كتاب ومقالات

هل نحن نعيش الماضي؟

أسامة يماني

العقل العربي يجتر ويسترجع أحداثاً ماضيه. يعتقد أن ما ساد به الأجداد هو الحل والطريق لحاضرهم. بهذه البساطة في الطرح والقياس الفاسد، أفسد العقل العربي حاضره، وأغلق باب المستقبل. لقد أصبحت الأمة حبيسة ماضيها، لا ترى الحاضر، ولا تقدر على أن تتطلع لمستقبل.

الحضارة السابقة التي نتغنى بها والتعصب الطائفي والمذهبي والحزبي والتأثر بالخطاب الديني والعاطفي أصبحت سمة من سمات العقل العربي. يقول البروفيسور ميلاد الحراثي «العمل على تحرير العقل العربي وتحويله من عقل متُلقٍّ إلى عقل تخليقي من خلال زجه في أتون معارك التفكير والتأمل والتعامل مع المستقبل وبوسائل التفكيك التحليلي لذاكرته ووسائطها المُعطلة لنهوضهِ في محاولة لجرهِ للاستيقاظ من حاضرة ماضيهِ. كل ما أفرزهُ العقل العربي من مدارك وعلوم وتصورات وتضحيات لا يخرجُ عن إطار تفكيكه للماضي، بمعني ماضيه .... لقد دأب العقل العربي دوما بالانشغال بتفكيك ماضيه واعتقاده طريق الصواب خطأً في حيلة من الحِيّل التي يمارسها العقل العربي للهروب من مهمة استدعاء مستقبلهِ. لقد دفع العقل العربي أثماناً باهظة نظير انشغالهِ المستمر بتفكيك الماضي، وعجزهِ للخروج منهُ».

إن الانكفاء على الماضي ومحاولة تفكيكه وتطويره سيجعلنا منشغلين بالماضي بدلاً من أن ننشغل بالمستقبل. ويرى البروفيسور ميلاد في كتابه العقل العربي «أن الدين في عمومه يرتبط بشدة بالغريزة التي أوجدها الله في الإنسان، والتي هي بدورها مرتبطة بالخوف، وعليه فإن الحديث في الدين والغلو فيه وعمومه محفوف دائماً بالمخاطر كونه بلاغاً إلى العقل الفرداني مباشرة ومتصلاً بالذات الفردانية إلى الذات العليا في الكون. أشار الكتاب إلى أن العقل الغربي سبق العقل العربي في أن تنبه وتيقن إلى هذه الجدلية وترك مسألة الدين للذات الفردانية ونزعها عقلياً من الذات الجمعوية حفاظاً على مكونه العقلي والجمعي والروحي والمعرفي».

لقد تنبه الغرب إلى هذه الإشكالية المعيقة للتقدم فعمل على ترك مسألة الدين للفرد بعيداً عن الجماعة والعقل الجمعي. ولم يفقد الغرب دينهم ومكونهم الروحي. في حين نجد في عالمنا العربي أن بعض المجتمعات العربية هي التي ترعى الدين، وعملت على خلق مجتمعها الخاص، وهي التي تصنع المجتمع بمقاييسها، وتصنع خطابه الديني والاجتماعي، وتصنع له المثقف، وبالتالي هي المسؤولة، واستغل رجال الصحوة والإخوان المسلمين هذا الواقع فعملوا على توطين الخطاب بمعايير سلطوية قاهرة للتفكر والتنوير.

لقد خلص الدكتور محمد عابد الجابري إلى أنه لا يمكن قيام نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يراجع مفاهيمه وآلياته وتصوراته ويخضعها للنقد. وقد وصف الدكتور الجابري، «العقل العربي بأنه عقل معياري في مقابل العقل الغربي الموضوعي، العقل المعياري، عقل اختزالي عاطفي، تجزيئي، غيبي، لا يعتمد التحليل والتركيب منهجاً بحثياً، يهرب إلى الماضي، ولا يمتلك أهلية إدراك حركة التاريخ، ولا يشرف آفاق المستقبل، ولا يساهم في صنعه، منشغل بالتغني بالأمجاد والمآثر والانتصارات الماضية، وتمجيد الرموز والشخصيات التاريخية التي صنعها القدماء وقدسها الأجيال، في غفلة عن الواقع الحاضر، وتغييب للفكر المستقبلي».

نحن نعيش الماضي ومنشغلون به مكبلون في أغلاله التي أفشلت كل حركات الإصلاح وأفرزت فكراً مؤدلجاً متقوقعاً في ماضٍ سحيق يصعب الانعتاق والانفلات منه؛ لذا فإن الخروج منه أصبح ضرورة للمضي قدماً للمستقبل.