وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم
الخميس / 27 / ربيع الثاني / 1443 هـ الخميس 02 ديسمبر 2021 23:41
علي بن محمد الرباعي
امتدح النبي (صلى الله عليه وسلم) حاتم الطائي، عندما وقعت ابنته سفانة في الأسر، وطلبت من نبيّ الرحمة والخُلق العظيم، أن يطلق سراحها مستعرضة الإرث الأخلاقي لأبيها، قائلةً: لا تُشَمِّتْ بي أحياء العرب؛ فقد كان أبي يفك الأسير ويحمي الضعيف، ويَقْرِي الضيف، ويشبع الجائع، ويفرّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم الطائي، فرد صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه (صفة المؤمن)، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، ثم قال لأصحابه: خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وأطلقوا من معها كرامة لها ولأبيها.
فمكارم الأخلاق، هي الإيمان، (بنص الحديث السابق)، وبقدر ما ترجح كفة تعامل المسلم بالتي هي أحسن، بقدر ما ترتسم الصورة الذهنية المتولّدة عن (المتديِّن الربّاني)؛ كونه أحرص الناس على أخلاق السموّ وسموّ الأخلاق، بدءاً من إعطاء كل ذي حق حقه، والتبرؤ من مظالم العباد، ومنح مَنْ ظلمهم فرصة الاقتضاء كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام عندما كشف بطنه ليقتص منه شخص ادعى بأنه وكزه بكوعه، والمؤمن بمحمد عليه السلام نبياً ورسولاً تقض مضجعه إساءة صدرت منه تجاه إنسان أو بيئة أو وطن، لا مسبب لها أو موجب.
شريحة عريضة من المسلمين تلعن العِلمانية، وتشنّع على العلمانيين، وتشجب وتُدين أي مظهر معلمِن يطرأ على حياة الشعوب المسلمة؛ لأن العِلمانية فصلٌ للدِّين عن الدولة كما يُشاع، وهؤلاء (الناقمون) على العلمانية لا يُدركون أن هناك وجهاً آخر للعلمانية واقعٌ بهم، أو وقعوا فيه، فبعضهم عِلمانيون عملياً؛ لأنهم يفصلون العبادات عن الأخلاق والسلوكيات، (أسلموا بظاهر أعمالهم، وكفرت أخلاقهم وسلوكياتهم) فيصلّي البعض خمسه في المسجد، وربّما سابق على الصف الأول وراء الإمام، ويصوم فرضه كل عام، ويحج إلى بيت الله الحرام، إلا أن سلوكه منذ يخرج من باب الجامع لا يُنبئ عن صِدقه فيما هو حريصٌ عليه، فتجده إمّا آكل مال أيتام، أو قاطع أرحام، أو بذيء لسان، أو معتدياً على جيران، أو مقارف فجور، أو شاهد زور، أو خائن أمانة، أو جاحد عاريّة، أو متنكّراً لصاحب معروف عليه، أو غاشاً في معاملة، أو متلاعباً بالأنظمة، وفاسد ذِمة أو مُلوّثاً للبيئة.
ولا عبرة بتزكية مزكٍ يقول: فلان صاحب دِين، بحكم ما يراه من حالة التعبد، بينما لا يدرك ما به من اعتلال أخلاقي ينحط به لمستوى التوحّش الحيواني، فيظنه بلغ ذروة التديّن بالصوري والشكلي، بينما تديّنه لا يرتقي بوجدان، ولا يسمو بروح، ولا يهذّب أخلاق؛ ولذا كان سؤال الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للمُزكّي: هل رافقته في سفر، أو تعاملت معه بالدينارِ والدِّرهم؟ فقال المُزكِّي: لا، قال عمر: إذن أنت لا تعرفه.
يمكن الحكم على أخلاق المجتمع، من خلال تعاملهم مع بعضهم في الطريق العام، وبانتهاء أيام ومواسم العبادات، وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن أثر التديّن لا يزال عالقاً بالسلوك، نجده أقلّ مما يجب، أو منعدماً، إذ الحرص على التمسك بالسلوكيات الحضارية لا يوازي تنافسنا على أداء الشعائر الظاهرة.
في مقارنة بين المسلم المقيم في وطن عربي، ومسلم اعتنق الإسلام ممن قضى شطراً من حياته في مجتمع غربي، نجد المسلم في عالمنا العربي يخلط بين التعبد والعبث، ويتجاوز بالإساءة لخلق الله على أنها مباحة، ويردد إن الله غفور رحيم! بينما المسلم الوافد من مجتمعات تُعلي جانب السلوكيات نراه أكثر تهذيباً وعِفةً واحتراماً لحقوق الإنسان وللنظام بحكم الانتماء لبيئة ومجتمع لا تقبل التلاعب بالمسار الأخلاقي مع وجود استثناءات ولكن الشاذ والنادر لا حُكم له.
أحدهم يحدثني عن (شقيق والده) البالغ من عمره ثمانية عقود، يذهب للمسجد كل يوم جمعة عند العاشرة صباحاً، ليتلو أربعة أجزاء من القرآن، وبعد الصلاة يرفض السلام على شقيقه السبعيني، بل يستفزه ببعض العبارات الجارحة أمام المصلين وهم في ساحة المسجد بسبب خلاف دنيوي! وهذا التديّن الشعبي باللسان في المسجد لم يصقل الجوهر؛ ولذا ينفضح بانتهاء الصلاة، عندما تُفصح الجوارح عن أبشع ما فيه من عدوانية وقُبح وفجور.
يُقاس أثر الإسلام بما يتجلى في حياة المسلم من سلوك وأخلاق وقِيم وشِيم وحُسن انتماء لله وللكون وللوطن وللحياة وللأحياء، والبعض يعيش حالة انقطاع جذري مع منبع الإيمان النقي مثل ما يعاني آخرون سوء التعامل مع المصب فيقعون في إشكال عجز المتديّن عن تمثّل أخلاق الدِّين وأعلاها عدم الإضرار بالآخرين.
شأن الفاشلين في أخلاقهم، شأن الحزبيين المؤمنين بالحاكمية المطلقة لله، في كل شأن من شؤون الحياة، والمؤثِرين النص القرآني على ما سواه، فإذا بلغوا آية (وأطيعوا الله والرسول وأُولي الأمر منكم) عطّلوها بالتأويل، وآثروا قول مُرشد ضِلّيل على مُحكم التنزيل، لتنقلب الحاكمية إلى كلمة حق أريد بها باطل، سبق أن اتخذتها الخوارج ذريعة ومطية إلى تكفير العامة، والخاصة، حكاماً وشعوباً، وعوامَ وخواصَ، وتمردوا وأعلنوا العصيان والخروج على الأمة، وانطلقوا في التلبيس على المسلمين بقاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وهذه من حالات الفصل بين اعتناق المسلم للدِّين شكلياً، وبين الاقتناعات الناشئة عن تنكّب سبيل نيل شرف الخُلق الذي جعله النبي عليه السلام مقدمةً للقُرب منه في الآخرة، ومن لا يفرق بين الخير والشر، يهدم الأخلاق ويشوّه صورة المجتمع، ويقضي على إنسانية الإنسان.
الإفراط في التزمت قبيح، والأقبح منه التفريط في التشريع الأخلاقي، والسلوك الراقي، (وإذا أُصيبَ القوم في أخلاقهم، فأقم عليهم مأتماً وعويلاً).
فمكارم الأخلاق، هي الإيمان، (بنص الحديث السابق)، وبقدر ما ترجح كفة تعامل المسلم بالتي هي أحسن، بقدر ما ترتسم الصورة الذهنية المتولّدة عن (المتديِّن الربّاني)؛ كونه أحرص الناس على أخلاق السموّ وسموّ الأخلاق، بدءاً من إعطاء كل ذي حق حقه، والتبرؤ من مظالم العباد، ومنح مَنْ ظلمهم فرصة الاقتضاء كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام عندما كشف بطنه ليقتص منه شخص ادعى بأنه وكزه بكوعه، والمؤمن بمحمد عليه السلام نبياً ورسولاً تقض مضجعه إساءة صدرت منه تجاه إنسان أو بيئة أو وطن، لا مسبب لها أو موجب.
شريحة عريضة من المسلمين تلعن العِلمانية، وتشنّع على العلمانيين، وتشجب وتُدين أي مظهر معلمِن يطرأ على حياة الشعوب المسلمة؛ لأن العِلمانية فصلٌ للدِّين عن الدولة كما يُشاع، وهؤلاء (الناقمون) على العلمانية لا يُدركون أن هناك وجهاً آخر للعلمانية واقعٌ بهم، أو وقعوا فيه، فبعضهم عِلمانيون عملياً؛ لأنهم يفصلون العبادات عن الأخلاق والسلوكيات، (أسلموا بظاهر أعمالهم، وكفرت أخلاقهم وسلوكياتهم) فيصلّي البعض خمسه في المسجد، وربّما سابق على الصف الأول وراء الإمام، ويصوم فرضه كل عام، ويحج إلى بيت الله الحرام، إلا أن سلوكه منذ يخرج من باب الجامع لا يُنبئ عن صِدقه فيما هو حريصٌ عليه، فتجده إمّا آكل مال أيتام، أو قاطع أرحام، أو بذيء لسان، أو معتدياً على جيران، أو مقارف فجور، أو شاهد زور، أو خائن أمانة، أو جاحد عاريّة، أو متنكّراً لصاحب معروف عليه، أو غاشاً في معاملة، أو متلاعباً بالأنظمة، وفاسد ذِمة أو مُلوّثاً للبيئة.
ولا عبرة بتزكية مزكٍ يقول: فلان صاحب دِين، بحكم ما يراه من حالة التعبد، بينما لا يدرك ما به من اعتلال أخلاقي ينحط به لمستوى التوحّش الحيواني، فيظنه بلغ ذروة التديّن بالصوري والشكلي، بينما تديّنه لا يرتقي بوجدان، ولا يسمو بروح، ولا يهذّب أخلاق؛ ولذا كان سؤال الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للمُزكّي: هل رافقته في سفر، أو تعاملت معه بالدينارِ والدِّرهم؟ فقال المُزكِّي: لا، قال عمر: إذن أنت لا تعرفه.
يمكن الحكم على أخلاق المجتمع، من خلال تعاملهم مع بعضهم في الطريق العام، وبانتهاء أيام ومواسم العبادات، وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن أثر التديّن لا يزال عالقاً بالسلوك، نجده أقلّ مما يجب، أو منعدماً، إذ الحرص على التمسك بالسلوكيات الحضارية لا يوازي تنافسنا على أداء الشعائر الظاهرة.
في مقارنة بين المسلم المقيم في وطن عربي، ومسلم اعتنق الإسلام ممن قضى شطراً من حياته في مجتمع غربي، نجد المسلم في عالمنا العربي يخلط بين التعبد والعبث، ويتجاوز بالإساءة لخلق الله على أنها مباحة، ويردد إن الله غفور رحيم! بينما المسلم الوافد من مجتمعات تُعلي جانب السلوكيات نراه أكثر تهذيباً وعِفةً واحتراماً لحقوق الإنسان وللنظام بحكم الانتماء لبيئة ومجتمع لا تقبل التلاعب بالمسار الأخلاقي مع وجود استثناءات ولكن الشاذ والنادر لا حُكم له.
أحدهم يحدثني عن (شقيق والده) البالغ من عمره ثمانية عقود، يذهب للمسجد كل يوم جمعة عند العاشرة صباحاً، ليتلو أربعة أجزاء من القرآن، وبعد الصلاة يرفض السلام على شقيقه السبعيني، بل يستفزه ببعض العبارات الجارحة أمام المصلين وهم في ساحة المسجد بسبب خلاف دنيوي! وهذا التديّن الشعبي باللسان في المسجد لم يصقل الجوهر؛ ولذا ينفضح بانتهاء الصلاة، عندما تُفصح الجوارح عن أبشع ما فيه من عدوانية وقُبح وفجور.
يُقاس أثر الإسلام بما يتجلى في حياة المسلم من سلوك وأخلاق وقِيم وشِيم وحُسن انتماء لله وللكون وللوطن وللحياة وللأحياء، والبعض يعيش حالة انقطاع جذري مع منبع الإيمان النقي مثل ما يعاني آخرون سوء التعامل مع المصب فيقعون في إشكال عجز المتديّن عن تمثّل أخلاق الدِّين وأعلاها عدم الإضرار بالآخرين.
شأن الفاشلين في أخلاقهم، شأن الحزبيين المؤمنين بالحاكمية المطلقة لله، في كل شأن من شؤون الحياة، والمؤثِرين النص القرآني على ما سواه، فإذا بلغوا آية (وأطيعوا الله والرسول وأُولي الأمر منكم) عطّلوها بالتأويل، وآثروا قول مُرشد ضِلّيل على مُحكم التنزيل، لتنقلب الحاكمية إلى كلمة حق أريد بها باطل، سبق أن اتخذتها الخوارج ذريعة ومطية إلى تكفير العامة، والخاصة، حكاماً وشعوباً، وعوامَ وخواصَ، وتمردوا وأعلنوا العصيان والخروج على الأمة، وانطلقوا في التلبيس على المسلمين بقاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وهذه من حالات الفصل بين اعتناق المسلم للدِّين شكلياً، وبين الاقتناعات الناشئة عن تنكّب سبيل نيل شرف الخُلق الذي جعله النبي عليه السلام مقدمةً للقُرب منه في الآخرة، ومن لا يفرق بين الخير والشر، يهدم الأخلاق ويشوّه صورة المجتمع، ويقضي على إنسانية الإنسان.
الإفراط في التزمت قبيح، والأقبح منه التفريط في التشريع الأخلاقي، والسلوك الراقي، (وإذا أُصيبَ القوم في أخلاقهم، فأقم عليهم مأتماً وعويلاً).