كتاب ومقالات

القوة الخشنة

طلال صالح بنان

كثيراً ما يُشار إلى قوة الدولة بتصنيفها إلى قوى صلبة وقوى ناعمة. إلا أن هناك قوة ثالثة تلجأ إليها الدول في التعامل مع بعضها البعض، لتجنب تكلفة استخدام القوة الصلبة الباهضة وعدم ضمان كفاءة تحقيقها للأهداف اللجوء إليها، وكذا افتقار القوة الناعمة لعامل الردع الكافي والفعال. هذا النوع الثالث من القوة، يمكن أن يُطلق عليه القوة الخشنة.

يُعبر عن القوة الخشنة هنا بنظام العقوبات الاقتصادية. نظام العقوبات الاقتصادية، ليس جديداً في تاريخ العلاقات بين الدول. قديماً: كان يُلجأ لآلية الحصار، كمقدمةٍ أو بديلٍ عن الحرب. في العصر الحديث كان هناك نظام التعويضات، مثل الذي فُرض على ألمانيا، عقب الحرب العظمى.

لكن، بعد الحرب العالمية الثانية، وما تلاه من نظم دولية مختلفة، اتسع نطاق استخدام العقوبات الاقتصادية بين الدول والتجمعات الدولية المختلفة. من بين نظم المقاطعة الدولية الناجحة، في هذا المجال، المقاطعة الدولية لنظام جنوب أفريقيا العنصري، وإقليمياً: نظام المقاطعة العربية لإسرائيل.

في الوقت الحاضر تستخدم الدول نظام العقوبات الاقتصادية، ضد بعضها البعض، لخدمة مصالحها في المجالين الدولي والإقليمي. نتيجة لتداخل العلاقات الاقتصادية بين الدول ولسيطرةِ عملات دولية بعينها على النظام المالي العالمي وتداخل اقتصاديات دول العالم بعضها البعض، نشأ نظام جديد للعقوبات الدولية، أشد وطأة وأبلغ إحكاماً لخدمة مصالح دولية معينة، تجاه فعاليات دولية أخرى، بغض النظر عن إستراتيجية العلاقة القائمة بينها، عوضاً عن اللجوء إلى القوة الصلبة أو التهديد باستخدامها، وعند فشل الإمكانات التحفيزية للقوة الناعمة، في التأثير على سياسات وسلوكيات الدول الأخرى.

من أشد هذه العقوبات الاقتصادية، تلك المفروضة على إيران، بسبب برنامجها النووي، التي تكاد تمنع إيران تماماً من كثيرٍ من مظاهر التجارة الخارجية مع العالم، حتى أنها تطال أكثر مجالات تجارة إيران الخارجية مع العالم حساسيةً وتعقيداً، ليصل تأثيرها إلى المواطن الإيراني العادي. كوريا الشمالية، لنفس الأسباب تقريباً، تخضع لعقوبات اقتصادية دولية مشددة.

روسيا أيضاً: تعاني من فرض الغرب لعقوبات اقتصادية ضدها نتيجة لغزوها إقليم القرم الأوكراني واحتلاله ٢٠١٤. موسكو مهددة بعقوبات أشد إن هي أقدمت على غزو أوكرانيا من جديد واقتطاع أراضٍ من إقليمها، أو لرفضها الانسحاب من إقليم القرم. نظام العقوبات لا يطال فقط مؤسسات الدولة السيادية ورموزها المستهدفة منها، بل قد يطال أطرافا دولية وكيانات اعتبارية، بل وحتى أشخاصا، لأطراف دولية ثالثة. كما أن نظام العقوبات الاقتصادية، قد تتضرر منه الشعوب بصورة أشد وطأةً، كما حدث بفعل نظام النفط مقابل الغذاء الذي فرض على نظام صدام حسين، عقب غزوه الكويت، وحتى احتلال العراق ٢٠٠٣.

استخدام القوة الخشنة، رغم انخفاض تكلفتها، مقارنة باستخدام القوة العسكرية الصلبة، إلا أنه لا يغني عن الأخيرة، كما أن فاعليته مشكوكٌ فيها، بالإضافة إلى أنه يعاني من مشاكل أخلاقية، ولا يقتصر أثره السلبي على من اُستخدم ضده، بل قد يكون له أثر عكسي على من يقدم على استخدامه، أيضاً. روسيا، على سبيل المثال: ردت بعقوبات اقتصادية مماثلة، وإن كانت تفتقر إلى فاعلية عامل الردع، كذلك المتضمن في عقوبات الغرب الاقتصادية ضدها.

استخدام أي أنواع القوة المتوفرة للدولة، هو قرار سيادي بامتياز، يخضع لحسابات عقلانية ذات اعتبارات سياسية محضة، لها علاقة مباشرة بمصالح وأمن وقضايا وتحالفات الطرف الدولي المعني.