ثقافة وفن

الترهوني: الفضاء الافتراضي مشبوه

حاوره: علي الرباعيAl_ARobai@

الكتابة الروائية، ذاكرة للمستقبل، والسرد فنّ يمارسه كثرة، ولا يجيده إلا قِلّة، منهم الروائي الليبي محمد الترهوني، الذي أيقظ البحر من سباته، وقطف من النجوم ما يرصّع به سماوات مريديه، يأخذنا بـ(الأيدي الحزينة) ليقف بنا، في رحاب (تاء مربوطة) ويدخلنا عالم (الكتابة بالأشياء) ليواجه مخيّلتنا ويبدد حيرتنا بـ(اعترافات دانتي)، ويزودنا قبل الختام بتحليل أنثروبولوجي لـ(العقلية العربية بين ماضوية التأسيس وحداثة البناء)، وللترهوني فلسفة عميقة في نظرته للحياة والتفاعلات والسلوك البشري، وبقدر اتساع ثقافته، تسمو أخلاقه، وهذا بيت القصيد، وهنا نص حوارنا معه:

• ماذا تعني لكَ الكتابة في زمن تضاءلت فيهِ القراءة؟

•• بالنسبةِ لي الكتابة هي؛ عدم اليأس، في وسطِ عالمٍ لا يسمح للإنسان، إلا بِلعق جراحهِ. استطاعت الكتابة، أنّ تضمن استمرارها من خلال تأكيدها أنها هي وحدها من تُمارس فنّ عدم اليأس، ولا يمكن على أيةِ حالٍ تفسير هذا الواقع الغادر الذي نعيشهُ اليوم، إلا بمساعدة كلمات تصنع دوامةً كبيرة من المعنى، فالعالم أصبح يقدم لنا وصفات جاهزة لكل شيء، وأصبح يفرض علينا هذهِ الوصفات من خلال منطق مهيمن وهو منطق الصورة، ولكن هذا لا يمنعني ككاتب من المجازفة، وإلقاءِ نظرةٍ على هذه الوصفات من الداخل. نعم الكتابة في عالم لم يعد مُنتشياً بالأدب أمر صعب ومرهق، ميشيل ريفربيل قال: «أنا أكتب؛ لأن لا أحد يستمع إليَّ»، هذا اليأس من الاستماع يجعلني أخاطر بكتابة نفسي وأنا لا أدري إذا ما كانت الكلمات التي كتبتها ستكون سبباً لتوجيه الاتهام إليَّ أو إبراء ذمتي أمام التاريخ والناس، الكاتب يكتب لقارئ لا يدري إذا ما كان سيتجهّم، يدير رأسهُ بعيداً عن الصفحة، يرمي بالكتاب من أقرب نافذة، ومع ذلكَ علينا المحاولة، وتجنب السخرية ومواجهة الخوف من الإهمال.

• ما الشرارة الأولى لانبعاث الإلهام؟

•• الإلهام سيدة تلبس فستاناً جميلاً وباروكة في الحفلات، أما عندما تكون وحدكَ فهي تتحول إلى وحش يكسر ركبتيكَ قبل الوصول إلى الكلمة المناسبة، هذه السيّدة لا وجود لها إلا في خيال القراء، أما الحقيقة فتقول إنّ هناك التجربة، والخيال لا أكثر ولا أقل. الأفكار يمكن أن تأتي في أي وقت، في لحظة خمول، في حلّم يقظة مضحك، في نوبة غضبٍ، أو عند الصراخ بصوت عالٍ، ومهمة الكاتب إضافة تفاصيل كثيرة لهذا الحلم، وجعله أكثر واقعيةً وتشويقاً، المهم أن تكون جاهزاً عند ظهور شعاع الفكرة في سماء داكنة، وتشبه الجمال المتكبر، قد أجلّس ألف عاماً على كرسي أمام الشاشة، ولوحة المفاتيح، ولا يحدث ما أتمناه، وقد أُقابل شخصاً في الشارع فأشعر بوهج عظيم في رأسي. «فرجينيا وولف» كتبت السيدة دالاوي، ليس بسبب الإلهام الذي هم في أُذنها، بل لأنَّ هناك سيدة في الواقع هي السيدة دالاوي، بغض النظر عن اسمها الحقيقي.

• هل لكَ آباء مؤسسون؟ من هم؟

•• كل الكُتّاب في العالم يمكن أن أعتبرهم، أباء مؤسسين لمسيرتي الأدبية، لكن بعد النظرة الفاحصة للأمر أجدُّ نفسي أقرب إلى موضوع التأثر بكتَّاب معينين، ولا أعتبرهم آباء مؤسسين. هناك شعرية في كتابات بعض الكتَّاب تجعلها مزعجة بشكل حميّم، شعرية قادرة على تحدي تاريخ الأدب، ونجاح النقد في القرن الماضي، رولان بارت، جاك دريدا، جيل دولوز، ميشيل فوكو، هذه بعض الأسماء المبهرة التي تدعوك إلى أن تضع نفسكَ وسط اللعبة، وسط مغامرة طفولية، هؤلاء دعوة صريحة للتخلّي عن نفسكَ، دعوة لأنّ تضل طريقكَ بمحض إرادتكَ، وأن تتبع مساراً غريباً دون قلق أو إحراج، الأهم من هذه الأسماء هي أسماء العلوم الأخرى، التي بفضلها تصبح كاتباً جيداً، التاريخ، الجغرافيا، الأنثروبولوجيا، الفلسفة، علم النفس، الخروج من الأدب إليها، وتذوق هذهِ العلوم هو ما يجعل نصك فاصلاً طائشاً ومأوى غريباً.

• ما الذي تنتظره إثر انتهاء الكتابة؟

•• أنتظر الغوص في الفراغ، أنتظر أن أتحول إلى زهرة في إناء، أنتظر أن أخرج مني، وأستلقي في حفرة بعيداً عني، لأنني والنص الذي انتهيت منهُ قطعنا علاقتنا ببعضنا، لم نعد ننجذب لبعضنا بقوة الشوق، أنا وهو كنا نحلم بأيام ذهبية أطول كما لو كان هذا ممكناً، لكن في لحظةٍ ما نظرنا ببرود إلى بعضنا البعض، وذهبنا في مسارات مختلفة، وعند العودة والنظر إليهِ لا أجد فيهِ سوى ملاك شاحب بعيون جميلة.

• كيف هي علاقتك بالتاريخ؟

•• الحقيقة هي أنني واقع في حب التاريخ، أنا مُغرم بالتاريخ الذي يشبهُ امرأةً جميلة بشكل مفرط، وحزينة لأنها؛ دائماً ما تتأمل فناء العالم المليء بالقمامة، التاريخ هو خيوط العنكبوت الرقيقة، والطويلة التي نجد في نهايتها آخر الحكاية. أنا مفتون بالتاريخ؛ لأنه يدعي أنه لا ينتج خيالاً بل ماضياً حقيقياً، يا لهُ من ادعاء شجاع، وخبيث في الوقت نفسهِ، ومع ذلكَ يبقى التاريخ لامعاً وفعالاً ومقنعاً بشكل ملّفت، لم أتوقف يوماً عن الدهشة أمام تاريخ بلادي، وسحر أساطيرها، لم أتوقف يوماً عن رؤية تاريخها، وهو يلبس عباءة البطل، تلكَ العباءة التي تشبهُ العباءة التي يلبسها العملاق الليبي أنتيوس أثناء دفاعهِ عن ليبيا ضد الغرباء.

• لماذا «اعترافات دانتي»؟

•• لأن دانتي هو الوضوح الفخور لذروةِ المعاناة بسبب كتمان الحب، تحدث دانتي عن كل شيء إلا عن «بياتريس»، تحدث عن السياسة والأدب، عن الخيانة والوفاء، عن الوطن والمنفى، لكن إذا تعلق الأمر بـ«بياتريس دانتي»، يهرب مثل قط بري. لم يعترف دانتي بشيء عن فشلهِ في كتابة الشعر المقفى، ولا عن فشلهِ كسياسي في مدينتهِ، ولم يعترف بحبهِ لبياتريس. كان على شخص ما أن يعترف بلسان دانتي دون خوف من دخول جحيمهِ، ودون حبٍّ في جنيتهِ الحمراء مثل تفاحة.

• هل رسمت لمشروع سردي؟

•• اعتقد أن ليبيا هي مشروعيّ السردي، هذهِ البلاد التي تشبه المعجزة الحلوة، لا يعرفها الآخر إلا بشكل محزن، وملّتوٍ وليس له علاقة بالحقيقة. التاريخ نفسهُ يتآمر على هذهِ البلاد، ويغمض عينيهِ عن كل فضيلة فيها، في حين أنّ حضارة الإغريق قد رضعت كل الحكايات، والأساطير، والديانات، والرموز الليبية بدايةً من أثينا التي ولدت في بنغازي الحالية إلى ميدوزا، وبوسيدون وأطلس إلى أن تصل إلى الأمازونات، ونهر الليثي وغيرها، وفي كل مرة تقترب فيها كتابة التاريخ من ليبيا تصبح ضيّقة الأفق وغير جذابة، ومشروعي هو إعادة البريق لهذا التاريخ من خلال السرد الأدبي.

• كيف حال الثقافة الليبية؟

•• الثقافة الليبية سقطت في براثن البلى، وليست موجودة في خطة تاريخ الثقافة، بكل تأكيد لم تكن يوماً جميلةً مثل طفل بشعر أشقر، لكنها كانت أفضل حالاً من اليوم. الثقافة في ليبيا تعاني لأنها تُستقبل بطريقة خشنة من قبل أغلب الناس، لا يعترف أحد بدورها، والمثقفون الحقيقيون يقفون وسط عاصفة هوجاء من الزيف والكذب.

• لماذا تراجع الدور الثقافي لحساب أدوار أخرى، ومن يتحمل مسؤولية إنعاش النخبة؟

•• تدمير كل شيء لخلق شيء جديد يحتاج إلى قربان، وهذا القربان هو الثقافة التي تشبه عجلة من نار في طريق التدمير، والخراب. لقد قام العالم الحديث في ليلة مرصعة بالنجوم بالدوس على الثقافة الجادة، وقد وقعت كل المجتمعات في الفِخاخ العقلية للنظام العالمي الجديد، هناكَ اليوم صورة خادعة، ومراوغة ومتلاعبة للثقافة، وأصبح خطاب الثقافة الجادة من وجهة نظر هذا النظام خطاباً تخريبياً، وقد رسخ ذلكَ بمنطق مدروس، أما النخبة فهي كلمة مهلهلة، وإذا أردنا فهمها فعلينا تسمية العالم من الصفر.

• ماذا يعني لكَ إبراهيم الكوني، وأحمد إبراهيم الفقيه، الصادق النيهوم؟

•• هذه أسماء كبيرة في تاريخ الأدب الليبي، وهم عتبة تجاوزها يمثل شرطاً للأدب الجديد في ليبيا.

• بماذا تصف الفضاء الافتراضي؟ وما مدى رضاك عنه؟ وما مدى حيادهِ؟

•• الفضاء الافتراضي هو مكان تسفيه وتبسيط كل شيء في حياتنا؛ ولهذا هو مشبوه، فهذه الحرية المطلقة في هذا الفضاء بموقعها الفريد حطمت المعايير، الآن وبسبب هذا الفضاء لدينا واقع مصنوع من الوهم، نحن نسلم أنفسنا لهُ بشكل قسري، وهزيل، وهش؛ لأنهُ مثل نقار الخشب لا يتوقف عن التدخل في حياتنا، لقد فقد العالم مرونتهُ، وبصره بسبب لكمة عمياء من هذا العالم.

• هل تغيّرت قاعدة المراكز والأطراف؟

••على المستوى السياسي لم تتغير، لكن على المستوى الأدبي والفني حدث تغيير جوهري، وسنجد الدليل إذا راجعنا جائزة نوبل، والأوسكار في السنوات الأخيرة.

• لمن قرأت وتقرأ من الكُتّاب السعوديين؟

•• لا شك أن عبدالرحمن منيّف جزء من الوجدان الأدبي العربي، وعلامة فارقة في تاريخ الرواية العربية، ومن الكتَّاب غازي القصيبي، وعبده خال، ومنذر القباني.