كتاب ومقالات

حديث لم نسمعه من ولي عهد أو ملك

وفاء الرشيد

تطرق سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «ذي أتلنتيك» الأمريكية إلى ملف الإصلاح الديني بالسعودية بكل صراحة وشجاعة لم يتبنَها أي قائد للدولة قبله، «فالحديث عن مناقشة الشريعة الإسلامية ليس أمرا نسمعه عادة من ولي عهد أو ملك»...

مقابلة هي ليست للتصفح السريع بل تستحق الوقوف والتمعن والتأمل...

الدولة السعودية منذ نشأتها قامت على مفهوم الإصلاح الديني، ولكن هذا الإصلاح الديني يبنى على مرتكزات كبرى أهمها بالطبع الشرعية الدينية للنظام والتماهي الديني مع ثقافة المجتمع وقيمه، والفصل بين السلطات من أجل منح القضاء والفتوى مرجعيتهما المستقلة ضمن معايير تنظيم الحقل الديني.

من أساسيات الانقسام في العالم الإسلامي بين المسلمين المتطرفين وبقية المسلمين هو الحديث... فالأحاديث المتواترة لا تتعدى مائة حديث، وبالمقابل هناك آلاف الأحاديث التي لم تثبت والتي كانت وسيلة لتبرير الكثير من الإجرام والظلم الذي وقع على الناس عبر القاعدة وداعش وتجار الدين الذين كانوا يتسكعون بيننا...

بين سمو الأمير بمقابلته أن المعني بالشرعية الدينية هو دائرة القطعيات التي تنتصر في النص القرآني المنزل والأحاديث المتواترة التي لا شك في نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم مع الاستئناس بأحاديث الآحاد الصحيحة التي يتعين عرضها على المصادر اليقينية التي لا شك فيها. ومع أن هذا الموقف يتناسب مع موقف علماء السنة في كل العصور، إلا أنه طمس في العقود الأخيرة التي سيطرت فيها الأفكار المغلقة الرافضة لكل تأويل واجتهاد. من تداعيات هذا الموقف الانفتاح على كل مذاهب الإسلام واستثمار مساحة الاختلاف الواسعة في علوم الشرع بدل الانغلاق في أحكام فردية ندعي لها العصمة في حين أنها مجرد اجتهادات محدودة يؤخذ منها ويرد. لقد ذهب جمهور أهل السنة أن أحاديث الآحاد وإن كانت صحيحة إلا أنها لا تفيد العلم لأنها ظنية، أن كان يؤخذ بها في العمل في الأمور العبادية، أما إدخالها في شؤون الاعتقاد واتخاذها وسيلة لفرض أحكام وتاويلات بعينها خارج السياق العام لمقاصد الشريعة فلا مسوغ له. وهكذا حسمت نظم الدولة في الكثير من المسائل الخلافية لصالح الانفتاح والتحديث دون الخروج من الشرعية العامة للدين، كما حدث مؤخرا في مسائل الموسيقى والترفيه وأحكام الأسرة.. إلخ.

أما ثقافة المجتمع فهي في كل بلد مادة القانون ومرجعيته، ولا يتصور في أي دولة أن تخرج القوانين والنظم عن معايير وقيم ثقافة المجتمع. ولذا كان من الطبيعي أن تعتمد الدولة الراعية للحرمين الشريفين التي يتكون شعبها من كتلة تدين بالكامل بالإسلام مقتضيات الشريعة وتعتبرها مرجعية عليا لا سبيل للمحيد عنها. لكن لا بد من التمييز بين ثقافة المجتمع المتوازنة المتكيفة مع الحياة والمدنية والحركات الأيديولوجية والمتطرفة التي تريد أن تفرض تفسيرا متشددا وعنيفا للإسلام يتناقض مع ثقافة المجتمع مثل تيار الإخوان المسلمين والنزاعات السلفية الراديكالية.. إن نهج الإصلاح الديني يفرض محاربة التيارات التكفيرية والدعوات المتطرفة التي من شأنها أن تؤدي إلى تفجير المجتمع من الداخل بالقضاء على ثقافته التي هي أساس التعايش المشترك بين أفراده وأساس التعامل والتفاعل مع الآخرين.

الفصل بين السلطات هو من ثوابت الدولة السعودية اليوم، الدولة التي حفظت للقضاء استقلاليته ومنحت الجهات المكلفة بالإفتاء كامل صلاحياتها، فالدولة لها سلطة التعيين لا سلطة الإدارة والتحكم في هذه المجالات كما بين سمو الأمير في مقابلته المذكورة. إن هذا النهج هو أساس النظم السياسية الحديثة التي لا يمكن حصرها في شكل واحد هو الديمقراطية الليبرالية الغربية التي لها تاريخ معروف وسياق اجتماعي محدد.

لضمان العدالة وسيادة القانون قال الأمير، إن احترام مبدأ الفصل بين السلطات أي بين دائرة التنفيذ الحكومية ودائرة النظام والقضاء وتحقيق مطلب التشاور والمشاركة، وهي أمور تحققت في نظامنا السياسي وأظهرت نجاحاتها العملية التي تتناسب مع طبيعة مجتمعنا وتركيبته الثقافية والأهلية.

عاش الملك للعلم والوطن...