9 آلاف سنة تاريخ أول سكنى للبشر في فرسان

الـ«جدتان» بانيهما واحد

جولة: سلطان الحمزي

في الحلقة الماضية توقفنا عند سكنى الكنعانيين لفرسان ، وقد ذكر ذلك عبدالرحمن الرفاعي في إطار تحليله الباحث عن إجابة على سؤالنا إن كان فعلا وجد بفرسان مدينة تدعى جدة؟ ونترككم مع الرفاعي وهويواصل البحث عن أدلة سكنى الكنعانيين في فرسان فيقول :
اذا كانوا قد استدلوا على سكنى الفينيقيين بالبحرين قبل التاريخ بوجود الكثير من القبور المنتشرة على أرض البحرين بالذات، وغيرها من الخرج والافلاج والمويه، والتي أكد الباحثون انها كانت للفينيقيين وذلك لتطابق الكثير من الأوصاف لتلك القبور ومن بداخلها، وبين ما عرف عن الفينيقيين فانا نقول ان بالارخبيل الفرساني كثيرا من القبور المتناثرة على ارضه وهي كتلك التي وجدت بالبحرين ولاتزال شاخصة الى وقتنا الحاضر وهنا قد تأتي وتقول : ولم لا تكون تلك القبور المنتشرة بأرض فرسان، هي قبور فينيقية؟ وما اوجه الشبه لاتخاذك البحرين للمقارنة؟
فينيقية أم كنعانية
ولهذا المعترض نقول: اما ان تكون هذه القبور فينيقية، فهذا امر مستبعد تماما، لاسباب كثيرة، اهمها ما سبق الاشارة اليه من عبور الفينيقيين عبر الخطوط الشرقية البعيدة جدا عن بلاد فرسان، ولأن احداً من الباحثين لم يؤكد ذلك، بل لم يشر اليه حتى اشارة، ولأن التاريخ أكد أن من مال ناحية الشواطئ الغربية واتجه جهة الغرب في رحلته هم الكنعانيون.
بناء على كل المعطيات التاريخية - كان نزولهم بأرض بلاد فرسان قبل فصلها بزمن كبير جدا، قد يقدر بما يقرب من سابقه او يقل، بدليل ان الكثير من الجيولوجيين -كما سبق - رأيناهم يقولون: (ان الشعب المرجانية الموجودة حاليا بأرخبيل فرسان تعد حديثة نسبيا من الناحية الجيولوجية، اذ يقدر عمرها بنحو سبعة الاف سنة تقريبا)، وهو زمن متواضع لسكنى الكنعانيين، بفرسان قبل فصلها، لأن هذه السبعة آلاف سنة التي قدرها الباحثون انما هي لفصل هذا الارخبيل وسكناهم بالطبع كانت قبل الفصل وعلى هذا يكون زمن سكناهم به أكبر من الزمن الذي قدر للفصل، بدليل ان أي تقدير قيل لخروج شعوب جزيرة العرب من مواقعهم الاولى يؤكد سكنى الكنعانيين بأرض فرسان قبل فصلها، فهذا شعب معين، وهو واحد من مجموع شعوب جنوب جزيرة العرب، الذين خرجوا الى شمالها، وثبت لدى الباحثين ان خروجهم قد كان متأخرا بأزمان كبيرة عن خروج الكنعانيين نجد -ايضا- الباحثين يقولون إن هذا الشعب - معين - قد ورد ذكره في اقدم اثار بابل سنة "3750ق،م" .. فاذا قلنا ان اتصال شعب معين بأرض بابل كان قبل الميلاد بحوالى أربعة آلاف سنة او اكثر.
ويضيف: اذن فكم كان زمن خروج الكنعانيين، الذين كانوا -بالطبع - قبل وجود حتى اسم معين بزمن كبير، وعلى ذلك ارى ان خروج الكنعانيين من مواقعهم الاولى، وسكناهم بالبلاد الفرسانية كان في زمن لايقل - ان لم يكن اكثر - عن ثمانية الى تسعة الاف سنة من الان.. وليس كل ما ذكر قط لتأكيد سكنى الكنعانيين بالبلاد الفرسانية، من اوجه شبه بينها وبين البحرين الفينيقية، بل نستطيع ان نقول ان هناك امورا كثيرة، تؤكد ذلك الشبه والترابط بين الوجود الفينيقي بالأرض البحرينية واخوتهم الكنعانيين بالأرض الفرسانية، من ذلك نجد ان التنافس بينهم كان شديدا بايجاد الآثار التي تذكرهم وتجعلهم دائما مشدودين بموطنهم الأول، لذلك تجد ان كل ما يعمله الفينيقيون بمواقعهم يعمله الكنعانيون، فحينما بنى الفينيقيون موقعا بالبحرين وأسموها (المحرق) نجد الكنعانيين يعملون مثلهم على الأرض التي سميت بفرسان فيبنون موقعاً ويسمونه مثلهم (بالمحرق)، وما ذلك الا انهم تركوا موقعاً بموطنهم الأول كان يسمى بذلك.. وحينما يخرج الفينيقيون الى بلاد الشام ويبنون بها ما أسموه (بصور) ترى الكنعانيين يبادرون لبناء مدينة بالأرض الفرسانية اسموها مثل اخوتهم (صور) وهذا أكده ابن المجاور بقوله: (إن بفرسان مدينتين كبيرتين، احداهما صور والثانية جدة... الخ...).
الغوص واللؤلؤ
وكما بذر الفينيقيون بكل أرض الخليج حبهم للغوص وعشقهم لاستخراج اللؤلؤ، وحب البحر، فهذا بعينه ما بذره الكنعانيون بالبلاد الفرسانية من حب للغوص وعشق لاستخراج اللؤلؤ، وليس هذا فحسب، بل هناك امور كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها،.. ثم ان ذلك البعد الزمني لسكنى الكنعانيين بأراضي البلاد الفرسانية قبل فصلها يؤكده تتالي افواج القبائل التي سكنت بهذه الاراضي بعدهم، ثم ان استقراء تاريخ هذه الأرض، يوضح ان ممن سكن بها بعد الكنعانيين -العماليق- وكان ذا أثر وتأثير- وان كان قد يكون هناك من سكن قبلهم هم القضاعيون، وطبعاً ليس كل القضاعيين، بل بعض القبائل والبطون منهم، لا سيما بطون من تنوخ تغلب او بعض من اصول تغلب الأم، الذين في عهدهم سميت هذه البلاد بفرسان، والذين في عهدهم ايضاً بنيت مدينة جدة الفرسانية فقد سبق ان رأينا ابن المجاور يشير الى ان بانيها هو مالك بن زهير، بقوله: "وبفرسان مدينتان عامرتان احداهما جدة والثانية صور... بناء الفرس، والأصح بناء مالك بن زهير... ورغم ان ابن المجاور لم يكمل بقية اسم ونسب مالك هذا، إلا أنني أؤكد انه هو (مالك بن زهير بن عمرو بن فهم ابن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة، وهو من تنخت عليه تنوخ.
مالك التنوخي
ويضيف: هنا قد يأتي من يقول: ومن أدراك ان مالكا التنوخي هذا، هو المقصود بمالك بن زهير باني جدة، إذ في القبائل العربية الكثير الكثير ممن كان يدعى بهذا الأسم (مالك بن زهير)؟ وردا على ذلك نقول: ان الذي أكد ذلك أسباب كثيرة، منها ان مالك بن زهير التنوخي يعود في نسبه الى تغلب، وتغلب كانت ذات تواجد وعمق تاريخي كبير بهذه الأرض، حتى انها سميت باسم احدى قبائلها الكبار التي سكنت بها ردحا من الزمن قبل ان تغادر بعض بطونها الى شمال جزيرة العرب، بدليل ان بطونا كثيرة منها تنصرت بالنصرانية بعد الميلاد كان لها عود الى هذه الأرض كدعاة لدين عيسى -عليه الصلاة والسلام- بين من كان قد يفي منهم بهذه الارض حينما غادروها الى الشمال، وهذا يشهد به وجود الكثير من الآثار بهذا الارخبيل الفرساني الآن، من كنائس ونقوش مسندية تؤكد ذلك، ولهذا نجد في كتب التاريخ ان اكثر ساكني فرسان كانوا ينتسبون الى تغلب، وان كان لها بعض من ينتسبون الى كنانة، واظن انهم لحقوا بها بعد الميلاد او قبله بزمن يطول او يقصر وقد اكد اكثر ذلك ابن الكلبي وابن الحائك وغيرهم بقولهم: (وفرسان قبيلة من تغلب، كانوا قديما في فرسان وقد كان لهم فيها كنائس وقد خربت.. وفيهم من كان ينتسب الى كنانة، وقد كان في التغلبيين بأس، وقد حاربهم بنو مجيد.. الخ..).. واذا كان قد ثبت تواجد التغلبيين قبائل وبطونا بهذه الأرض لدرجة أنها سميت بإحدى قبائلها (فرسان) أفلا يكون مالك بن زهير باني جدة هو نفسه مالك التنوخي، وهو تغلبي القبيلة، قضاعي النسب؟ ومما يؤكد ذلك ايضا ان هناك موضعا آخر كما سبق قوله يسمى بهذه التسمية أي جدة، الموضع المعروف على شواطئ مكة (فرضة مكة).
باني الـ«الجدتين»
ويستطرد الرفاعي قائلا:
وهذا الموقع -المدينة- تجد ان التاريخ يثبت أنها قضاعية النسب والبناء، وكذلك السكنى، وعندي ان بانيها هو مالك بن زهير -الآنف الذكر- وذلك لأن الكثير من القضاعيين ولاسيما من كان يعود منهم في نسبه الى التغلبيين خصوصا التنوخيين كانوا لا يستقرون الا على الجدد الساحلية وذلك لسبب كونها طرقا واضحة على أرض صلبة مستوية ساحلية، وهذا ما لحظناه من بطن مالك بن زهير، الذي استقر على السواحل الفرسانية، فلم يرق لهم الا تلك الجدة التي ابتنى عليها مدينة سميت بأرض جدتها، لأن الجدة في الأصل كما تقول اللغة هي (الطريق الواضحة على الأرض المستوية الصلبة على الساحل).. وحينما انتقل اكثر هذا البطن -التنوخي- مع ابيهم وجدناهم لا يستقرون إلا على جدة مشابهة لجدتهم الأولى على الأرض الفرسانية، ولا تستغرب فهذه عادة تنوخية لازمتها في كل تنقلاتها التي عرفت عنها، فقد اثبت التاريخ ان التنوخيين كانوا ينتشرون في كل رحلتهم عبر السهول السواحلية للبحر الأحمر من جنوبه حتى شماله.. وهذا ما حصل مع بطن مالك التنوخي ومن خرج معه من بطنه من جدة فرسان، نراه يبتني بجدتها الساحلية مدينة أخرى سميت بأرضها التي ابتنيت عليها، وهي مدينة جدة المعروفة الآن بفرضة مكة، ولذلك وجدنا التاريخ يحدثنا عن كثير من ابناء القبائل العربية الذين سكنوا بهاتين المدينتين فيما بعد، سواء كانوا قضاعيين او من غيرها انهم ولد لهم أولاد بهاتين المدينتين سموا بإسمها فمن ذلك مثلا ما روى ان (جرم بن ريان بن حلوان القضاعي ولد له بمدينة جدة -فرضة مكة- ولد اسماه باسم المدينة التي ولد بها جده.. كذلك روي ان الاشعر ابن ادد المذحجي حينما سكن وقومه البلاد الفرسانية، ولد له على مدينة جدة الفرسانية ولد أسماه باسم المدينة التي ولد بها (جده).. وهذا كله يؤكد ان هاتين المدينتين المسميتين بجدة قد بنيتا قبل من ولد على أرضها وسمي بها، ومن هذا -أيضا- نخرج ان المدينتين كانتا قضاعيتي النسب، وان بانيهما هو مالك بن زهير التنوخي، كما نص على ذلك التاريخ صراحة، وتلميحا لكل ما سبق، ونخرج ايضا ان القبائل القضاعية، تغلبية كانت أو تنوخية، كانت قد تلت القبائل الكنعانية سكنا لهذه الأرض -الفرسانية- قبل ان تستقر بها القبائل الأشعرية فيما بعد.
عشق الفرسانيين لجدة
واذا كان الكنعانيون قد ابتنوا لهم بأرضها مدينة اسموها (صور) تشير الى اسم مدينتهم الاولى التي تحمل هذا الاسم، وذلك رمز يعلن ارتباطهم بأرضهم الأولى التي خرجوا منها اينما استقروا أو سكنوا، وهذا ما فعلوه بعينه حينما استقروا بأرض الشام، هذا الفعل الذي يحمل معاني الرمزية، وذكرى الحنين نجده يتكرر من القضاعيين الذين لم يكونوا بأقل من اخوتهم -الكنعانيين- الذين سبقوهم إلى ذلك، لذلك وجدناهم حينما استقروا على سواحل الحجاز يبتنون لهم جدة أخرى تذكرهم بجدتهم الأولى على السواحل الفرسانية، لهذا لا نستغرب من عشق الفرسانيين في زمننا هذا لمدينة جدة المعروفة، وهذا ما كنت أبحث عن أسبابه دائما، فالفرساني الذي يذهب إلى جدة يجد في داخله حنينا الى شيء يجب عليه ان يجده، فإذا هو ذهب إلى جدة شعر بتوازن نفسي غريب كان يبحث عن أسبابه، ولذلك تجده لا يستقر بمدينة جيزان كثيرا رغم انها جزء من الأرض الفرسانية، بل يستقر بها استقرار المسافر، وكيف لا يكون ذلك، ولسانه يلهج (أيها الميمم أرضي، أقر من بعضي السلام لبعضي).