كتاب ومقالات

العقيدة السياسية السعودية !

محمد الساعد

كان الإعلان الملكي عن الاحتفال بيوم التأسيس منتظرا ومرحبا به. إعلان يحسم تاريخ تأسيس الدولة السعودية الذي بقي مدار بحث علمي، بسبب ندرة التدوين في تلك المرحلة من تاريخ الجزيرة العربية، إلا أن تطور البحث والمقارنة وسهولة الحصول على وثائق ومراسلات خارجية رصدت رحلة الدولة السعودية الأولى حسمت تفاصيل فترة النشوء.

الإعلان جاء كرسالة واضحة وجلية عن السعودية الجديدة في المئة العام القادمة، دولة سعودية مدنية، أساسها الإسلام، والعروبة فضاؤها، وعقدها الاجتماعي يبدأ من رعاية مصالح الأمة «السعودية»، انطلاقاً من الولاء للدولة وقيادتها وسياساتها ومشاريعها والتنمية المستدامة.

لا بد من التذكير بأن الدول هي في نهاية الأمر كائن حي تتطور وتتغير أحوالها مع الزمن والظروف وحاجتها للتكيف مع التحديات الكبيرة التي تواجهها، فالدولة الإسلامية التي نشأت في المدينة اضطرتها ظروفها السياسية والعسكرية إلى الانتقال من الدولة الدينية الرومانسية البسيطة في حواضر المدينة المنورة إلى دولة مركزية ممتدة من أواسط خرسان إلى شمال الأندلس، وإعادة بنائها على مقاس الإمبراطوريات الموازية في ذلك الوقت، فبدأ إنشاء الدواوين والإدارات المحلية وتعيين الوزراء والولاة وتنظيم أعمال الجيوش والبريد والرواتب والإقطاعات.. إلخ.

لقد تحولت من دولة دينية خالصة خلال الخمسين السنة الأولى في التاريخ الإسلامي إلى دولة مدنية ذات خلفية إسلامية، دافعت عن حياض الإسلام ونشرته، لكنها بنت في الوقت نفسه دولة حديثة في أقاليم الشام وبغداد ومصر والأندلس، واهتمت بعمارتها وهويتها ونشرت العلم ورفعت من شأن العلوم الإنسانية والترجمات.

وقبل الخوض في العقيدة السياسية السعودية في صياغاتها المتدرجة خلال مراحلها الثلاث، يمكن وصف إمارة الدرعية بنواة لدولة مركزية دشنها الإمام محمد بن سعود العام 1727م، واستمرت لأكثر من 300 عام، بجذورها الممتدة لحوالى 800 عام كإمارة في الدرعية على أيدي آبائه وأجداده.

لقد كان خروج الدولة المركزية الحلم في الجزيرة العربية أمراً حتمياً وقدرياً بلا شك، بعد مرحلة عزلة وتيه متعمدة استمرت لأكثر من 1000 عام، بظروف خارجة عن إرادة سكانها.

وعند النظر إلى الإمام محمد بن سعود نظرة أكثر عمقاً وأكثر إنصافاً، وعند تفكيك فترة إمارته على الدرعية، سنجد أن الأمير الشاب محمد بن سعود التقط مبكرا تلك الإرهاصات لخروج دولة عربية مركزية من خارج أسوار إمارة الدرعية، وفهم جيدا أن الحتمية التاريخية تساعده في إنشاء الدولة الحلم ليس له فقط، ولكن لكل المكون السكاني في أقاليم الجزيرة العربية، الذي أضناه التعب والفقر والجوع على أسوار الصحراء، وهو ما تأكد لاحقا عندما بادرت معظم الأقاليم بمخاطبة الإمام أو أبنائه طلبا للانضمام للدولة الفتية، إيماناً بمشروعها وتعلقاً بحلم طال انتظاره.

لقد استطاع الإمام محمد بن سعود بناء دولته استنادا إلى عقيدة سياسية واجتماعية ودينية وعسكرية واضحة، بدءاً من توحيد شطري الدرعية، ثم الانطلاق إلى نجد، ومن ثم باقي أقاليم الجزيرة، كما أن الصفات الشخصية وموهبة الحكم تجلت في حكمته وبعد نظره عند التعامل مع الأحداث المحلية التي واجهته قبل توليه زمام الإمارة أو بعدها.

العقيدة السياسية التي وضع أسسها الإمام محمد بن سعود أنتجت ازدهارا للحركة الاقتصادية والعلمية في نجد وبقية الأقاليم المنضوية، بعدما فرض الأمن والأمان وهما المظلة التي دفعت نجداً لاستعادة دورها الحيوي بين أقاليم الجزيرة كحلقة وصل وطريق لقوافل الحجاج، وسوق مركزية للقوافل التجارية القادمة من العراق والمشرق الإسلامي باتجاه الحرمين، أو القادمة من جنوب الجزيرة وساحل عمان باتجاه الشمال والعكس.

الاهتمام بالبيت الداخلي الذي وضع لبناته الإمام محمد ظهرت نتائجه سريعا في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود الإمام الثاني بعد والده، في الانتقال من طور الدولة المحلية إلى الفضاء العربي والدولي خارج الجزيرة العربية، فالاتصالات والرسائل بين الإمام والسلاطين والحكام العرب والغربيين بدأت في عهده، مؤكدة أن الدولة السعودية لفتت انتباه القوى المؤثرة في العالم وأعادت للجزيرة العربية هيبتها وأهميتها.