من يطارد عصفورين يفقدهما معاً

كاظم الشبيب

هذا المثل العالمي يصور الحال في دولة جورجيا. فلا هي ابقت على روابطها الطبيعية مع روسيا, أو حاولت أن تتسالم مع محيطها كجارتها أذربيجان. ولا هي استفادت, فيما ارادته من علاقتها بالغرب, من اتفاقاتها مع أمريكا عندما جد الجد بعد سعيها للسيطرة على اقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا, وإنهاء أمرهما قبل أن يعلنا استقلالهما عنها. أما دخول روسيا بهذا الحجم الكبير في جورجيا, سياسياً وعسكرياً, فلا ينبغي استصغاره وأخذه كحادث عابر. فقد احدث الاستنفار الروسي مفاجأة للشرق كما للغرب الذي ما فتئت وسائل إعلامه تناشد العالم ايقاف تقدم الدب الروسي. ويبدو أن المفاجآت لن تتوقف. 17عاماً مضت ولم تتوقف الاهتزازات الارتدادية جراء تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي. والابواب التي ستتوالى منها تلك الارتدادات لا تزال مشرعة, بل يصعب التنبؤ بما ستأتي به الأيام القادمة من تطورات, سواء من الدول المستقلة عن روسيا أو من الأقليات التي تنتظر الفرصة للمطالبة بالاستقلال وحق تقرير المصير, وفي اضعف الحالات تطالب بحقها في حكم ذاتي. وهذا ما لا تريده روسيا التي يظهر أنها قررت ايقاف كل مسعى لتهوينها من جديد أو تمزيقها, وهو أصعب امتحان تمر به روسيا بعد استعادة عافيتها خلال السنوات الأخيرة.
فجورجيا, التي عانت من الغزو الخارجي طوال أغلب تاريخها من قبل الميلاد حتى اليوم, من قبل الرومان والفرس والبيزنطيين والأتراك السلاجقة والمغول, يقطنها أكثر من 5 ملايين نسمة, أغلبهم من المسيحيين الأورثوذوكس, حوالي ثلثينهم من الجورجيين وفيها أقلية من الروس, وغالبية الشعب من المتعلمين, ونسبة كبيرة منهم من اصحاب الشهادات العليا. وتتضمن أراضيها مقاطعة أوسيتيا الجنوبية, التي تتمتع بالحكم الذاتي منذ عام 1922 عندما انضمت جورجيا إلى الاتحاد السوفيتي. ومنذ اسقلالها عن روسيا قبل 17 سنة تقريباً وهي تميل نحو الغرب في جميع مناحي حياتها. وقد وجدت من الغرب الدعم المتواصل والتشجيع الدائم نحو هذا المنحى.
منذ 1989م والمطالب القومية بالانفصال عن روسيا لم تتوقف حلقاتها في بلدان بحر البلطيق وبلدان جبل القوقاز, بل كانت سبباً للصراع والحروب بين القوميات القاطنة في هاتين المنطقتين كما حدث بين أرمينيا وأذربيجان. والأزمة الجورجية نموذج للمشاكل التي تواجه روسيا بصورة مختلفة عن أزماتها مع الشيشان وأذربيجان.
لا يهم روسيا حجم الثمن الذي ستدفعه جراء الحرب ضد جورجيا, لأن الأهم عندها النجاح في الامتحان العملي الذي هي بصدده. فبعد تجاوزها مرحلة لملمة أوراقها الداخلية وصياغتها من جديد, وبعد بث الحياة في عروق الشعب الروسي من خلال تحسن الاوضاع الاقتصادية, وبعد إعادة بعض من هيبتها العالمية, بقي لها أن تثبت للعالم قدرتها على المنازلة الملائمة لصورتها القادمة في العالم. فهل هي صحوة مبكرة أم متأخرة؟.
الصحوة الروسية تشبه إلى حد بعيد صحوة الدببة التي يطول بياتها وسباتها, كما يقول علماء الحيوان, ولكنها تصحو بسهولة, وربما يصبح الدب على قدر كبير من النشاط خلال أيام معدودة. فروسيا التي كظمت غيظها خلال محاصرتها من قبل أمريكا طوال العقدين الماضيين, وعندما شجع الغرب واحتضن, ضمن حلف الناتو وعضوية الاتحاد الأوربي, بلدانا كانت تعتبر من مناطق نفوذها كجمهورية التشيك وبولندا وكرواتيا والبانيا وأوكرانيا والمجر, لم يتردد في كبح جماح جورجيا التي كانت مطمئنة لوقوف الغرب معها إذا ما حاول الروس غزوها. بيد أن الدب الروسي كشر عن أنيابه عندما استفاق من جديد, ولكن السؤال الأهم: كيف سيكون موقع هذا الدب على خريطة آسيا والعالم في المرحلة القادمة؟
kshabib@hotmail.com

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 141 مسافة ثم الرسالة