كتاب ومقالات

القضية الفلسطينية: الإرهاب الفكري

وفاء الرشيد

كنت قبل سنة قد تساءلت في هذه الصفحة بمقال «عندما يجحدك الفلسطيني، كيف ترد؟»، وقد آثرت العودة للموضوع بعد مقال كتبه الزميل محمد الساعد مؤخرا في الاتجاه نفسه.

لست بصدد الحديث عن مواقف المملكة الثابتة من القضية الفلسطينية، فهي معروفة إلى حد القول إن السعودية تحملت من أعباء القضية ما لم تتحمله دولة أخرى، من المشاركة المباشرة في الحرب إلى الدعم السياسي والاقتصادي القوي والثابت.

في أحاديثه في نهاية 2020 في قناة العربية بيّن الأمير بندر بن سلطان من وحي تجربته الديبلوماسية الطويلة كيف فوتت القيادة الفلسطينية على شعبها فرصاً لا تتكرر انتزعتها المملكة بفضل وزنها الدولي الكبير، لكنها لم تلق أي تجاوب، فضاعت الفرص والآمال..

بل إن جزاء السعودية كان التنكر الدائم لها، من ملف الغزو العراقي للكويت عام 1990 الذي كان في عمقه اعتداء سافرا على سيادة ومصالح المملكة إلى الاعتداءات الحوثية الأخيرة المتكررة، حيث الصوت الفلسطيني خافت لا يكاد يسمع...

إن السؤال المطروح بقوة اليوم: لماذا أصبحت المسألة الفلسطينية هي القضية المركزية الوحيدة في العالم العربي، رغم تعدد النكبات وكثرة الملفات والقضايا؟

إذا تركنا جانباً الأطروحة القومية التي عفى عليها الزمان في قراءتها للموضوع الفلسطيني؛ بكونه صراعا حضاريا ووجوديا بين الأمة العربية والاستعمار والصهيونية، لأدركنا أن لهذه القضية أبعادا ثلاثة متمايزة:

يتعلق أحدها بظاهرة احتلال واستعمار لها خلفياتها التاريخية المعروفة، ويتعلق ثانيها بطبيعة التركيبة السياسية للمؤسسات الفلسطينية، ويتعلق ثالثها بالعلاقات العربية الفلسطينية بما فيها المحور السعودي والخليجي.

بالنسبة للجانب الأول، لا خلاف حول كون الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية مداناً ومرفوضاً، وكل القرارات الدولية الإجماعية تعترف بهذه الحقيقة، وقد وضعت آليات عملية لإنهاء الاحتلال من خلال اتفاقية أوسلو 1993 التي وقعتها القيادة الفلسطينية مع إسرائيل، في حين أقرت كل الدول العربية مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز مبادرة المصالحة العربية الشاملة مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلتها سنة 1967. ومن هنا أصبح الموضوع كله قضية تصفية استعمار وفق آليات دولية، ونزع عنه كل الهالة الرومانسية الأسطورية التي واكبته أصلا.

أما الجانب الثاني، فيتعلق بالنظام السياسي الفلسطيني المتولد عن اتفاقية 1993، فلا خلاف على أن القيادات الفلسطينية فشلت أسوأ الفشل في بناء مؤسسات فاعلة صلبة ومستقرة، بل إن السلطة الفلسطينية التي تأسست في رام الله تسللت إليها كل أمراض الحياة السياسية العربية من استبداد وديكتاتورية وفساد مالي وإداري، والأدهى من ذلك كله هو استفحال حالة الانقسام الفلسطيني المتجذرة والعجز المتكرر عن تنظيم انتخابات محلية وتشريعية تضمن تجديد هياكل الدولة ناقصة السيادة. ولقد أثرت هذه المعادلة الداخلية المتردية على قدرة القيادة الفلسطينية على دفع المفاوضات المعطلة مع إسرائيل واستعادة زمام المبادرة الديبلوماسية الدولية.

أما الإطار العربي للموضوع الفلسطيني في أبعاده الخليجية والسعودية، فيمكن تلخيصه في أن القيادة الفلسطينية دأبت على اختطاف القرار الديبلوماسي العربي واحتكار البوصلة القومية في نوع من الإرهاب الفكري الذي من الصعب مواجهته. ما نلمسه اليوم، أنه مع تعدد النكبات العربية في العراق وسوريا وليبيا واليمن...لا يزال الموضوع الفلسطيني يحتكر التعاطف والتأييد، وكأن الإنسان الفلسطيني أهم من غيره، وكأن الدم الفلسطيني أغلى من الدم العربي الآخر.

خلاصة الأمر، إن علينا الانتقال من منطق الخصوصية الفلسطينية إلى أفق عربي وكوني واسع، مع التقيد ببوصلة المصالح الوطنية التي لا بد أن تكون لها الأولوية في أي قرار سيادي في السياسة الخارجية.