ثقافة وفن

«ثلاثون وردة»

حنان الحربش

لم أفكر قبلاً، باستخلاص حكم الأيام والموعظة التي تجري على ألسنة السنين.. أعرف أن العمر ليس محض رقم.. ولا هو محض ذكرى.. وإنما هو روح كليّة وذاكرة قد تبدو انتقائية ولكن كل ما فيها مُسجّل على صفحات القلب والوجدان كبصمات خفية..

حريّ بي وأنا في مضمار الثلاثين.. أن أتوقف لبرهة، وأعيد ترتيب الأيام، وأنظر في ثنايا التجارب، وأحسن قيافة الأثر..

حريّ بي.. أن أمسك بلجام اندفاعي المتفجر..

لكي أهدّئ الشوق الذي يطفر في دمي حباً للناس وللحياة.. للصداقة للتجارب والسفر..

حريّ بي أن أعتلي قمّة جبل مقدّس كجبل «آثوس» حيث تنسكب أشعة الشمس في وعاء روحي.. لتصفو من شوائب الأيام وتطهر من أدران الكدر..

حريّ بي أن انتزع «الحكمة» وأفهم الدرس.. وأنشر أنوار طفولة بريئة عشتها في ظلال الحب.. وصبا متمرد كخفق أجنحة الحمام.. ونُضج.. كان نتيجة عراك خضته مع الأيام...

فأي حياة هذه التي عشتها، وأي عمر هذا الذي أسميه عمري، اغفاءة جفن يطرب للحلم الجميل..

وجفول ظبي من غوائل الأيام..

وتنهيدة حبّ عذري.. وغضبة بركان ثائر..

وحماقات طفلة لم تحكم الكيل بالمكيال..

وآمال درويش لا يعرف في الحياة سوى رقصته المولوية..

أما وقد انقشع عن الأيام غلالتها الوضّاءة، وبان عن التبسّم أنياب الغضب، وافترق الأصدقاء، وانقطع الوصال.. وكشرت الحضارة عن أنيابها، وضيّقت علينا الخناق بقبضتها الحديدية وظللت رؤوسنا غمامات محملة بالكبريت، فإني وبكل الأسى الذي يقطر من جبين الوردة التي تهددها مدن الاسمنت المسلح.. وبما تحمله من قيم ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.. أقول إن الحياة ليست جنّة.. وأن الأصدقاء يرحلون.. وأن الودّ يتقلّب.. والمبادئ تتغير.. والآمال التي نعلقها على الكثيرين قد تطأطئ رؤوسها.. وتنكس أعلامها متوشحه رداء الخيبة والخذلان.

قد يخذلك من تظن بأنهم أخلص خلصائك.. وقد يتواطأ عليك من ظننت بأنهم عصبتك التي تقيك مغبّة الأيام، فالناس مدفوعة ببواعث نجهلها.. وهم يقدمون مصالحهم ويسعون نحو مآثرهم.. ولن يتوانى البعض عن تقديم أصدقائهم وأقربائهم في مذبح الأضحيات لطمع أو طموح، إن الايثار خصلة نبيلة، ولن يؤثرنا على نفسه سوى هؤلاء الذين رزقنا الله محبتهم محبة من معين النقاء.. محبة بقلوب الأنبياء..

ثم إن الناس، معادن وأجناس، أقربهم إلى الطبيعة أرقهم سريرة.. أما أهل المال والأعمال فهم إلى أمراض النفوس أقرب.. قد تكون صحبة البسيط ألذّ إلى قلبك من صحبة الطامح الطامع.. ورضاه أحب إلى قلبك من لهاث من يسعى وراء المناصب والمطامع..

أقول لنفسي دائماً: خذي الدنيا بما فيها بعين البساطة وتذكري بأن مشكلاتك أمام الموت، المرض، الفقر، والقهر، صغيرة ضئيلة وأن العافية نعمة لا تقدر بثمن، ومن أصبح بصحة في بدنه، كما في قول النبي ّ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وأن الجهل والرفاهية والفراغ هي أبواب الشرور، فلا تركني للفراغ؛ لكي لا يدس في أعماقك شروره وسمومه، انشغلي بهواية تضفي على الحياة جمالا ومعنى، ولا تنشغلي بالناس وحياة الناس، واتقِ شرهم، وليكن نصب عينيك دائما أن أطول الناس نفساً في الخصومة، وأقدرهم على افتعال المشكلات، هم من لم يدركوا كنه الحياة ولم يشقوا بآلامها، فخذي حذرك ولا تتعمقي في علاقة قد تأخذكِ نحو السخافة والبلادة، سخافة الفكر وبلادة الشعور.

تذكري هذه المقولة: «من الجيّد أن تتحدث عما تُحب»، لا تنحبسي داخل أسيجة التخصص لئلا يضيق بك الأفق الرحب، نوّعي معارفك كما تنوعي أصدقائك، ولا تقفي أمام حاجز العمر مطوّلاً.. فليكن لديك من كل فئة عمرية صديق، كما يكون لديك من كل بلد صاحب..!

وإذا ما شعرتِ بالغربة بين الناس، فالكتاب خير مؤنس وجليس، اقرئي في كتب السير الذاتية لتشرق في أعماقك شموس التجربة، وتربت على كتفيّك أكفّ العاطفة، فأنت في غربتك ِلست وحيدة.. وفي وحدتك لست غريبة.. وليس أجمل من الأدباء والفلاسفة عندما يصبّون خلاصة أنفسهم على الورق، روعة الفكر وجمال البيان..

ولا تسمحي للرياح العابثة أن تبعثرك، لا يغرنّك الاستقلال الذي يفضي إلى الشتات، ولا التفرّد الذي يفضي إلى القطيعة، ولا تجعلي «التخلي» جزءاً من الطبيعة، فيهن عليك الذين عرفتيهم وعرفوك، تمسّكي بقيم الحق والخير والجمال، تمسكي بالعائلة وتمسّكي بالعاطفة، مهما نزع العالم إلى «الترك» تشبثي بمن تحبينهم.. لا تكوني مُستهلكة حتى لا تهلكي.. تعلمي فن الانتقاء وفن الحفاظ على مقتنياتك.. لا تسمحي لثقافة السوق أن تنزلك إلى مستوى السلع التي تعرض على الرفوف، فأنت لست سلعة لست مجرد جسم يحتاج إلى مبضع الجراح أو تجميل إبرة.