ثقافة وفن

أختنا القصيرة جدّا جدّا..

كمال العيادي الكينغ

كمال العيادي الكينغ

أوّلاً، وسأعلنها بصراحة ووضوح ومنذ البداية ومرّة واحدة: أنا شديد الحذر في التّعامل مع النّصوص السّرديّة القصيرة جدّا...أو ما يسمّى بالومضات السّرديّة. أو القاف قاف جيم (قصّة قصيرة جدّا).

ليس فقط، لأنّها قصيرة جدّا جدّا أحيانا، حدّ الإفراط، وليس لكمّ الاستسهال الذي يتعامل به أغلب كتّابها معها، ولكن وعلى العكس من ذلك، لأنّني أتهيّبها وأعتبرها حقيقة، وهذا عن وعي وقناعة، من أكثر أجناس السّرد زئبقيّة وخطورة وأهميّة ومشروعيّة للبقاء.

ولكنهّا أيضا خطرة، فهي تغري من لا باع له، وهي فخّ مخيف لكلّ غافل أو مسقط ممّن يترنّح ويلزق نفسه باللّعاب والألعاب والحيل في هذا الجنس وهذا العالم السّرديّ المليء بالنّتوءات والحفر...

ثمّ أنّ قصّة الومضة، عادة ما تفضح وبسرعة طينة كاتبها ومبدعها. ونادرا، أن تجد من أبدع في هذا الجنس الأدبيّ، دون أن يسقط في تقليد سخيف ومنكر لما سبق به كبار وعمالقة الأدب الياباني والأدب الصّينيّ قبل قرون عديدة.

أمّا النوع الثاني من كتبة هذا الجنس، ولا أقول كتّابه، (أتحدّث دائما عمّن يتطفّل على هذا الجنس) فهم لا يعرفون. ولكّنهم يحاولون وذلك عن عجز ولأنّهم غير قادرين على نحت نصّ سرديّ حقيقي، فتراهم ينتهجون طريقة الإدهاش الغبيّ، دون التمكّن من ذلك.

النصّ السّرديّ الومضة، في أغلبه وجوهره، يستنزف تقنيّة النكتة، أو الطّرفة، بمعني أنّه لا يمكن أن يخلو من سطوة القفلة والجملة الأخيرة بأيّ شكل من الأشكال.. كما أن الأجمل والأبقى منه هوّ الذي يجنح إلى المرح التقني والفني أيّ التلاعب بالقارئ وإدهاشه. والمرح الذي أقصده، هوّ المرح الذي يستنزف شكل بنية الطرفة أو النكتة من خارج خبرها بالأساس.

فنحن نعرف أنّ أيّ نكتة لا معنى لها إذا حذفنا آخرها (القفلة)

وأنّ تركيبتها كلّها تعتمد على هذا الأساس الرئيس.. وصلب الحكاية ليس بمعنى الإدهاش فقط، ولكن بمفهوم الإضاءة الفجائيّة، أي تسليط مركز الضوء كلّه ودفعة واحدة على نقطة جانبيّة موجودة كلّ الوقت، ولكنّها معتّمة، وهنا يكمن بيت القصيد.

ومن المؤكّد أنّ كتابة القصص الومضة حمار قصير سيركبه كلّ عابر؛ تماشيا مع الموضة العامّة، واستدراراً للحبر الخفيف والقارئ اللّطيف، ولكنّه في الحقيقة حمار وحش، لا يروّضه غير محنّك متمكّن أعطاه اللّه بعض سرّ إبداعه في الخلق والتوغّل في التفاصيل بعمق وتكثيف مذهل.

ولأوضّح الأمر كما أراه، فتصوروا معي أنّنا أمام غرفة مؤصدة، وبمجرّد أن نفتح مزلاجها الحديدي وبابها الخشبي، نكون أمام حالات ثلاث هي حالات الأدب والابداع كلّه والسّرد من ضمنه.

فلو حدث وأنّك أشعلت، مثلاً، جذوة النوّر كلّه وسلّطته عما في الغرفة، لبان وبدا لك كلّ شيء على هيئته الصارمة، فإذا الطاولة لا بدّ وأن تظهر على هيئة طاولة والكرسيّ كرسيّ، والنّوافذ نوافذ والحيطان حيطان والسّتائر ستائر والأشياء كما عهدناها، وكما عوّدونا عليها.

وهذا ما أسمّيه الوضوح الكامل في الكتابة الأدبيّة والكتابة السّرديّة؛ وهي الكتابة التي لا تتخفّى وراء غمزة الإشارة ولا غنج العبارة، ولا تتقنّع ولا تتمنعّ، فهي كما هي، بل هي نفسها هي بكلّ ما تعنيه العبارة من معنى متّفق عليه بالإجماع، ومتعارف عليه في تسميّة الأشياء بأسمائها المجرّدة.

ومن هنا أيضاً يمكن تصنيف فنون عدّة غير السّرد، وهي أقرب عندي إلى التّصوير الفوتوغرافي منها إلى الأدب الرّفيع الذي لا بدّ له أن لا يكون وجبة معلبّة جاهزة، بل عليه أن يتجمّل بالقليل من توابل الاستعارة والشّاعرية والشّعر وأملاح الإيحاء وبهارات الإبهار والتّلاعب بخدود الكلمة البكر، وغمّازتي العبارة المُحنّكة.

ولو جرّبت أن تطفئ النور فجأة، وأقبلت على هذه الغرفة السرديّة نفسها، لأشفقت عليها من كلّ ما سيعتريها من عتمة وسواد وقتامة، فإذا هي لطخة واحدة ذات لون واحد، يختلط فيه العجين السردي والمعنى كلّه معاً حتى ليستحيل أن تفرّق بين الطاولة والكرسي والحائط والنوافذ والستائر... كلّها معاً، مجرّد سواد في سواد، في عصبة ليل بهيم غير مُبين. وهذا ما أسميه بالسرد الطلسمي، الذي يجنح ويوغل في الاستعارة وحدها والرّمز المجرّد دون أملاح تخفف ولا توابل تلطّف ولا زيت يُطيّب ويكفف ولا ماء يحلل العناصر، إنّما هي نار موقدة هائجة غير محسوبة المسار وغير مدجّنة، أتت على كلّ شيء، فشاطت الطبخة واسودّت وتفحمت ولم يعد من الممكن لا تذوقها ولا إصلاحها. وهذا ما أسميه في الأدب بالرمزية السوداء الموغلة في التعتيم، ويا ما عانى منها الأدب ويا ما ضاع الفتيل بين الكاتب والقارئ بسببها، وأكثر من يعجبه هذا النمط من الكتابة، إنّما هوّ يضلل نفسه، وهو في الحقيقة غير معجب بما يقرأ وما بين يديه، وإنّما هوّ مفتون بحالته، يراها كالحة، متجهّمة، سوداء، فتبدو له النصوص أو ما بين يديه وقدّامه، كما المرايا التي تعكس جنوحه ورغبته في القطيعة مع اللّون والتعدد والتكاثر والامتداد والتواصل واللّون والمرح والترميز الألمعي. ونجد هذا في كلّ أشكال الفنون، من الرسم التجريدي إلى الشعر النثري الموحش وصولا إلى خربشات الروائيين الغاطسة في الخواطر والاسترداد والغيوم والقطيعة مع الخبر والحكاية الأصل، وأصل كلّ شيء في السرد، فبدون خبر وحكاية، لا سرد ولا هم يحزنون، والأجدر بهؤلاء البحث عن تسميات أخرى، واللغة كريمة ومعطاء ولن تبخل عليهم بأحد الأسماء التي تجمعهم في اتحاد وخليّه أخرى. دون ضرورة التحايل للدخول ببطاقة وهويّة السرد.

والآن، وقد كشفنا الضوء على الغرفة السردية في البداية، فرأينا ما رأينا، ثمّ أطفأنا النور كله، فتداخل الكلّ وتلطّخت جميع المعاني وتكدّست فوق بعض وغاب الخيط والدليل والمدخل وتوارت الدلالة، لم يبقَ أمامنا إلا الحالة الثالثة الممكنة في أشكال التعابير الثقافية عموما، وفي السرد والشعر خصوصا، وأعني، أننا أمام نفس الغرفة، التي أثقلناها ضوءا، وأحرقناها ظلاما، نكرر التجربة بصيغة معتدلة، وهي أننا نحاول أن نطفئ الضوء فعلا، لكننا نوقد شمعة صغيرة، ونسلّط ضوءها الباهت في انتشاره والمتجمّع المركّز في فتيله، نسلّطه على كتلة المكان والمساحة التي هي مملكة الغرفة المغلقة، فإذا بنا نرى عجبا وفتنة:

سنرى طاولة، عائمة في ظلّها وانعكاسها، ويمكن أن تكون طاولة، ويمكن أن لا تكون.. والكرسيّ كرسيّ، ويمكن أن لا يكون كذلك، والنوافذ نوافذ، وقد نراها على غير ما اعتدنا عليه من صرامة أطر النوافذ ومفاتيحها أو مغالقها. والحيطان حيطان، وقد تميع وتتراقص كما لم نعهده أبدا من تجهّم وصلابة الحيطان. والستائر ستائر، ولكنّ قد تطير وقد تلتفّ وقد تسيح وقد تميع وقد تتلبّد فإذا هي والله ستائر، ولكنّها والله ليست بالستائر في آن.

وهذا هو ما نسميه بالأدب الرمزي، والسرد الذي ينبع من بئر الواقع، ويعبّ منها، فهي عناصره وهي نواضده وهي شريطي بلاغته وإبلاغه، وهو السرد الذي يثلج قلب القارئ البسيط الطيّب الذي يتلقفه ويفرد يديه شاكرا وحامدا، كما يتلقّف الفلاح أوّل قطرات الغيث بعد يبس وجفاف، بنفس الاحتفاء الذي يتلقفه به القارئ المثقف الباحث عن السرد المتين الباقي والذي لا تؤثر فيه التوابع ولا الزوابع ولا الزمن الذي سيمرق من فتحاته المتعددة ورمزه الخفيف المطواع كما يمرق النسيم المنثور، فلا يكسر صلبه ولا يؤذيه، بل يثبته غرسا في الأرض الصلبة ويحمل بذوره لتينع في أراضٍ أخرى ولغات بعيدة، ويستقبل في كلّ العهود والحضارات والترجمات بنفس الحفاوة، كونه من نسل نبيل وأصيل ودم نقيّ ومنتشر وواحد في كلّ الأرض، مهما اختلفت اللهجات والأمزجة والثقافات.

* (بديل الخاتمة) *

أَنَا القَاقَاجَائِيّهْ البَهِيَّةُ..أَنَا القَِصَّةُ النّمَوْذَجِيّةُ العَصْرِيّهْ، أنَا الخَفِيفَةُ اللّطِيفَةُ النَّدِيَّهْ..أنَا المُبْتَدَأ بِلاَ خَبَرٍ وَبِلاَ أذِيّهْ..أنَا الوِزْوَازَةُ البَزّازَةُ النّقّازَةُ، بَذرَةُ نُونِ جَنازَةِ الآدَابِ العَربيّهْ... أنَا النِقَاطُ المُتَتَابِعَاتُ الثّلاَثُ، وَعَلاَمَةُ التّعَجُّبِّ المُصْطفّيّهْ.. أنَا نِصْفُ السَّطْرٍ المَعْلُومِ، وأنَا الأصْغَرُ مِنْ قُرَادَةٍ في فخِذَ بَغْل السّرْدِ المَشْدُودِ إلَى مِحْرَاثِ ثقيل، رَاكِبَةً أنَا هَانِئَةٍ رَضِيّهْ، أمْتَصُّ دِمِاءَه فَهْيَ دِمَائِي أيْضًا وَلاَ أحْرَثُ مَعَهُ وَلاَ أعْرَقُ، وَتَعْسًا.. تَعْسًا.. لِبُنُودِ المَوْهِبَةِ وَقَرَفِ القِرَاءَةِ المُضْنِيّةِ وشَرْط التّمَكُّنِ وَالجُهْدِ وَالعَنَاءِ وَالتّعَبِ وَالأذِيّهْ. أنَا المُسْتَقبَلُ. أنَا اللّثغَةُ الهَوَائِيّهْ.. فَهَلْ من نَاشِرٍ قَاقَاجَائِيٍّ جَادٍ، يَنْشُرُنِي حَتّي فِي مِنْدِيلٍ وَرَقِيٍّ، وَبِلاَ مُكَافآتٍ مَالِيّهْ أوْ عِقْدٍ أوْ مُعَامَلاَتٍ وَحِسَابَاتٍ مَادِّيّهْ.. يَا لَيْتَ.. يَا لَيْتَ يَا إخْوَتِي وأحْبَابِي.. يُفْتَحْ بَابِي وَتَتَحَقَّقْ لِي (ذِيسْ)* أُمْنِيّهْ.

_________

- (ذِيسْ)* في الأصل بلغة المستعمرالإنجليزي، وتعني (هذه) This وجمعها ضيييز..These_