كتاب ومقالات

بين سطور حديث ولي العهد

علي بن محمد الرباعي

في كل سانحة يطلّ فيها علينا سمو ولي العهد، في حوار صحفي مقروء أو متلفز، يتأكد للمتابع «الموضوعي»، أن الرّجُل الثاني في الدولة يمتلك ثقافة واسعة، ولديه إحاطة كافية بعلوم الدنيا والدين، والأبرز أن (أبا سلمان) لا يكرر كلاماً سبق أن قاله، ولا يتردد في قول ما يجب، مراعياً دلالات الألفاظ ولوازمها في الذهن والوجود.

بالطبع هناك وراء الكلام كلام لا يقل أهميةً عمّا قيل، يعبّر عنه بفحوى الكلام (ومفهومي المخالفة والموافقة) كما في أصول الفقه، والاستنتاج لأبعاد ما وراء حواره، أطال الله عمره ومتّعه بالصحة وتولاه بالحفظ، يعتمد على تصورات القراءة للمسكوت عنه واللا مفكّر فيه، إذ من الطبيعي أن يكون لقامة رمزية واعتبارية الحق في تمرير بعض الرسائل بين السطور، من خلال جُمل تحتمل أكثر من معنى، ومعنى لا تستوعبه كل الألفاظ.

حديث القائد للشعب ليس حديثاً خاصاً، بل حديث للداخل والخارج، للقريب والبعيد، للحكم وللخصم، للحليف، وللمرجف، وللنُخب كما هو لعامة الشعب.

لا ريب أن تكرار ظهور المسؤول وحديثه الدائم لوسائل الإعلام يتسبب في اغتيال مفاجأة الفرح بالمنجزات، فيما الصمت الطويل يفتح باب الاحتمالات، ويثير التساؤلات، إلا أنّ الأمير محمد بن سلمان لا يأتي إلا في الوقت والموعد اللذين نتشوّف جميعاً لسماعه، كوننا نرى ما يصنعه كل يوم.

حديث ولي العهد عن طبيعة السعودية وطبائع أهلها حديث عن مآثر ومفاخر مكان، ومعدن إنسان، وتراكم خبرات قيادات سعودية عبر الزمان، ما يُلهم صاحب القرار، لتكون قراراته ومشاريعه غير مصنوعة ولا مستنسخة، ولا ينبغي لها أن تكون مسلوخة، طالما لهذا الوطن من العراقة التاريخية والانبساط والتنوع الجغرافي ما يعزز الفخر بالهوّية، ويُحيّر في الاختيار، إضافةً إلى أنّ من يتشبه بالآخرين أو يحاكيهم إفراطاً أو تفريطاً فهو نسخة مُشوَّهَة ومُشوِّهة.

اصطدم مجتمعنا خلال عقود مضت بمخلّفات تاريخية، ورواسب اجتماعية، وثأرات حزبيّة وتياريّة، وكان من محاسن الصُّدف وكرم الأقدار أن تأتي هذه الحقبة الوطنية لتستنهض المجتمع بالقرار نحو مكتسبات ضرورية لا تحتمل مزيد نزاع ولا طول قِراع، وإذا كانت بعضُ القوى تفاخر ببسط نفوذها بحكم ما تملكه من ترسانات تقليدية ونووية، فنحن فخرنا في كسب قلوب الشعوب وعقولها بما نملك من قِيَم وشِيَم ومبادئ.

في اختيار المطبوعة الغربية الجريئة رسالة للإعلام، مفادها أن مَن يطلب الحوار مع الكبار، فلا بد أن يكون في مستوى الحدث وليس بعيداً كثيراً عن ثقافة ولباقة المتحدث، ويملك مفاتيح الإغراء بالردود لاستمرار الحوار.

ومما قرأته بين السطور (هدر دم) من يهدد حياة الناس، وأمن الوطن، واستقرار الدولة، وذلك مشروع ومأمور به بمُحكم القرآن، وصحيح السّنة، فالآيات صرّحت بالقصاص مِن قاتل النفس، ومن المُفسد، المتطاول على الأنفس، والأموال، والأعراض، وعلى قداسة الوطن، ومكانة رموزه.

مثلما هناك مراحل تحتاج للحرق، هناك محطات ومتواليات، تحتاج للاستنبات والسقيا والرعاية والحماية. وحوار ولي العهد عامر بإيقاظ حسّ المواطنين بواجبهم تجاه وطنهم. والتأكيد على هويتهم العربية الإسلامية، إلّا أن الإسلام ليس أيديولوجية مستبدة، ولا دكتاتورية مُسلّحة، بل خيار عقدي وتعبّدي.

المملكة دولة عميقة، وهي فعل وليست ردة الفعل، والقُوى المُنازلة لا تُسلّم بلغة المشاعر الجيّاشة، إلّا في المناسبات الخاصة، كون منطلقها وغايتها المصالح المتبادلة والمكاسب المحتملة والعلاقات المتكافئة والمتميزة، وكلما كانت الدولة قوية ومتأصلّة كانت أكثر قبولاً وأوسع انفتاحاً.

هناك مجتمعات عدة تحاكمنا، وتحكم علينا غيابياً، دون أن تكلّف نفسها مسؤولية البحث والتقصي، أو تبادر بالزيارات للتعرف على المجتمع السعودي عن قُرب، وربما لم يدركوا أن ولي عهدنا خرج بنا من الأقوال إلى الأفعال، ومن التزمت والضيق إلى نبيل السجايا والخصال.

يمكن لأي دولة أن تصنع شعباً متديناً، إلّا أن الإكراه على التديّن الفردي والجماعي يخلق التشوهات النفسية والعقلية، ويمكن أن تتحوّل سُلطة الدِّين لقوة غاشمة منفلتة من قِيم العدل والتسامح، وولي العهد يؤكد أن التصنيفات مرفوضة، والتعدد المذهبي من المسلمات، والطرح الفكري، التنويري، مقبول، والتدوين الحديثي الموثّق والمقصي للتأويلات الباطلة، يُوشك أن يصدر.

ومن العسير أن تنشئ دولة ما شعباً أخلاقياً، فالأخلاق معطى جوهري، يتمتع به نُدرة من عباد الله، ولكن الدولة مؤهلة للجم وكبح جموح وطموح أي انفلات باتجاه الإفراط أو التفريط بلجام القوانين والتشريعات والحزم مع كل بوادر استهانة بالنظام للحفاظ على مرتبة ومكانة الأخلاق في موضعها اللائق بها.

تجربة الشعب المتدين عشناها بكل تجلياتها وتمثلاتها، وكمبارساتها وبطولاتها. إلّا أننا لم نعش إلى أعوام قريبة حقبة الشعب الأخلاقي، ونحن في زمن تحولات مع قيادة وطنية ترى المشهد المحلي والخارجي بوضوح تام، وتعي ما الذي نحتاج إليه، وما الذي يمكن أن نخفف منه، وما الذي يجب الاستغناء عنه.

لم يكنِ الدِّين الرباني مُعطّل حياة، بل منتصراً لها، ولن يقف عائقاً يحول دون تنمية تبني عقل ووجدان الإنسان، فالله أنزل الأديان نزول الغيث النقيّ الهنيّ، متمثلاً في ماء المطر الصافي، إلا أنه إذا اختلط بتربة الأرض اكتسب ألوان جُغرافية هطوله، وكل الجُغرافيات مباينة لصفته الأصلية.

سمو ولي العهد رَجُل دولة، ومسؤول وطني، مسلم، ومثقف، وتشرّب مبادئ الدِّين الحنيف منذ نعومة أظافره، وبحكم التخصص الدراسي، والقُرب من آبائه العظماء، وشيوخه العُلماء، اكتسب دراية بالمُحكم والمتشابه، والقطعي والظني، فالصورة الماثلة أمامه عن التراث واضحة، وما أشكل عليه لن يستنكف عن السؤال، وهذا مما يُعزّز القدرات على الحوار واتخاذ القرار.

ولي العهد يتحدث بصيغة عفوية عميقة، تؤكد إلمامه بكافة تفاصيل مشروعه ورؤيته، وما حديثه عن المتطرفين إلا انطلاق من مشاعر ملايين السعوديين الكارهين للحزبيين والمناوئين للعنف والمؤمنين بالدولة الوطنية المدنية ليعيشوا أسوياء وغير مؤدلجين أدلجةً تشوّش حسّ الانتماء للسعودية وللإنسانية.

في الحوار رسائل خاصة لا يعجز العقلاء عن فك شيفرتها في جميع الدول الإقليمية، فالمملكة دولة مدنية مسالمة، وراعية سلام ، وتمد يدها للسلام الكافل للحقوق والضامن لتطبيق القرارات الأممية.

تقول العرب (الرائدُ لا يكذِب أهله) والرائدُ سيّدُ القوم، كان يسبقهم، ليبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث والموقع الآمن المُريح، ويستعلم عن كل ما يُعنى بمصالحهم، واعتماداً على ما يعود به من أخبار ومعلومات، ينبني قرارهم.