إبراهيم البكري.. نموذج للمعاناة العربية في زنجبار
الاثنين / 07 / جمادى الآخرة / 1443 هـ الاثنين 10 يناير 2022 04:07
بقلم: د. عبدالله المدني
تحدث الصحفي الفرنسي المتخصص في شؤون عمان والخليج العربي «قانتان مولير Quentin Muller» في مقال نشرته له إحدى الصحف العربية الصادرة في لندن في ديسمبر 2019 عن ظروف وأحداث انتهاء الحكم العربي في زنجبار التابعة اليوم لجمهورية تنزانيا فقال إن جزيرة زنجبار الأفريقية كانت ضمن الإمبراطورية العمانية التي امتدت من جنوب إيران إلى شمال موزنبيق منذ عام 1698، وإنها لم تنفصل عن سلطنة عمان إلا في عام 1862. ومذاك بقيت زنجبار عربية تحتفظ بعلاقات متميزة مع مسقط ويديرها بالعدل فرع من آل بوسعيد، وبقيت كذلك حتى عام 1964 حينما وقع انقلاب بقيادة الماركسي عبيد كرومي ضد الحكم الملكي الدستوري للسلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة.
كل هذا معروف، بطبيعة الحال، لكن الكاتب يأخذنا في سرد شيق ومؤلم في الوقت ذاته إلى ظروف خسارة العرب العمانيين لهذا الجزء من بلادهم. فيذكر أنه في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها زنجبار عام 1963 بـُعيد حصولها على الاستقلال من بريطانيا في تلك السنة وإقامة حكم ملكي دستوري، احتفظ حزب زنجبار القومي (الحزب الأفروشيرازي الماركسي) بأغلبيته البرلمانية، فيما عمل السلطان جمشيد على المحافظة على قبضة العرب على الجزيرة، الأمر الذي ولد أحقادا لدى السكان الأفارقة تطورت إلى استهداف السكان العرب بالقتل بقيادة أحد ملاك الأراضي الأوغنديين ويدعى «جون أوكيلو»، فكانت النتيجة حدوث مجازر راح ضحيتها ما بين 5000 و15000 مواطن من أصول عربية عمانية. وفي صبيحة 12 يناير 1964 قام مئات من المسلحين الأفارقة بخلع السلطان ونفيه مع عائلته إلى لندن، وفي اليوم التالي «وضعوا الرجال المسنين في شاحنة والنساء والأطفال في شاحنة أخرى، وتم اقتيادهم إلى ملعب كرة قدم حيث تم قتلهم بدم بارد».
وبسقوط الحكم العربي في زنجبار، بعد بضعة أشهر من نيلها الاستقلال، شعر العرب الذين قدرت لهم النجاة من البطش والقتل والتصفية أن عليهم الفرار. وقتها كانت سلطنة عمان تعيش في عزلة تامة تحت حكم السلطان سعيد بن تيمور، وكانت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متخلفة مقارنة بأحوال زنجبار المزدهرة، لذا فضل الكثيرون من الزنجباريين العرب، الذين كانوا قد هاجروا إلى زنجبار من عمان واليمن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ترك ممتلكاتهم والفرار إلى بريطانيا ومصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، لكنهم عادوا على دفعات إلى عمان في أعقاب وصول السلطان الراحل قابوس بن سعيد إلى الحكم في يوليو 1970، حيث بدا جليا أن السلطان قابوس يريد تحديث بلاده بالاعتماد على الشتات العماني، ومنهم الشتات الزنجباري المتعلم والمؤهل والمتمكن من اللغة الإنجليزية، فأصدر تعليمات تدعوهم للمجيء إلى عُمان لبناء الوطن.
وفي هذا السياق كتب أحد الزنجباريين الفارين إلى مصر وهو حارث الغساني ما مفاده أن بلد أسلافه (أي عمان) كان يعج بالفرص، فآثر العودة حيث منح الجنسية العمانية وتم توظيفه في شركة «تنمية نفط عمان» بسبب تعليمه الأساسي المتقدم في أفريقيا، ثم واصل تعليمه حتى حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية العريقة. والغساني ليس سوى نموذج للزنجباريين، الذين كانوا في الغالب ينحدرون من قبائل المناطق الشرقية العمانية ومحافظات الداخل العماني مثل نزوى، والذين راحوا يعودون تباعاً، فحصلوا على جوازات سفر عُمانية وتبوأوا تدريجياً مناصب هامة في القطاعات السياسية والاقتصادية. وتوضح الدكتورة «نفلة الخروصي» أن «الزنجباريين يتميزون بمعرفة اللغة السواحيلية، وتتميز نسبة كبيرة منهم بعدم تمكّنهم من اللغة العربية أو يلفتون الانتباه بلكنتهم، لكن الكثير منهم يتقنون اللغة الإنكليزية مما ساهم في نجاحهم المهني في مجالات مختلفة». وعلى الرغم من هذه الاختلافات كانت قبائل الأسلاف تستقبل باعتزاز هذه القوى العاملة المؤهلة.
ما سبق كان مقدمة للحديث عن واحد من العائدين الزنجباريين (يتجاوز عددهم اليوم أكثر من مائة ألف نسمة، مشكلين بذلك أكثر من 5 بالمائة من إجمالي عدد السكان) ممن تألقوا في السلطنة في المجال الأكاديمي والفني وهو الدكتور إبراهيم بن نور بن شريف البكري.
ولد البكري في زنجبارفي عام 1941 لعائلة عربية من أصول عمانية كانت ذات يوم تحكم مدينة «مركة» الصومالية، وحافظ كالكثيرين من أقرانه على هويته العربية والإسلامية، وتميز عنهم بالمحافظة على نسخ عديدة من المخطوطات السواحيلية النادرة حتى عام 1930 من تلك التي نـُقلت أصولها إلى المكتبات الأوروبية. لكنه كغيره تعرض للاضطهاد بــٌعيد سقوط الحكم العربي في زنجبار، فآثر الفرار خصوصا بعد اعتقال والده وإيداعه السجن، تاركا مرابع طفولته وصباه وذكرياته وأحلامه، ومتخليا عن ممتلكات عائلته الثرية التي استولى عليها الانقلابيون الأفارقة. يشير الرجل إلى ذلك بمرارة قائلا إن «الأفارقة لم يعتنوا بما تركناه ولم يستثمروه لصالح الناس.. كان همهم التخلص منا لأننا من وجهة نظرهم مسؤولون عن الرق». وحول الجزئية الأخيرة قال: «لم يشارك العرب إلا قليلا في هذه التجارة إذا ما قورنوا بالبرتغاليين! والذين كان لهم عبيد يطلقون عليهم اسم اللآلئ»، مضيفا: «في الكتب المدرسية التي تتطرق للعبودية استبدلوا النخاس الغربي بالنخاس العربي». وهو إذ لم ينكر مسؤولية العرب العمانيين عن الرق إلا أنه ألقى المسؤولية أيضا على الهنود الذين قاموا بتمويل هذه التجارة وعلى القادة الأفارقة الذين قاموا بأسر العبيد وبيعهم من أجل المال، وبالتالي لا ينبغي أن يوجه اللوم فقط للمسلمين العمانيين العرب.
رغم أنه كان في الرابعة من عمره في يوم 12 يناير 1964 حينما وقعت أحداث زنجبار المأساوية، إلا أنه تذكرها فروى مشاهدها للصحفي الفرنسي مولير بدقة، قائلا ما مفاده إنه مرت في ذلك اليوم عصابة مشكلة من 15 رجلاً مسلحاً أمام منزل عائلته، وكان بعضهم يعطي التعليمات بقتل العمانيين، ورأى عمته الحامل يــُلقى القبض عليها، ويفتح بطنها بالمنجل ويخرج منها جنينها، مضيفا: «كلُّ واحد منا له فقيد... أتذكر رجلاً أطلق عليه الرصاص على الشاطئ ولم يمت على الفور. لقد سمعناه لمدة ثلاثة أيام وهو يصرخ: ساعدوني، ساعدوني»، ويستطرد: «لا يمكن وصف ما حدث بثورة أو مجزرة.. لقد كانت إبادة عرقية جماعية».
بعد تركه زنجبار عاش البكري في الكويت وإمارات الساحل المتصالح (دولة الإمارات العربية المتحدة) حيث ساعدته مؤهلاته الجامعية واللغوية على العمل في وظائف مختلفة لعدة سنوات حتى عام 1974، وهو العام الذي قرر فيه العودة إلى أرض أجداده، فوصل إلى مسقط للمشاركة في عملية التنمية من الصفر.
درس البكري في عدد من الجامعات الأفريقية، كما درس في الولايات المتحدة لاحقا، بل إنه قام بتدريس الفن واللغة السواحيلية في قسم اللغات بجامعة رتجرز في ولاية نيوجيرسي الأمريكية. أما في سلطنة عمان فقد التحق بهيئة التدريس في جامعة السلطان قابوس وتدرج فيها حتى صار رئيسا لقسم التربية الفنية التابع لكلية التربية بدرجة بروفيسور. وفي أعقاب تقاعده من العمل الأكاديمي وجه كل جهوده وطاقاته نحو الفن، حتى غدا اليوم واحدا من أبرز الفنانين التشكيليين والمصورين في سلطنة عمان ممن يتحفون الجمهور من وقت إلى آخر بمعارض فنية تلقى الإشادة من كبار المسؤولين. فتعليقا على معرض أقامه تحت عنوان «عمان جنة الرسامين ونعيم المصورين» بمسقط في فبراير 2017 قال الدكتور علي بن سعود البيماني رئيس جامعة السلطان قابوس: «أمضى البروفيسور إبراهيم بن نور البكري جزءًا كبيرًا من حياته جائبًا السلطنة بمعدّات التصوير وأدوات الرسمِ الخاصة به، حاملا معه إحساسًا فنيًّا عميقًا يُترجمهُ في صورٍ ورسوماتٍ فنيَّةٍ لا تملِكُ إلا أن تقِف مُنبهرًا أمام جمالها. ترى كاميرا البكري عُمان كما لم نرها من قبل، فحينما تتنقلُ ببصرك من لوحةٍ إلى أخرى تشعر وكأن غمامةً تنكشف عن عينيك لتُبصر تفاصيلَ عميقة الجمالِ لهذه الأرض الغالية، فتوقظ حواسك وتتسربُ إليها تدريجيًا. ولأن مهمةَ الفنان تتمثلُ في كشف أسرار الجمال بطريقةٍ مميزةٍ، فقد حرِص البكري على أن يخطو على النهج ذاته، فإذا ما أبصرت خلال عدستهِ، ترى تفاصيل نقية للسماء والخليجِ والبحر والخوْرِ والشلالِ والجبل والجدول والصخرِ والوادي مشبعةً بألوان نابضةٍ بالحياة، تحبِسُ أنفاسَك فتتأملها تأملا يُثير في نفسك دهشةً وتساؤلا».
أما البروفسور يوجين جونسون أستاذ علوم الحيوان والبيطرة بكلية العلوم الزراعية والبحرية في جامعة قابوس فقد كان من رأيه أن البكري: «نجح في توثيق المعالم الطبيعية لسلطنة عمان بصورة إبداعية ومتقنة جسدها في سلسلة من اللوحات وكذلك مجموعة رائعة من الصور الفوتوغرافية». وأضاف مستطردا: «في استعراض عمل البروفيسور إبراهيم قد يكون من المغري أن نبحث عن الأماكن التي تم عرضها، إذ يمكن للمرء لدى وصوله لمكان معين أن يصاب بخيبة أمل لأنه لم يجد المشهد المحدد، على الرغم من أن جميع عناصر هذا المشهد موجودة: الأشجار، والماء، والكثبان الرملية والجبال أو الحصون في أعلى التلة، لكنها لن تكون في الفكرة نفسها التي رسمها الفنان. وفي الواقع، هنا يكمن جوهر تصوير المناظر الطبيعية، وخلق المزاج الذي يسمح للمشاهد ليس فقط لمعرفة ما رأى الفنان ولكن أهم من ذلك بكثير، مشاركته في السبب الذي جعلت تلك المناظر تحرك عاطفة الفنان وتدفعه إلى الإبداع، كما أن هناك لحظةً معينةً، عندما تقدم المناظر الطبيعية نفسها للمشاهد في منظر تسحره وتؤثر فيه وذلك ما سعى إليه البروفيسور إبراهيم في التقاط تلك اللحظات وتوثيقها، بالإضافة إلى ذلك فقد فتحت صور ولوحات البروفيسور إبراهيم الباب للمشاهد إلى دراسة المناظر الخلابة المتنوعة للسلطنة وبالتالي تحفيزه وتشجيعه لاحترام الطبيعة وضمان مشاهدة الأجيال القادمة لهذه الإبداعات الربانية».
قال الفنان البروفيسور إبراهيم البكري عن أعماله المدهشة: «البيئة العمانية جميلة للغاية وأسعى أن أحرك هذا الإحساس بالجمال لدى جميع زوار معارضي الفنية بشكل عام والمتخصصين في مجال الفن بشكل خاص، ولا داعي للذهاب إلى خارج البلاد لرسم الطبيعة فالله تعالى قد حبا السلطنة بطبيعة خلابة يمكن للجميع أن يستمتع بها مثلما استمتعت أنا وفي كل جزء، وفي كل بقعة منها هناك أماكن رائعة تستحق النظر والتأمل وإنتاج أعمال فنية متميزة». وحول مزجه بين التصوير والرسم قال: «أتعلم كل يوم شيئًا جديدًا ورحلتي في هذه الحياة تعلمني أن أشكر خالقي الذي قدم لي الكثير من الأشياء الجميلة».
والحقيقة أن المرء لا يستطيع أن يفصل إبراهيم البكري الرسام عن إبراهيم البكري المصور. على أن البكري إنسان متعدد المواهب، فعلاوة على براعته في الفنون التشكليلية والتصوير الفوتوغرافي، فإنه عاشق للأدب والكتابة والشعر. وآية ذلك أنه وضع كتابا عن تاريخ عمان باللغة السواحيلية، ونشر العديد من المقالات السياسية والتاريخية والأدبية ونظم الشعر باللغة السواحيلية ونشره.
وهكذا يمكن القول إنه واحد من الجيل الفني الذي برز في منطقة الخليج متأثرا بالفنون القادمة إلى المنطقة من بقاع مختلفة، ومن أولئك الموهوبين من ذوي الخلفيات الثقافية المتعددة ممن استطاعوا تنمية مواهبهم وصقلها من خلال أفضل المعاهد الفنية المتخصصة، فغدا ملما بالفن على أصوله. وهو من جهة أخرى مشروع ثقافي منفتح على «أجناس مختلفة من الإبداع الفني: قصائد شعرية وترجمات عديدة وإحساس موسيقي وتجارب فنية تشكيلية متنوعة المدارس والنزعات يبوح ببعض منها ويخبئ الأخرى أو يختفي خلفها» بحسب موقع ويسبيرينغ ديالوغ الإلكتروني (15/7/2019).
وبالنسبة له الكلمة هي الأصل وهي التي تتوج كل ما نؤمن به، والقرآن الكريم يقول (اقرأ) والقراءة هنا عملية مساهمة ومزاوجة بين حرف يأخذ طابعًا تشكيليًا وخلفية فكرية وفلسفية. إن تكرار الكلمة يعني تكرار الصورة الحسية، والكلمة تتفاعل في أذهاننا عبر حروفها المنسقة وتتجمع الكلمات لتشكل مفردات شعورية ترتبط بالذاكرة والذهن. والمفردة التشكيلية ــ في نظره ــ لها نفس الفاعلية، فلو أخذنا شجرة كمفردة تشكيلية فإن آلاف الأشجار قد انطبعت في الذاكرة ولكل واحدة خصوصيتها، فهذه الصور التشكيلية مغروسة في اللاشعور وهذا ينطبق على الصخور والرمال و غيرها من الأشكال.
نجد في لوحاته ذات التشكيلات الخطية او ما يطلق عليها الحروفية منحىً صوفيّاً للتكرار وكأننا نسمع ترديد القول الصوفي (الله حيّ الله حيّ) وهذه تأخذنا إلى أبعاد تأملية، فهي لا تخاطب بصر المتلقي فقط بل بصيرته أيضًا، تجول داخل الروح والعقل والعاطفة وتجعل من هذا الثلاثي وحدة متكاملة، وبالتالي تدفع هذه المكونات المتحدة المشاهد إلى التأمل وتعوم في بحر من الفضاء حيث عشق الحروف الواحد للآخر. إنّ تلاصقها وتماسكها يعيدنا إلى الوحدة التي نبعت من التوحيد. ثم تأتي المساحات اللونية الصارخة لتضفي بعدًا آخر على هذه التشكيلية النغمية الصوفية، إذ تحدد بعداً شرقيّاً أفريقيّاً واضحاً متمثلا في حرارة اللون وصخبه وضجيجه في عالم منتظم محكم مدروس.
ورغم الحضور الأفريقي الواضح في لوحاته، إلا أنه حورها لتأخذ البعد الفني الهندسي المعماري العربي الإسلامي بشكل طاغٍ، فنجد أنصاف دوائر ومربعات متداخلة وقاعدة مستطيلة يرتكز عليها قناع بيضوي الشكل يوحي لنا بأنه منفذ للنور كما أن بناء المساحات اللونية يشد الأشكال بعضها بعضًا كالبنيان المرصوص.
من أمثلة لوحاته لوحة أطلق عليها اسم «قنوط ويأس»، وفيها نجد المرأة قد اكتسبت بعدًا أبعد من واقعها، فالرقبة الممتدة والمبالغ فيها، وطريقة احتضانها للطفل تقول لنا بكل علانية ووضوح: هذا ما يعاني منه طفلي، انظروا إليه. وتقدمه للنّاظر بكل قسوة وواقعية. اللوحة تحكي لنا المأساة الأفريقية ــ القحط والجفاف ــ من خلال خطوط محددة قوية ومقتصدة، فلا إسراف في اللون والخطوط، بل إسراف وبذخ في التعبير والعواطف والصدق والألم والجوع.
كل هذا معروف، بطبيعة الحال، لكن الكاتب يأخذنا في سرد شيق ومؤلم في الوقت ذاته إلى ظروف خسارة العرب العمانيين لهذا الجزء من بلادهم. فيذكر أنه في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها زنجبار عام 1963 بـُعيد حصولها على الاستقلال من بريطانيا في تلك السنة وإقامة حكم ملكي دستوري، احتفظ حزب زنجبار القومي (الحزب الأفروشيرازي الماركسي) بأغلبيته البرلمانية، فيما عمل السلطان جمشيد على المحافظة على قبضة العرب على الجزيرة، الأمر الذي ولد أحقادا لدى السكان الأفارقة تطورت إلى استهداف السكان العرب بالقتل بقيادة أحد ملاك الأراضي الأوغنديين ويدعى «جون أوكيلو»، فكانت النتيجة حدوث مجازر راح ضحيتها ما بين 5000 و15000 مواطن من أصول عربية عمانية. وفي صبيحة 12 يناير 1964 قام مئات من المسلحين الأفارقة بخلع السلطان ونفيه مع عائلته إلى لندن، وفي اليوم التالي «وضعوا الرجال المسنين في شاحنة والنساء والأطفال في شاحنة أخرى، وتم اقتيادهم إلى ملعب كرة قدم حيث تم قتلهم بدم بارد».
وبسقوط الحكم العربي في زنجبار، بعد بضعة أشهر من نيلها الاستقلال، شعر العرب الذين قدرت لهم النجاة من البطش والقتل والتصفية أن عليهم الفرار. وقتها كانت سلطنة عمان تعيش في عزلة تامة تحت حكم السلطان سعيد بن تيمور، وكانت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متخلفة مقارنة بأحوال زنجبار المزدهرة، لذا فضل الكثيرون من الزنجباريين العرب، الذين كانوا قد هاجروا إلى زنجبار من عمان واليمن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ترك ممتلكاتهم والفرار إلى بريطانيا ومصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، لكنهم عادوا على دفعات إلى عمان في أعقاب وصول السلطان الراحل قابوس بن سعيد إلى الحكم في يوليو 1970، حيث بدا جليا أن السلطان قابوس يريد تحديث بلاده بالاعتماد على الشتات العماني، ومنهم الشتات الزنجباري المتعلم والمؤهل والمتمكن من اللغة الإنجليزية، فأصدر تعليمات تدعوهم للمجيء إلى عُمان لبناء الوطن.
وفي هذا السياق كتب أحد الزنجباريين الفارين إلى مصر وهو حارث الغساني ما مفاده أن بلد أسلافه (أي عمان) كان يعج بالفرص، فآثر العودة حيث منح الجنسية العمانية وتم توظيفه في شركة «تنمية نفط عمان» بسبب تعليمه الأساسي المتقدم في أفريقيا، ثم واصل تعليمه حتى حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية العريقة. والغساني ليس سوى نموذج للزنجباريين، الذين كانوا في الغالب ينحدرون من قبائل المناطق الشرقية العمانية ومحافظات الداخل العماني مثل نزوى، والذين راحوا يعودون تباعاً، فحصلوا على جوازات سفر عُمانية وتبوأوا تدريجياً مناصب هامة في القطاعات السياسية والاقتصادية. وتوضح الدكتورة «نفلة الخروصي» أن «الزنجباريين يتميزون بمعرفة اللغة السواحيلية، وتتميز نسبة كبيرة منهم بعدم تمكّنهم من اللغة العربية أو يلفتون الانتباه بلكنتهم، لكن الكثير منهم يتقنون اللغة الإنكليزية مما ساهم في نجاحهم المهني في مجالات مختلفة». وعلى الرغم من هذه الاختلافات كانت قبائل الأسلاف تستقبل باعتزاز هذه القوى العاملة المؤهلة.
ما سبق كان مقدمة للحديث عن واحد من العائدين الزنجباريين (يتجاوز عددهم اليوم أكثر من مائة ألف نسمة، مشكلين بذلك أكثر من 5 بالمائة من إجمالي عدد السكان) ممن تألقوا في السلطنة في المجال الأكاديمي والفني وهو الدكتور إبراهيم بن نور بن شريف البكري.
ولد البكري في زنجبارفي عام 1941 لعائلة عربية من أصول عمانية كانت ذات يوم تحكم مدينة «مركة» الصومالية، وحافظ كالكثيرين من أقرانه على هويته العربية والإسلامية، وتميز عنهم بالمحافظة على نسخ عديدة من المخطوطات السواحيلية النادرة حتى عام 1930 من تلك التي نـُقلت أصولها إلى المكتبات الأوروبية. لكنه كغيره تعرض للاضطهاد بــٌعيد سقوط الحكم العربي في زنجبار، فآثر الفرار خصوصا بعد اعتقال والده وإيداعه السجن، تاركا مرابع طفولته وصباه وذكرياته وأحلامه، ومتخليا عن ممتلكات عائلته الثرية التي استولى عليها الانقلابيون الأفارقة. يشير الرجل إلى ذلك بمرارة قائلا إن «الأفارقة لم يعتنوا بما تركناه ولم يستثمروه لصالح الناس.. كان همهم التخلص منا لأننا من وجهة نظرهم مسؤولون عن الرق». وحول الجزئية الأخيرة قال: «لم يشارك العرب إلا قليلا في هذه التجارة إذا ما قورنوا بالبرتغاليين! والذين كان لهم عبيد يطلقون عليهم اسم اللآلئ»، مضيفا: «في الكتب المدرسية التي تتطرق للعبودية استبدلوا النخاس الغربي بالنخاس العربي». وهو إذ لم ينكر مسؤولية العرب العمانيين عن الرق إلا أنه ألقى المسؤولية أيضا على الهنود الذين قاموا بتمويل هذه التجارة وعلى القادة الأفارقة الذين قاموا بأسر العبيد وبيعهم من أجل المال، وبالتالي لا ينبغي أن يوجه اللوم فقط للمسلمين العمانيين العرب.
رغم أنه كان في الرابعة من عمره في يوم 12 يناير 1964 حينما وقعت أحداث زنجبار المأساوية، إلا أنه تذكرها فروى مشاهدها للصحفي الفرنسي مولير بدقة، قائلا ما مفاده إنه مرت في ذلك اليوم عصابة مشكلة من 15 رجلاً مسلحاً أمام منزل عائلته، وكان بعضهم يعطي التعليمات بقتل العمانيين، ورأى عمته الحامل يــُلقى القبض عليها، ويفتح بطنها بالمنجل ويخرج منها جنينها، مضيفا: «كلُّ واحد منا له فقيد... أتذكر رجلاً أطلق عليه الرصاص على الشاطئ ولم يمت على الفور. لقد سمعناه لمدة ثلاثة أيام وهو يصرخ: ساعدوني، ساعدوني»، ويستطرد: «لا يمكن وصف ما حدث بثورة أو مجزرة.. لقد كانت إبادة عرقية جماعية».
بعد تركه زنجبار عاش البكري في الكويت وإمارات الساحل المتصالح (دولة الإمارات العربية المتحدة) حيث ساعدته مؤهلاته الجامعية واللغوية على العمل في وظائف مختلفة لعدة سنوات حتى عام 1974، وهو العام الذي قرر فيه العودة إلى أرض أجداده، فوصل إلى مسقط للمشاركة في عملية التنمية من الصفر.
درس البكري في عدد من الجامعات الأفريقية، كما درس في الولايات المتحدة لاحقا، بل إنه قام بتدريس الفن واللغة السواحيلية في قسم اللغات بجامعة رتجرز في ولاية نيوجيرسي الأمريكية. أما في سلطنة عمان فقد التحق بهيئة التدريس في جامعة السلطان قابوس وتدرج فيها حتى صار رئيسا لقسم التربية الفنية التابع لكلية التربية بدرجة بروفيسور. وفي أعقاب تقاعده من العمل الأكاديمي وجه كل جهوده وطاقاته نحو الفن، حتى غدا اليوم واحدا من أبرز الفنانين التشكيليين والمصورين في سلطنة عمان ممن يتحفون الجمهور من وقت إلى آخر بمعارض فنية تلقى الإشادة من كبار المسؤولين. فتعليقا على معرض أقامه تحت عنوان «عمان جنة الرسامين ونعيم المصورين» بمسقط في فبراير 2017 قال الدكتور علي بن سعود البيماني رئيس جامعة السلطان قابوس: «أمضى البروفيسور إبراهيم بن نور البكري جزءًا كبيرًا من حياته جائبًا السلطنة بمعدّات التصوير وأدوات الرسمِ الخاصة به، حاملا معه إحساسًا فنيًّا عميقًا يُترجمهُ في صورٍ ورسوماتٍ فنيَّةٍ لا تملِكُ إلا أن تقِف مُنبهرًا أمام جمالها. ترى كاميرا البكري عُمان كما لم نرها من قبل، فحينما تتنقلُ ببصرك من لوحةٍ إلى أخرى تشعر وكأن غمامةً تنكشف عن عينيك لتُبصر تفاصيلَ عميقة الجمالِ لهذه الأرض الغالية، فتوقظ حواسك وتتسربُ إليها تدريجيًا. ولأن مهمةَ الفنان تتمثلُ في كشف أسرار الجمال بطريقةٍ مميزةٍ، فقد حرِص البكري على أن يخطو على النهج ذاته، فإذا ما أبصرت خلال عدستهِ، ترى تفاصيل نقية للسماء والخليجِ والبحر والخوْرِ والشلالِ والجبل والجدول والصخرِ والوادي مشبعةً بألوان نابضةٍ بالحياة، تحبِسُ أنفاسَك فتتأملها تأملا يُثير في نفسك دهشةً وتساؤلا».
أما البروفسور يوجين جونسون أستاذ علوم الحيوان والبيطرة بكلية العلوم الزراعية والبحرية في جامعة قابوس فقد كان من رأيه أن البكري: «نجح في توثيق المعالم الطبيعية لسلطنة عمان بصورة إبداعية ومتقنة جسدها في سلسلة من اللوحات وكذلك مجموعة رائعة من الصور الفوتوغرافية». وأضاف مستطردا: «في استعراض عمل البروفيسور إبراهيم قد يكون من المغري أن نبحث عن الأماكن التي تم عرضها، إذ يمكن للمرء لدى وصوله لمكان معين أن يصاب بخيبة أمل لأنه لم يجد المشهد المحدد، على الرغم من أن جميع عناصر هذا المشهد موجودة: الأشجار، والماء، والكثبان الرملية والجبال أو الحصون في أعلى التلة، لكنها لن تكون في الفكرة نفسها التي رسمها الفنان. وفي الواقع، هنا يكمن جوهر تصوير المناظر الطبيعية، وخلق المزاج الذي يسمح للمشاهد ليس فقط لمعرفة ما رأى الفنان ولكن أهم من ذلك بكثير، مشاركته في السبب الذي جعلت تلك المناظر تحرك عاطفة الفنان وتدفعه إلى الإبداع، كما أن هناك لحظةً معينةً، عندما تقدم المناظر الطبيعية نفسها للمشاهد في منظر تسحره وتؤثر فيه وذلك ما سعى إليه البروفيسور إبراهيم في التقاط تلك اللحظات وتوثيقها، بالإضافة إلى ذلك فقد فتحت صور ولوحات البروفيسور إبراهيم الباب للمشاهد إلى دراسة المناظر الخلابة المتنوعة للسلطنة وبالتالي تحفيزه وتشجيعه لاحترام الطبيعة وضمان مشاهدة الأجيال القادمة لهذه الإبداعات الربانية».
قال الفنان البروفيسور إبراهيم البكري عن أعماله المدهشة: «البيئة العمانية جميلة للغاية وأسعى أن أحرك هذا الإحساس بالجمال لدى جميع زوار معارضي الفنية بشكل عام والمتخصصين في مجال الفن بشكل خاص، ولا داعي للذهاب إلى خارج البلاد لرسم الطبيعة فالله تعالى قد حبا السلطنة بطبيعة خلابة يمكن للجميع أن يستمتع بها مثلما استمتعت أنا وفي كل جزء، وفي كل بقعة منها هناك أماكن رائعة تستحق النظر والتأمل وإنتاج أعمال فنية متميزة». وحول مزجه بين التصوير والرسم قال: «أتعلم كل يوم شيئًا جديدًا ورحلتي في هذه الحياة تعلمني أن أشكر خالقي الذي قدم لي الكثير من الأشياء الجميلة».
والحقيقة أن المرء لا يستطيع أن يفصل إبراهيم البكري الرسام عن إبراهيم البكري المصور. على أن البكري إنسان متعدد المواهب، فعلاوة على براعته في الفنون التشكليلية والتصوير الفوتوغرافي، فإنه عاشق للأدب والكتابة والشعر. وآية ذلك أنه وضع كتابا عن تاريخ عمان باللغة السواحيلية، ونشر العديد من المقالات السياسية والتاريخية والأدبية ونظم الشعر باللغة السواحيلية ونشره.
وهكذا يمكن القول إنه واحد من الجيل الفني الذي برز في منطقة الخليج متأثرا بالفنون القادمة إلى المنطقة من بقاع مختلفة، ومن أولئك الموهوبين من ذوي الخلفيات الثقافية المتعددة ممن استطاعوا تنمية مواهبهم وصقلها من خلال أفضل المعاهد الفنية المتخصصة، فغدا ملما بالفن على أصوله. وهو من جهة أخرى مشروع ثقافي منفتح على «أجناس مختلفة من الإبداع الفني: قصائد شعرية وترجمات عديدة وإحساس موسيقي وتجارب فنية تشكيلية متنوعة المدارس والنزعات يبوح ببعض منها ويخبئ الأخرى أو يختفي خلفها» بحسب موقع ويسبيرينغ ديالوغ الإلكتروني (15/7/2019).
وبالنسبة له الكلمة هي الأصل وهي التي تتوج كل ما نؤمن به، والقرآن الكريم يقول (اقرأ) والقراءة هنا عملية مساهمة ومزاوجة بين حرف يأخذ طابعًا تشكيليًا وخلفية فكرية وفلسفية. إن تكرار الكلمة يعني تكرار الصورة الحسية، والكلمة تتفاعل في أذهاننا عبر حروفها المنسقة وتتجمع الكلمات لتشكل مفردات شعورية ترتبط بالذاكرة والذهن. والمفردة التشكيلية ــ في نظره ــ لها نفس الفاعلية، فلو أخذنا شجرة كمفردة تشكيلية فإن آلاف الأشجار قد انطبعت في الذاكرة ولكل واحدة خصوصيتها، فهذه الصور التشكيلية مغروسة في اللاشعور وهذا ينطبق على الصخور والرمال و غيرها من الأشكال.
نجد في لوحاته ذات التشكيلات الخطية او ما يطلق عليها الحروفية منحىً صوفيّاً للتكرار وكأننا نسمع ترديد القول الصوفي (الله حيّ الله حيّ) وهذه تأخذنا إلى أبعاد تأملية، فهي لا تخاطب بصر المتلقي فقط بل بصيرته أيضًا، تجول داخل الروح والعقل والعاطفة وتجعل من هذا الثلاثي وحدة متكاملة، وبالتالي تدفع هذه المكونات المتحدة المشاهد إلى التأمل وتعوم في بحر من الفضاء حيث عشق الحروف الواحد للآخر. إنّ تلاصقها وتماسكها يعيدنا إلى الوحدة التي نبعت من التوحيد. ثم تأتي المساحات اللونية الصارخة لتضفي بعدًا آخر على هذه التشكيلية النغمية الصوفية، إذ تحدد بعداً شرقيّاً أفريقيّاً واضحاً متمثلا في حرارة اللون وصخبه وضجيجه في عالم منتظم محكم مدروس.
ورغم الحضور الأفريقي الواضح في لوحاته، إلا أنه حورها لتأخذ البعد الفني الهندسي المعماري العربي الإسلامي بشكل طاغٍ، فنجد أنصاف دوائر ومربعات متداخلة وقاعدة مستطيلة يرتكز عليها قناع بيضوي الشكل يوحي لنا بأنه منفذ للنور كما أن بناء المساحات اللونية يشد الأشكال بعضها بعضًا كالبنيان المرصوص.
من أمثلة لوحاته لوحة أطلق عليها اسم «قنوط ويأس»، وفيها نجد المرأة قد اكتسبت بعدًا أبعد من واقعها، فالرقبة الممتدة والمبالغ فيها، وطريقة احتضانها للطفل تقول لنا بكل علانية ووضوح: هذا ما يعاني منه طفلي، انظروا إليه. وتقدمه للنّاظر بكل قسوة وواقعية. اللوحة تحكي لنا المأساة الأفريقية ــ القحط والجفاف ــ من خلال خطوط محددة قوية ومقتصدة، فلا إسراف في اللون والخطوط، بل إسراف وبذخ في التعبير والعواطف والصدق والألم والجوع.