كتاب ومقالات

إشكالية الأمن والسيادة

طلال صالح بنان

اكتمال عناصر الدولة الرئيسية (الشعب، الإقليم والحكومة الوطنية) لا يعني ضمان استمرار الدولة والتسليم ببقائها، حتى لو توفر لها عنصرا السيادة والاعتراف الدولي، بل وحتى المنعة القومية. الدولة تظل دوماً غيورة على سيادتها وقلقة على أمنها، طالما أن البيئة الإقليمية والدولية غير مستقرة تغلب عليها قيمة الصراع لا قيم التعاون والتكامل، سعياً وراء سلام مستدام.

الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا نموذج «كلاسيكي» لإشكالية السيادة والأمن، التي تعاني منها الدولة القومية الحديثة. الدولة، أي دولة لا يستقيم لها التمتع بسيادتها، مهما بلغت قوتها، مع ضغط هاجس الأمن عليها. بالتأكيد: الدولة، لا تتعامل مع متغيري السيادة الوطنية والأمن، من منطلق نوايا جيرانها، ولا الضمانات الإقليمية والدولية، التي تؤكد على تلك السيادة وتمتعها بالأمن. في النهاية: تمتعها بالسيادة، قد لا يتفق أو لا يتكامل مع إحساس جيرانها بالأمن، بل أحياناً، قد لا يتوافق المبدآن مع الترتيبات السياسية والأمنية، التي يقول بها، بل ويعلن التزامه بها، النظام الدولي.

السيادة حق طبيعي للدول، والأمن حقٌّ «مقدسٌ» لها. وكما تجد النظرية الفردية صعوبات عملية ومنهجية تعترض الجمع بين الحقوقن والحريات ومطلب المساواة، تثبت تجربة الدولة القومية الحديثة صعوبة الجمع بين متعة السيادة وهاجس الأمن.

تتضح هذه الإشكالية المنهجية والعملية في الحرب الدائرة هذه الأيام بين أوكرانيا وروسيا. أوكرانيا تتحجج بمنطق وقانونية مبدأ السيادة، كأهم مسلمات النظام الدولي، الذي نَص على احترام إلزاميته ميثاق الأمم المتحدة وكذا الذود عن «قدسيته» وتحريم بل تجريم المساس به، حتى من قبل مؤسسات النظام الدولي، نفسه. بينما روسيا تتمسك بمبدأ الأمن، الذي هو الآخر نُص عليه في ميثاق الأمم، بوصفه المبرر الوحيد لاستخدام القوة في التعامل مع احتمالات تفجر الصراعات، كونه وسيلة مباحة اللجوء إليها عند تعرض أمن الدولة ومقومات وجودها المادي، للخطر، من باب مشروعية (الحق الطبيعي) في الدفاع عن النفس.

العالم يمكن أن يُقال عنه إنه منحاز لمبدأ السيادة الوطنية، الذي تتحجج به أوكرانيا، بينما روسيا لم تلتفت لرد فعل النظام الدولي «العدائي» لقرار موسكو غزو أوكرانيا، ذوداً عن أمنها، دفاعاً عن النفس. هنا تتمحور الإشكالية المنهجية والعملية في مقابلة مبدأي السيادة والأمن، وكلاهما يُعد من الناحية السياسية والأخلاقية دفعاً مشروعاً من أي طرف دولي، ذوداً عن سيادته وفزعةً لأمنه. لذا يُلاحظ أن روسيا تنكر عزمها ضم أوكرانيا وإلحاق كييف بموسكو، لكنها تهدف، في ما تزعم، إلى: جعل أوكرانيا «جاراً صديقاً» لها، «منزوع» السيادة!

الذي يبدو غريباً أن الطرف القوي في معادلة الصراع (روسيا)، تدفع بأن ممارسة أوكرانيا لسيادتها الكاملة، يشكل تهديداً لأمنه! في واقع الأمر، أن سلوك موسكو العنيف تجاه كييف، لا تحكمه نزعة توسعية، بقدر ما يحكمه هاجس أمن تاريخي من جيران روسيا غرباً، الذين يقتربون يوماً بعد يوم تجاه تخوم حدودها الغربية، مما يشكل من وجهة نظر موسكو، خطراً إستراتيجياً وشيكاً وناجزاً على أمنها.

لن تضع الحرب أوزارها في منطقة القرم، إلا إذا حلت معضلة السيادة والأمن المزدوجة، هذه. لا يتأتى ذلك، إلا إذا ساومت كييف على مبدأ السيادة، بالإقلاع عن مطالبتها الانضمام للنِتو، وربما التوصل لترتيبات لتسوية إشكالية شبه جزيرة القرم.. وإذا تعهد الغرب بوقف تمدده شرقاً ناحية حدود الاتحاد الروسي.

لن تحل، إذن: الأزمة الحالية بمنهجية المعادلة الصفرية. استسلام أوكرانيا غير وراد، كما أن مساومة روسيا على أمنها غير وارد، أيضاً. قد يكون مصير الحرب بيد أطرافٍ آخرين، غير أطرافها المباشرة. السؤال، هنا: إلى أي مدى يسمح العالم باستمرار هذه الحرب، الذي يتجاوز تأثيرها السلبي إلى العالم بأسره، وليس فقط مسرح هذه الحرب، خارج احتمالات الصدام المباشر (العنيف) مع موسكو.