون الماضي القريب، قرر شقيقه محمد نقله بعربة إسعاف إلى الخبر لمواصلة علاجه بمستشفى الخبر التعليمي الذي بقي فيه لمدة شهرين دون جدوى، الأمر الذي دفع عائلته إلى نقله للمنزل مع تخصيص ممرضتين لرعايته. واستمر الوضع على هذه الحال إلى أن جاءت موافقة الجهات الرسمية على نقله إلى ألمانيا للعلاج على نفقة الدولة. وبالفعل سافر المجحم مع شقيقه إلى ألمانيا، لكنه أصيب هناك بتسمم في الدم فتوفي -رحمه الله- في مارس عام 2002، وتمّ نقل جثمانه إلى الخبر حيث صُلي عليه بمسجد النور ودفن بحضور جمع غفير من أصدقائه ومعارفه الكثر.
وهكذا انطوت صفحة شخصية كريمة ودودة مفعمة بالنشاط والحيوية، ورجل موسوعي في تخصصه ومتبحر في غير تخصصه، ومسؤول خلوق نزيه، ومواطن زاهد قنوع، وصديق مخلص طيب المعشر يأسر مستمعيه بأحاديثه ونوادره ويشيع البهجة والسرور أينما حلّ بتعليقاته وقفشاته. رحم الله ابن الخبر البار عبدالرحمن صالح المجحم وغفر له وجزاه خيرا بقدر ما قدم لوطنه ومجتمعه وناسه من صالح الأعمال.