كتاب ومقالات

ما خفي كان أعظم

أسامة يماني

هذا المثل يقال عند توقع حدوث شيء أسوأ مما حدث، غير أنني أريد توظيف هذا المثل من الجانب والمعنى الإيجابي؛ أي أن ما خفي أعظم وأحسن مما ظهر وبان للناس.

إن ما أخفاه المتأخرون عن تأريخنا الإنساني سواءً بقصد أو بغير قصد أو إهمالًا أو عدم دراية، أعطى انطباعاً غير حقيقي عن الحياة اليومية والإنسانية في المجتمعات السابقة. فقد عاشت بلاد الشام والعراق انفتاحًا ثقافيًا وقبولًا وتسامحًا تجاه تعدد الأديان من وثنية ويهودية ومسيحية، وعلى تنوع الأمم والشعوب التي سكنتها، فكان فيها اليوناني والروماني واليهودي والسرياني والفارسي والعربي، مما جعلها ذات خليط ثقافي كان له أكبر الأثر على الحياة في ذلك العصر لتأثيرات حضارية كلاسيكية يونانية ورومانية وساميّة من كنعانية وآرامية وسريانية، فضلًا عن تجاورها مع حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وآسيا الصغرى.

في العصر الأموي عاش المجتمع العربي حالة رفاهية وانتشر العمران وسكنوا أغنى وأفخم القصور الضخمة التي عرفت في التاريخ، وقد بنى معاوية قصر الخضرة في دمشق، ونَصَبَ الخلفاء الأمويون في هذه القصور الأَسِرَّة والكراسي، وافترشوا الطنافس والمصليات والوسائد وعلقوا الستور، وأقاموا الحجاب والحراس. واقتبس الأمويون من الروم والفرس مظاهر الأبهة كالطراز، ونقش الأشعار في صدور المجالس، وفرش الديباج والخز، واصطناع الأسِرَّة من الأبنوس والعاج والذهب. وكان للحجاج بن يوسف مجلس للسمر، وكان «في الشتاء يجلس والناس أمامه على الكراسي، أما في الصيف فيجلس في حديقة قصره في مدينة واسط على سرير بجوار بركة ماء، وكانت تدور على الجالسين أطباق كثيرة من الرُّطَب، وكانت لمجالس الولاة تقاليد وآداب، فساروا فيها سيرة أكاسرة الفرس، واقتبسوا منهم -كذلك- نظام الحجَّاب».

وتنوعت أماكن مجالس العامة من المجتمع، فقد كان بعضهم يعقدها في المساجد أو الجبانات (المقابر)، أو في البيوت أو الحانات أو الأديرة أو الكنيسة أو المربد، وهو فضاء وراء البيوت. لقد كان التسامح الديني سمة العصر الأموي. يقول طه حسين: «كان القرشيون إذا أرادوا نوعًا من اللهو الحر، وقصدوا إلى الاستمتاع باللذات، يفرون حيث يدركون مجالس الغناء، وحيث يجتمع الرجال والنساء وحيث الرقص المشترك، وحيث تجري الأمور في كثير من الحرية والصراحة». وقد امتازت المرأة في العصر الأموي في الحواضر (المدن) بالبروز ثقافيًّا، والقوة والجرأة في مقابلة الرجال والتحدث معهم في الثقافة والأدب والفن ونقده والتمييز بينه. كما ظهرت طبقة جديدة على المجتمع العربي وهن الوافدات اللاتي يعرفن الغناء والموسيقى والتغني بشعر الغزل، مما جعل لهذه الطبقة حضورًا في القصور والمدن.

يذكر شوقي ضيف في كتابه «الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية»، أن المدينة كان بها دور للمغنيات يتوافد عليها الناس لقضاء أوقاتهم وسماع الغناء، ومنها دار عزة الميلاء، والتي تعد من أقدم مغنيات المدينة، وكانت ذات جمال بارع، وسمعها حسان بن ثابت وأعجب بها، ويروى أنها غنت يوما من شعر عمر بن ربيعة فشق ثيابه، وأطلق صيحة عظيمة صُعق معها من شدة الطرب.

وقد دب الترف في المجتمع الحضري، وتنوعت أنواع الطعام وألوانه، واللبس والملابس وأشكالها، واشتهر الغناء، ومن أشهر المغنين في هذا العصر الأموي طوليس وأبو مروان الغريفي وكان من مولودي البربر، ومن رجال الأدب، إلا أن الغناء غلب عليه.

وفي أوقات الفراغ كان الناس يقضون أوقاتهم في سماع الحكايات والنوادر الهزلية والأحاديث، ولعب الشطرنج، والرمي بالنشاه، والصيد، وسباق الخيول، والتنس، وكانت النساء يمارسن الرمي بالسهام، ويقال «إن الخليفة هشام بن عبد الملك هو أول من أقام حلبات السباق، وكانت الأميرات يتدربن على ركوب الخيل ويشتركن في السباق».

لقد كان الرعيل الأول في صدر الإسلام منفتحين على الحياة وثقافة الحياة. وجاء المتأخرون ليصوروا الحياة في العهود الأولى للإسلام على غير حقيقتها. لهذا سعى المتأخرون من المتنطعين والمتشددين إلى إخفاء حياة المتقدمين بهدف سرقة ثقافة الحياة والفرح وإشاعة ثقافة الموت والتفجير والتفخيخ والقتل والكراهية.

فأهلا بثقافة الحياة وأهلًا ببوليفارد الرياض وفورمولا جدة وطنطورة العلا وبكل الفعاليات في السعودية. وأعلم أن الأوائل الذين صنعوا التأريخ كانوا مقبلين على الحياة وليسوا مدبرين. لأنه لا يصنع التأريخ إلا من يعشق الحياة.