كتاب ومقالات

الصوفية

أسامة يماني

إعمال العقل لا يعني إغفال الروح والمشاعر الإنسانية والأحاسيس؛ لهذا رسخ في يقيني أن الصوفية في جوهرها البعيد عن الشوائب التي علقت بها والمفاهيم الخاطئة التي ارتبطت بها وبممارسات خاطئة، تعد مدرسة لتربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل.

بعيداً عن التأطير والصورة التي تحدث بها كثير من أصحاب المذاهب عن الصوفية مما جعل البعض ينفر منها ويربطها بالدروشة والخروج عن المألوف فضلاً عن بعض المظاهر المنفرة التي يقوم بها الجهلاء، حتى ضاع جوهر وحقيقة التصوف ومفهومه الأخلاقي والروحي والنفسي والفني، فإن أثر الصوفية في إذاعة المعاني الفنية والذوقية والاجتماعية كبير، وقد كتب الدكتور زكي مبارك عن ذلك في كتابه «التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»، حيث جاء في فصل الموسيقى والغناء: «ليس من المبالغة أن نحكم بأن الصوفية تفردوا بين أهل الأدب والأخلاق بالتجويد في الموسيقى والغناء، فهم الذين نظروا في ذلك نظرًا فلسفيًا، وهم الذين جعلوا الموسيقى والغناء من المشاكل الخلقية، وهم الذين صيّروا إنشاد الشعر في المحافل العلنية بابًا من الأدب الرفيع».

والواقع أن هناك ذخائر منسية ومهجورة من الأدب الصوفي الذي لم يهتم بها رجال الأدب، ولم يحسبوا لها أي حساب، ولعل السبب وراء ذلك يكمن في إغفال مؤرخي الأدب للأدب والبلاغة الصوفية وعدم وضعهما في الميزان.

يقول الدكتور زكي مبارك في كتابه «ولو أن رجال الأدب وعلماء البلاغة نظروا في الأدب الصوفي نظرة جدية لاتخذوا منه شواهد في المجازات والتشبيهات، ولرأوا فيه كلمات متخيرة تصلح نماذج لإصابة المعنى والغرض. ولكنهم انصرفوا عنه فلم نرَ في مؤلفاتهم النقدية غير شواهد من كلام الشعراء والكتاب والخطباء الذين سبقوا في ميادين غير ميادين الأرواح والقلوب».

ومن أشهر شعراء الصوفية «الحسين بن منصور» المُلقب بـ«الحلاج» الذي غنّى له الملحن والمطرب اللبناني «مارسيل خليفة»:

يا نسيم الريح قولي للرشـا

لم يزدني الورد إلا عطشا

لي حبيب حبه وسط الحشـا

إن يشا يمشي على خدي مشى

روحه روحي وروحي روحه

إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشـا

تحت عنوان تنبه الوعي وصحوة الحواس تقول الدكتورة كلود عداس التي ناقشت في السوربون أطروحة دكتوراه حول ابن العربي أهم أعلام الصوفية:

«يظن البعض أن الإنسان الصوفي مأخوذ بعالمه الداخلي ومشغول بوارداته من عالم الغيب، لذا فهو غائب عن مجريات الواقع التاريخي وقاطع للتواصل مع محيطه البشري. وهذه الصورة النمطية ربما ألقتها في الأوهام بعض أقوال صوفية وردت في كتب التراجم والطبقات، وذلك قبل انتشار «الكتاب الصوفي» المدون بقلم صاحبه، في حدود القرن الرابع الهجري. وفي هذا الخصوص، تكشف لنا حياة ابن عربي المصوغة في هذا الكتاب، بأن الإنسان الصوفي ينفتح على عالم الكون. لقد دخل ابن عربي خلوته الأولى وهو في حدود السادسة عشرة من عمره، ويخبرنا أنه في هذه الخلوة حدث له الكشف. وعندما خرج من هذه الخلوة الأولى وقد انكشف عن بصره غطاء الوهم، ورأى ما رأى من حقائق وجودية، نلاحظ أن نمط حياته قد اختلف».

وتخلص الدكتورة كلود إلى أن الصوفي ربط بين الفكر والحياة عبر فعالية الإرادة. وهكذا تجلى ابن العربي في كتابه كصاحب إرادة قوية وإصرار وهمة عالية.

ونختم بقصيدة ابن العربي التي مطلعها:

ألا يا حمامات الأراكة والبان

ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني

إلى أن يقول:

لقد صار قلبى قابلاً كل صورة

فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ

هكذا تصالح ابن العربي مع الاختلاف عندما نظره بمنظور الحب الذي تميزت به الصوفية.