موقف الحنابلة من الطبري.. وحقيقة دوافع المحنة
الجمعة / 14 / ربيع الثاني / 1443 هـ الجمعة 19 نوفمبر 2021 01:31
عبدالله الرشيد
تثير محنة الطبري مع الحنابلة الكثير من الأسئلة حول دوافعها، والأسباب التي أدت لتفاقمها، الأمر الذي وصل إلى الاعتداء الجسدي ومحاصرته في منزله من قبل «حنابلة بغداد» الغاضبين! وتزداد التساؤلات إلحاحاً حين نعلم أن الحنابلة في بغداد في القرن الثاني والثالث الهجري لم يكونوا أكثرية، بل كانت عاصمة الخلافة العباسية تعج بأطياف متعددة من المذاهب الفقهية كالحنفية والشافعية، ومن الطوائف والفرق كالمعتزلة والأشاعرة وغيرهم ممن كانت بينهم وبين الحنابلة سجالات قوية، ومع ذلك لم تذكر السير والأخبار أن رموز هؤلاء المذاهب والطوائف قد حدث لهم مثل ما حدث مع الطبري.. ولذلك فإن تاج الدين السبكي في طبقاته يشكك في قدرة «حنابلة بغداد» على منع الطبري من إقامة دروسه، فلم تكن شوكتهم تمكنهم من ذلك –حسب رأيه-، «بل إن مكانة الطبري كانت أعظم من أن يقدروا على منعه من الظهور» ويعزو اعتكافه في منزله إلى ابتعاده عن المعترضين، «ولم يكن يأذن في لقائه والاجتماع به إلا من يختارهم ويعرف أنهم على السنة، فكان لا يخشى في الله لومة لائم».
بل ذهب المستشرق الألماني فردريك كرن، الذي صحح وطبع كتاب الطبري «اختلاف الفقهاء» (كما مر معنا في المقال السابق) إلى أن أكثر ما يُروى حول هذه المحنة غير ثابت، فهو يرى أن «أكثر ما يحكى في ذلك من الحكايات ليس بشيء لاختلاف الرواة فيها».
لقد اُستخدمت قصة محنة الطبري مع الحنابلة في سياق المزايدات المذهبية، وأصبحت توظف عند البعض كدليل لإثبات «تشدد الحنابلة»، وأنهم يلجؤون للعنف مع من يختلفون معه، رغم أن قراءة بسيطة لسيرة مؤسس المذهب، أحمد بن حنبل، تكشف لنا أن قيم ومبادئ الرجل الأول أبعد ما تكون عن هذه التصرفات، فهو ينأى بنفسه عن الصراعات السياسية أو المذهبية، ويرفض كل ما من شأنه إثارة الفوضى أو الاضطراب، بل إنه غضب بشدة، ووبخ بعض أتباعه حين حاولوا التمرد، والخروج بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث كان أحمد يؤصل بوضوح لمبدأ «السمع والطاعة لولاة الأمر»، وأن حفظ الاستقرار وحماية البلاد من الفتنة هي من أهم الواجبات والمصالح التي يجب رعايتها.
إذن كيف حدثت محنة الطبري مع الحنابلة؟ قبل هذا السؤال.. يرد تساؤل آخر أيضاً، هل كانت هذه الواقعة تعبر حقاً عن موقف عموم الحنابلة؟ أم أنها حادث عرضي له دوافع نفسية واجتماعية؟ وما موقف الحنابلة المتأخرين من الطبري، وكيف نظروا إليه؟ حين نطالع آراء الحنابلة الذين جاءوا بعد الطبري، ونتأمل مواقف أهل الحديث، والعلماء والمؤرخين المقربين من تيار الحنابلة، نجد أن الكثير منهم يجلّون الإمام الطبري، ويحترمون علمه ومكانته، وكتبه ومؤلفاته معتبرة أصيلة لديهم، بل عبّر عدد منهم بكل وضوح عن إدانة شديدة اللهجة لهذه المحنة التي تعرض لها الطبري من قبل «مجموعة من الغوغاء والرعاع».
فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية يصف كتاب تفسير الطبري بأنه أهم وأصح كتاب في التفسير، يقول: «وأما التفاسير التي في أيدي الناس: فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي».
اثنى ابن تيمية في مؤلفاته كثيراً على الطبري، وصفه بأنه من العلماء الكبار، وعده في عداد أئمة الإسلام العظام، كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم، وذكره كأحد أهم العلماء المجتهدين المشهورين في القرون الأولى.
أما العلماء المعاصرون من الحنابلة وغيرهم، فقد أفاضوا كثيراً في الثناء على الإمام الطبري، وتبيين مكانته وقيمته العلمية، ومن ذلك ما ذكره الشيخ عبدالله بن حميد في ترجمته للطبري، حيث يقول: «من الجهابذة الأفذاذ الإمام أبو جعفر محمدُ بن جريرٍ الطبريُّ، فقد أجمع المسلمون على إمامته وجلالة قدره وسَعَة علمه، وألف في ذلك المؤلفات الكثيرة النافعة التي أثنى عليها أئمة العلماء، وذكروها ومؤلِّفَها بما هو أهل، فهو أشهر من أن يُذكَر وأَعرَفُ من أن يُنكَر».
إذن حين نتبين موقف الحنابلة المتأخرين والمعاصرين ونجد هذا الثناء والإجلال للطبري، يرد السؤال مجدداً، ماهي حقيقة دوافع المحنة، وكيف حدثت؟ تطرق أستاذ العقيدة والمذاهب علي الشبل في كتاب له عن الطبري، حول حقيقة هذه المحنة، والبحث في دوافعها، إلا أنه ختم كلامها قائلا: «أقول بصراحة: إن أسباب تلك المحنة لم تزل بعدُ غامضة الدوافع والنتائج والحيثيات، وعليه فلا نطيل فيها»، والحقيقة أن البحث في تفاصيل هذه المحنة، ومحاولة التوصل إلى رواية منطقية أو تعليل متماسك، هو من الصعوبة بمكان، لنظراً لتضارب الروايات والأخبار، وكثرة اللبس واللغط فيها.
لكن الباحث عمار الأركاني في كتاب له بعنوان «كائِنةُ الحنابِلة مَع الإمام الطبريِّ»، حاول أن يفسر لنا الأسباب الخفية وراء محنة الطبري، وكيف أن منشأها هو تحاسد الأقران وتنافسهم، يقول: «وقع بين الإمام الطبري، والإمام أبي بكر عبدالله بن أبي داود ما يقع بين الأقران من المشاحنات والمخاصمات، فقد ألَّف الإمام الطبريّ كتابًا في فضائل القرآن، فما كان من الإمام أبي بكر إلا أن ألَّف في ذلك -ولعله كتابه المسمى بـ(المصاحف)-. وسمع الإمام الطبري أن الإمام أبا بكر يملي الناس في فضائل عليّ، فحدَّث بذلك الإمام الطبريّ وألف في فضائل عليّ، وافتتحه بذكر فضائل الخلفاء الراشدين، ثم ذكر فضائل علي. ومن بين الأحاديث التي ذكرها حديث (غدير خم) الشهير، وأفاض في ذكر طرقه واحتجَّ لتصحيحه، فألَّف أبو بكر في تضعيف ذلك الحديث، وكان هذا أحدَ أوجه اتهام الطبريّ بالتشيُّع».
ثم تفاقم الأمر، «وشنَّ أبوبكر حملةً شعواء على قرينه، وجيَّش أتباعه خاصَّة -حيث كان رأس الحنابلة في بغداد- على الإمام الطبري، ولفَّقوا له التهمَ والافتراءات، وتتبعوا عثراته وزلَّاته، وجعلوا من مناقبه مثالبَ بتبريراتهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم، فتارة زعموا أنه شيعي، وتارة نسبوه إلى الزندقة والإلحاد. بل وصل الأمر أن وشى أبو بكر بالإمام الطبري إلى نصر الحاجب فذكر عنه أشياء، منها: أنه نسبه إلى رأي الجهم».
يوضح الأركاني أن من «تبِعات هذا التشاحُن بين الأقران أن شُحن أتباع الإمام أبي بكر من الحنابلة على الإمام الطبري، وراحوا يتتبَّعونه ويبحثون عن كلِّ شيء يذمُّونه به، ويشنعون عليه عند عامة الناس، وكان من ذلك أنه ألف كتابه (اختلاف الفقهاء)، ولم يسبق أن صنّف مثله، وأورد فيه مذاهبَ الفقهاء السابقين كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وغيرهم، ولكنه لم يورد ضمنَهم الإمام أحمد بن حنبل، وهذا ما استغله الشانئون عليه، فألَّبوا عليه العامة والناس».
ومن خلال سيرة أبو بكر بن أبي داود، نجد أن المكانة الشعبية التي أخذها في نفوس العامة ربما جاءت من سمعة أبيه، فهو ابن المحدث الكبير أبو داود سليمان بن الأشعث، صاحب السنن، المشهورة بـ«سنن أبي داود»، وهو أحد كتب الحديث الستة، والسنن الأربعة.
في حين أن علماء الجرح والتعديل انتقدوا كثيراً أبا بكر بن أبي داود، فهو «كثير الخطأ في الكلام على الحديث»، كما يقول الدارقطني، بل إن علي بن الحسين بن الجنيد يقول: سَمعتُ أبا داود السجستاني يقول: ابني عَبد الله هذا كذاب.
وللحديث بقية.
بل ذهب المستشرق الألماني فردريك كرن، الذي صحح وطبع كتاب الطبري «اختلاف الفقهاء» (كما مر معنا في المقال السابق) إلى أن أكثر ما يُروى حول هذه المحنة غير ثابت، فهو يرى أن «أكثر ما يحكى في ذلك من الحكايات ليس بشيء لاختلاف الرواة فيها».
لقد اُستخدمت قصة محنة الطبري مع الحنابلة في سياق المزايدات المذهبية، وأصبحت توظف عند البعض كدليل لإثبات «تشدد الحنابلة»، وأنهم يلجؤون للعنف مع من يختلفون معه، رغم أن قراءة بسيطة لسيرة مؤسس المذهب، أحمد بن حنبل، تكشف لنا أن قيم ومبادئ الرجل الأول أبعد ما تكون عن هذه التصرفات، فهو ينأى بنفسه عن الصراعات السياسية أو المذهبية، ويرفض كل ما من شأنه إثارة الفوضى أو الاضطراب، بل إنه غضب بشدة، ووبخ بعض أتباعه حين حاولوا التمرد، والخروج بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث كان أحمد يؤصل بوضوح لمبدأ «السمع والطاعة لولاة الأمر»، وأن حفظ الاستقرار وحماية البلاد من الفتنة هي من أهم الواجبات والمصالح التي يجب رعايتها.
إذن كيف حدثت محنة الطبري مع الحنابلة؟ قبل هذا السؤال.. يرد تساؤل آخر أيضاً، هل كانت هذه الواقعة تعبر حقاً عن موقف عموم الحنابلة؟ أم أنها حادث عرضي له دوافع نفسية واجتماعية؟ وما موقف الحنابلة المتأخرين من الطبري، وكيف نظروا إليه؟ حين نطالع آراء الحنابلة الذين جاءوا بعد الطبري، ونتأمل مواقف أهل الحديث، والعلماء والمؤرخين المقربين من تيار الحنابلة، نجد أن الكثير منهم يجلّون الإمام الطبري، ويحترمون علمه ومكانته، وكتبه ومؤلفاته معتبرة أصيلة لديهم، بل عبّر عدد منهم بكل وضوح عن إدانة شديدة اللهجة لهذه المحنة التي تعرض لها الطبري من قبل «مجموعة من الغوغاء والرعاع».
فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية يصف كتاب تفسير الطبري بأنه أهم وأصح كتاب في التفسير، يقول: «وأما التفاسير التي في أيدي الناس: فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي».
اثنى ابن تيمية في مؤلفاته كثيراً على الطبري، وصفه بأنه من العلماء الكبار، وعده في عداد أئمة الإسلام العظام، كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم، وذكره كأحد أهم العلماء المجتهدين المشهورين في القرون الأولى.
أما العلماء المعاصرون من الحنابلة وغيرهم، فقد أفاضوا كثيراً في الثناء على الإمام الطبري، وتبيين مكانته وقيمته العلمية، ومن ذلك ما ذكره الشيخ عبدالله بن حميد في ترجمته للطبري، حيث يقول: «من الجهابذة الأفذاذ الإمام أبو جعفر محمدُ بن جريرٍ الطبريُّ، فقد أجمع المسلمون على إمامته وجلالة قدره وسَعَة علمه، وألف في ذلك المؤلفات الكثيرة النافعة التي أثنى عليها أئمة العلماء، وذكروها ومؤلِّفَها بما هو أهل، فهو أشهر من أن يُذكَر وأَعرَفُ من أن يُنكَر».
إذن حين نتبين موقف الحنابلة المتأخرين والمعاصرين ونجد هذا الثناء والإجلال للطبري، يرد السؤال مجدداً، ماهي حقيقة دوافع المحنة، وكيف حدثت؟ تطرق أستاذ العقيدة والمذاهب علي الشبل في كتاب له عن الطبري، حول حقيقة هذه المحنة، والبحث في دوافعها، إلا أنه ختم كلامها قائلا: «أقول بصراحة: إن أسباب تلك المحنة لم تزل بعدُ غامضة الدوافع والنتائج والحيثيات، وعليه فلا نطيل فيها»، والحقيقة أن البحث في تفاصيل هذه المحنة، ومحاولة التوصل إلى رواية منطقية أو تعليل متماسك، هو من الصعوبة بمكان، لنظراً لتضارب الروايات والأخبار، وكثرة اللبس واللغط فيها.
لكن الباحث عمار الأركاني في كتاب له بعنوان «كائِنةُ الحنابِلة مَع الإمام الطبريِّ»، حاول أن يفسر لنا الأسباب الخفية وراء محنة الطبري، وكيف أن منشأها هو تحاسد الأقران وتنافسهم، يقول: «وقع بين الإمام الطبري، والإمام أبي بكر عبدالله بن أبي داود ما يقع بين الأقران من المشاحنات والمخاصمات، فقد ألَّف الإمام الطبريّ كتابًا في فضائل القرآن، فما كان من الإمام أبي بكر إلا أن ألَّف في ذلك -ولعله كتابه المسمى بـ(المصاحف)-. وسمع الإمام الطبري أن الإمام أبا بكر يملي الناس في فضائل عليّ، فحدَّث بذلك الإمام الطبريّ وألف في فضائل عليّ، وافتتحه بذكر فضائل الخلفاء الراشدين، ثم ذكر فضائل علي. ومن بين الأحاديث التي ذكرها حديث (غدير خم) الشهير، وأفاض في ذكر طرقه واحتجَّ لتصحيحه، فألَّف أبو بكر في تضعيف ذلك الحديث، وكان هذا أحدَ أوجه اتهام الطبريّ بالتشيُّع».
ثم تفاقم الأمر، «وشنَّ أبوبكر حملةً شعواء على قرينه، وجيَّش أتباعه خاصَّة -حيث كان رأس الحنابلة في بغداد- على الإمام الطبري، ولفَّقوا له التهمَ والافتراءات، وتتبعوا عثراته وزلَّاته، وجعلوا من مناقبه مثالبَ بتبريراتهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم، فتارة زعموا أنه شيعي، وتارة نسبوه إلى الزندقة والإلحاد. بل وصل الأمر أن وشى أبو بكر بالإمام الطبري إلى نصر الحاجب فذكر عنه أشياء، منها: أنه نسبه إلى رأي الجهم».
يوضح الأركاني أن من «تبِعات هذا التشاحُن بين الأقران أن شُحن أتباع الإمام أبي بكر من الحنابلة على الإمام الطبري، وراحوا يتتبَّعونه ويبحثون عن كلِّ شيء يذمُّونه به، ويشنعون عليه عند عامة الناس، وكان من ذلك أنه ألف كتابه (اختلاف الفقهاء)، ولم يسبق أن صنّف مثله، وأورد فيه مذاهبَ الفقهاء السابقين كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وغيرهم، ولكنه لم يورد ضمنَهم الإمام أحمد بن حنبل، وهذا ما استغله الشانئون عليه، فألَّبوا عليه العامة والناس».
ومن خلال سيرة أبو بكر بن أبي داود، نجد أن المكانة الشعبية التي أخذها في نفوس العامة ربما جاءت من سمعة أبيه، فهو ابن المحدث الكبير أبو داود سليمان بن الأشعث، صاحب السنن، المشهورة بـ«سنن أبي داود»، وهو أحد كتب الحديث الستة، والسنن الأربعة.
في حين أن علماء الجرح والتعديل انتقدوا كثيراً أبا بكر بن أبي داود، فهو «كثير الخطأ في الكلام على الحديث»، كما يقول الدارقطني، بل إن علي بن الحسين بن الجنيد يقول: سَمعتُ أبا داود السجستاني يقول: ابني عَبد الله هذا كذاب.
وللحديث بقية.