كتاب ومقالات

الشعر وثيقة التأسيس الأولى

منى المالكي

يحتل الشعر المرتبة الأولى من بين أجناس القول، والسبب هو الذاكرة الشفهية التي يتمتع بها إنسان الصحراء الذي كان أقرب إلى الشعر حفظا وتلقّيا، منه عن الكتابة التي كانت سمة النثر وإن كان السرد الحكائي والأمثال السائرة والومضات النثرية المسجوعة واضحة وظاهرة في الخطاب المحكي إلا أن صيغتها النثرية وطبيعتها الحضارية أقرب إلى الشعر، ومن هنا نصل إلى أن الشعر هو الذاكرة الأولى للإنسان العربي سواء على مستوى الشعر الفصيح أو الشعبي، فالشعر راصد للأحداث التاريخية وسجل توثيقي للأماكن والمعارف الفلكية والعادات والتقاليد الاجتماعية، فهو حاجة ضرورية في ظل غياب الكتابة وليس ترفا مدنيا كما هو الحال في الحواضر، وتعد «المعلقات» -القصائد العربية المطولة التي قيل في تعليل تسميتها تعلقها بالذاكرة العربية حفظا وعدم نسيانها رغم أن أبياتها تتجاوز المائة- تعد تلك المعلقات وثيقة معرفية مهمة لتدوين تلك الحقبة التاريخية لنوثق من خلالها الثقافة المتداولة بأنماطها المختلفة المتعددة والصدامات السياسية والتحولات الاجتماعية المهمة.

يذهب د. مرسل فالح العجمي في كتابه «الجمل والنخل.. دراسة في العلاقات بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي» أن الحقبة الصحراوية بدءا من القرن الثامن الهجري إلى ما قبل النهضة العمرانية في المملكة صورة طبق الأصل، صورة زنكوغرافية للشعر العربي في حقبته الأولى، وتكاد تكون ظلالا له، سواء على المستوى الفني، أو المستوى التاريخي التوثيقي المعرفي، لذلك دراسة الشعر النبطي لمرحلة التأسيس هو البداية الحقيقية لتحليل وتفكيك تلك المرحلة معرفيا لتوثيقها تاريخيا في ندرة واضحة لتلك الرحلات الاستكشافية والصور التي سجلتها عدسات الرحالة أو الكتابات حول تلك المرحلة وحتى إن وجدت فهي شذرات متناثرة هنا وهناك.

السؤال هنا هو ماهي آليات التوثيق التي سنعتمد الشعر أداة مهمة لها؟ يتفرع التوثيق إلى جانبين مهمين: أولا: توثيق الأحداث: والشعر هنا ينحو المنحى التاريخي فالشعر سجل تاريخي للأحداث السياسية من ناحية الاستقرار السياسي أو جانب بالمعارك والمغازي. ثانيا: توثيق الظواهر: ويظهر الشعر هنا بمعناه المعرفي الذي يتعلّق بالعلوم والمعارف الإنسانية، أو المعارف الفلكية المتعلّقة بجانب حياتي مهم هو الزراعة ومواسم الأمطار والحصاد، وكلا التوثيقين التاريخي والمعرفي يستند إلى فكرة «أن التاريخ متعلّقٌ بحركة الزمان وأحداثه، سواء كانت أحداثا إنسانية أو أحداثا كونية».

إلى جانب وثائق مهمة يستند عليها الباحث في دراسته التاريخية يبرز الشعر أمامه وثيقة مهمة لا يمكن تجاوزها إلا بما يدحضها مثلا ما يتعلق بالجوهرة بنت الإمام تركي بن عبدالله آل سعود؛ حيث تقول بعض الروايات إنها لم تتزوج من الأمير عبدالله بن رشيد لكن هذا النفي ليس له شواهد ولم يرد في أي مرجع من المراجع ما يثبته، أما الروايات التي تثبت الزواج فإن لها شواهد شعرية ولذلك وجهات نظر متباينة، وعند البحث وجدت في كتاب «نساء شهيرات من نجد» للدكتورة دلال الحربي روايات مختلفة لهذه الحادثة فدحضت الباحثة هذه الرواية ورجحت ما وجدت له الدليل الأقوى بدليل قاطع ولذلك تأتي ترجيحاتها موثقة وليس كيفما اتفق، وهنا تظهر قوة الشواهد الشعرية في إثبات ما غفل عنه التاريخ تسجيلا وحضورا.

نأتي إلى جانب مهم وهو حضور المرأة في الفعل الثقافي في تلك المرحلة أقصد مرحلة التأسيس، لا يمكن اتهام مرحلة التأسيس بإقصاء وتهميش المرأة وإضعاف دورها في المشاركة لأكثر من سبب، لعل أهمها هو حضورها الواضح في معركة التوحيد اللاحقة وبروز أسماء مهمة مثل الأميرة نورة بنت عبد الرحمن السيدة الأولى مثلا، والوصول إلى المشاركة الفعلية في بناء «الدرعية» عاصمة التأسيس الأولى، وتبرز الأسئلة المهمة هنا: كيف كان حجم مشاركة المرأة في حقبة التأسيس؟ ماهي الأسماء الفاعلة في تلك المرحلة؟ ماهي الأدوار المنوطة بالمرأة؟ فمشروع «التاريخ الشفوي للمرأة في الدرعية» الذي أطلقته هيئة تطوير بوابة الدرعية والذي يهدف إلى تسجيل الروايات والقصص لتوثيق روايات وشهادات كبار السن عن الأحداث التاريخية والتراثية هذه خطوة مهمة على طريق طويل وإن كانت الحقبة الزمانية مختلفة بين مشروع الهيئة وحقبة التأسيس ولكن الفكرة مهمة والعمل على توسيع مدتها الزمانية لتشمل مرحلة التأسيس بأدوات معرفية متعددة يبرز الشعر أهمها للتوثيق في جانبيه التاريخي والمعرفي مشروع وطني مهم.