زوايا متخصصة

غانم عبيد غباش.. قنديل إماراتي لم ينطفئ

غباش يلقي كلمة اتحاد الكرة خلال حفل العيد القومي الثاني للشباب عام 1973م.

بقلم: د. عبد الله المدني

الكتابة عن شخصية مبدعة ومتميزة ليست بالعملية السهلة، وتزداد صعوبة المهمة إذا كانت متشعبة الاهتمامات، كثيرة الحراك، عديدة الإنجازات، متنوعة الأدوار، غزيرة الإسهامات، وصاحبة بصمات خالدة في تاريخ وطنه وأفضال مشهودة على ناسه ومجتمعه. هذا ما واجهته وأنا مقبل على كتابة هذه المادة المفصلة عن ابن الإمارات الراحل «غانم عبيد غباش» صاحب السيرة التي امتزجت بسيرة بلاده وتحولاتها المدهشة منذ ما قبل قيام الكيان الاتحادي عام 1971. فالرجل لم يكن فقط مثقفا وسياسيا وكاتبا وإداريا ورياضيا من الرعيل الإماراتي الأوسط، وإنما كان بحق ظاهرة ذات أبعاد مدهشة ومتكاملة ومنسجمة مع آمال وطموحات مجتمعه وشعبه.

الذين عملوا معه أو قرأوا له أو عرفوه عن كثب يجمعون على أنه كان، خلال حياته القصيرة، رجلا معطاء ومعلما بشيرا، وإنسانا رائعا، ومتحدثا عذبا، وعاشقا متيمنا بناسه ووطنه، ومحاربا صلبا في سبيل ما آمن به من قيم وقضايا إنسانية، ومثقفا تنويريا ملتزما بنصرة المظلومين والكادحين، ومواطنا قريبا من الصغير قبل الكبير.

ولد غانم عبيد غانم غباش المهيري في إمارة دبي في عام 1946 ابناً لأسرة غباش العريقة المعروفة بوطنيتها وإخلاصها، والتي قدمت للإمارات والخليج العربي ثلة من الشخصيات المرموقة من علماء دين وسياسيين وأكاديميين وإعلاميين ومثقفين وأطباء وأدباء وكتاب ونشطاء اجتماعيين، ممن لعبوا أدوارا بارزة في نهضة الإمارات ومنطقة الخليج. ومن هؤلاء شقيقه الكاتب والإعلامي والأكاديمي الدكتور محمد عبيد غباش، وشقيقه الآخر الكاتب والباحث والدبلوماسي السابق المرحوم حسين عبيد غباش (ت: 2020)، وشقيقته المؤلفة والأكاديمية والناشطة الاجتماعية ومؤسسة «رواق عوشة بنت حسين الثقافي» الدكتورة موزة غباش، وشقيقته الأخرى الطبيبة النفسية الدكتورة رفيعة غباش (أول سيدة تترأس جامعة الخليج العربي بالمنامة).

نشأ في زمن المنعطفات

ولأنه من مواليد العام 1946 فقد نشأ في زمن المنعطفات والتحولات الهامة في تاريخ مسقط رأسه (دبي)، وكان شاهدا في ريعان شبابه على إرهاصات قيام الاتحاد السباعي بين إمارات الساحل، بل ومشاركا في دعمه وتوطيده من خلال الكلمة الحرة والعمل الجماعي والأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية، خصوصا وأنه كان وحدويا حتى النخاع وكانت رياحه تهب صوب فكرة الوطن الخليجي الواحد.

منذ سنوات دراسته الإعدادية والثانوية بمدارس دبي لوحظ عليه ميله للقراءة بنهم في شتى المعارف والعلوم، ومتابعة ما يجري في العالم من أحداث من خلال الإعلام المصري المقروء والمسموع، حيث كان مسكوناً بفكرة الإسهام في صناعة مستقبل وطنه وناسه، رغم عدم امتلاكه وقتذاك الوسائل والأدوات الكفيلة بتحقيق أحلامه في نقل بلاده إلى عالم التقدم والتطور. ومع قراءاته ومتابعاته هذه تشكل وعيه السياسي المبكر، وأيضا ميوله العروبية والوحدوية، كما كان حال معظم أقرانه في تلك الحقبة الشعاراتية المعروفة.

التجارب والدراسة

غير أن المنهاج الدراسي والقراءة الخارجية لم يكونا وحدهما مصدر تألقه وإنما أيضا التجارب التي استقاها من مدرسة الحياة الواسعة بناسها وعلاقاتها ومشاربها، خصوصا وأنه مزج التعليم بالعمل. فمنذ أن كان طالبا يافعا انصرف إلى الحياة العملية وتحمل المسؤولية، حيث عمل بوظيفة بسيطة في مدرسته، وفي الصيف والإجازات كان يعمل عند أحد التجار، ثم عمل لفترة في جمارك دبي. وحينما اضطرته الظروف لترك الدراسة بمدارس دبي، هاجر إلى الهند ليعمل بها ويشاهد فيها مدهشات العصر ويكمل في ربوعها نضجه الفكري ويصقل مواهبه. ولما شعر أن طموحاته أكبر من البقاء في ديار الغربة، بعد أن تسلح بخبرة وتجربة وثقافة كافية، سارع بالعودة إلى دبي في أواخر الستينات لمواجهة إرهاصات عصر النفط والتنمية الذي كان يقرع الأبواب آنذاك، وللانخراط في مسؤوليات الحقبة الاتحادية. وهكذا شغل، بعد عودته من الهند، منصب نائب مدير دائرة العمل والعمال في دبي، وبعد قيام الكيان الاتحادي تولى منصب الوكيل المساعد لشؤون العمل والعمال في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، حيث كان له الفضل الأكبر في إنجاز أول قانون للعمل والعمال في دولة الإمارات.

مجلة «الأزمنة العربية»

على أن الوظيفة الحكومية ومسؤولياتها لم تحل دون شغفه وولعه المبكر بالحياة الثقافية والفكرية وممارسته للكتابة الصحافية من أجل تمرير آرائه وقناعاته الفكرية والإنسانية للمواطن الإماراتي الذي كان دوما في صلب اهتمامه، خصوصا وأن بلاده في هذا التوقيت كانت قد شرعت في فتح شتى الأبواب أمام أبنائها في مجالات الثقافة والتعليم والفنون، وذلك ضمن خططها في استثمار مداخيل النفط في التنمية والبناء والانفتاح. ونجد تجليات ذلك أولا في قيامه بكتابة المقالات في مجلة «الأهلي»، ثم في مجلة «المجمع الثقافي»، لكن التجلي الأبرز تمثل في قيام غانم وشقيقه محمد بإصدار مجلة «الأزمنة العربية» من خلال مطبعة خاصة قاما بتأسيسها، حيث صدرت النسخة الأولى من المجلة في مارس 1979، واستمرت في الصدور لغاية أكتوبر 1981. ويعتبر الكثيرون أن خطوته تلك شكلت حدثا مفصليا في حياته لأنها وسعت من دائرة علاقاته الثقافية محليا وعربيا، وخلقت منه كاتبا مقروءا على نطاق واسع، خصوصا وأنه كرس للمجلة كل وقته وإمكانياته، علاوة على قلمه الذي راح يكتب بها مقالات استأثرت بشعبية واسعة تارة باسمه الصريح وتارة أخرى باسم «بلوطي» المستعار، وذلك لتميزها بالشجاعة في الطرح والبساطة في اللغة والأسلوب والعمق في الفكرة والرؤية.

ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق، أن ما مهد لمشروع غباش الصحفي والتنويري هذا هو انخراط الرجل منذ السبعينات المبكرة في النشاط الرياضي من خلال أنديته التي كانت وقتذاك من محطات العمل الاجتماعي والثقافي التي يلتقي فيها الناس، للتعارف والحوار والنقاش في الشأنين الخاص والعام. وبسبب نشاطه الحافل والطويل في الأوساط الشبابية من خلال هذه الأندية الرياضية، ولاسيما النادي الأهلي، صار مصدر ثقة الكثيرين من شباب دبي والإمارات، بل تعلقت قلوبهم به ما سهل أمر توليه منصب رئيس اتحاد كرة القدم في الإمارات، ليدخل بذلك تاريخ بلاده الرياضي كأول رئيس لاتحاد القدم. تحدث الكاتب الرياضي محمد الجوكر عن هذا في صحيفة الأيام (24/6/2015) فقال: «جرت لأول مرة في تاريخ الرياضة الإماراتية عملية الانتخابات لرئاسة اتحاد كرة القدم عبر الجمعية العمومية، وفاز بها المرحوم غانم غباش، وهو رجل ثقافة واجتماع وكان أهلاوياً وصل إلى منصب نائب رئيس مجلس إدارة النادي الأهلي في عام 1970 حينما تأسس النادي من اندماج نادي الوحدة ونادي الشباب ثم انضمام نادي النجاح إليهما عام 1974».

أول اتحاد للكتّاب الإماراتيين

وعلى الرغم من تحقق إحدى أغلى أمانيه بظهور «الأزمنة العربية» كصوت مساهم في تنوير المجتمع وتجديده، إلا أنه كابد الكثير من المصاعب والإشكالات لجهة استمرار صدورها وتطويرها وإعادة إصدارها بعد توقفها القسري. وقد اعترف شقيقه الدكتور محمد عبيد غباش في حواره مع الأستاذ تركي الدخيل في برنامج إضاءات من قناة العربية سنة 2009 أن «نبرة المجلة في معالجة القضايا العامة كانت أعلى مما يجب» ما تسبب في إغلاقها بأمر حكومي، كما أوضح أن انتقالها إلى لندن ومن ثم إلى قبرص فإلى بيروت للصدور من هناك بصيغتها الورقية حتى عام 1996 لم يكن عملية مجدية لأنها موجهة أساسا للداخل، فتقرر إغلاقها وتحويلها إلى صحيفة إلكترونية، ناهيك عن افتقادها إلى الإعلانات الذي جعل وضعها المالي صعبا. وفي السياق نفسه قال في حوار له مع صحيفة البيان (18/10/2005) إن المجلة: «كانت مشاكسة وحدية، ولذلك أغلقت.. كان إعلاما غريبا لم تعتده البيئة، كما أننا كنا شبابا مليئين بالحماسة التي كانت تجعلنا نندفع أحيانا بشكل مفرط».

ومن موقعه كمثقف معروف ومحبوب ساهم غانم غباش في تأسيس أول اتحاد للكتّاب والأدباء في دولة الإمارات، الذي أبصر النور رسميا بموجب قرار وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رقم 13 لسنة 1984، وهو الكيان الثقافي الذي ولدت من خلاله في عام 1987 «مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية»، التي قامت بدورها في عام 1989 بإطلاق جائزتها المرموقة المرتبطة باسم هذا الشاعر والتاجر والطواش الإماراتي الشجاع. كما ساهم غباش في تأسيس النادي الثقافي الاجتماعي.

حادث أصابه بالشلل

وتشاء الأقدار أن يتعرض غباش في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي لحادث خطير أصابه بشلل نصفي أقعده على كرسي متحرك. غير أن هذا الشلل لم يستطع أن يقيد حركته ونشاطه الفكري والثقافي، إذ واصل اقتحام صعاب الحياة بروح معاندة للمرض والعجز على مدى أكثر من عشرين عاما إلى أن حانت منيته في الرابع من آذار/مارس سنة 1989، إبان تلقيه العلاج في أحد المستشفيات اللندنية، فبكاه أصدقاؤه ومحبوه ورفاقه الكثر داخل الإمارات وخارجها بمرارة. وهكذا غادر غباش، الرجل العصامي النبيل، الدنيا وهو في سن الثالثة والأربعين، التي تعتبر سن العطاء والحيوية وقمة النشاط، دون أن يستكمل كل أحلامه وكل عناصر المشروع التنويري متعدد الجوانب الذي كان محور حياته وفكره، لكن عزاءه أنه وضع مداميك حركة فكرية وأدبية وثقافية وسياسية في وطنه الإماراتي تحولت بعد رحيله إلى أحد النماذج الرائعة والمتميزة على مستوى منطقة الخليج والعالم العربي.

وعزاؤه الآخر أن تلامذته ورفاقه لم ينسوه ولم يتخلوا عن مشاريعه الثقافية، فتلقفوا الراية من بعده وساروا على دربه. فبعد مرور بضعة أعوام على رحيله بادرت ثلة من أصدقائه إلى إصدار كتاب يضم ما نشره في «الأزمنة العربية» وغيرها من المطبوعات من مقالات وآراء وأفكار وأمنيات وهواجس وهموم، واضعين بذلك أمام النشء الجديد صورة لبعض ما كان يعتمل في نفس الفقيد لجهة النهوض بمجتمعه الإماراتي والمجتمعات العربية بصفة عامة ووضعها على دروب التقدم الإنساني. ومن ناحية أخرى، أقرت الأمانة العامة لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات في عام 1995 إطلاق جائزة «غانم غباش للقصة القصيرة»، بالتعاون مع دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة، وذلك تقديرا واحتراما لنشاط الفقيد المشهود في الثقافة والأدب والفكر المستنير. ولا تزال هذه الجائزة قائمة وتشهد في كل عام تخريج كوكبة من المبدعين في فن القصة. أما شقيقته الدكتورة موزة عبيد غباش، فقد خلدت ذكرى شقيقها من خلال تأسيس مكتبة تحمل اسمه وتضم نحو خمسة آلاف كتاب في شتى المعارف والعلوم ضمن «رواق عوشة بنت حسين» الثقافي، كي تكون في خدمة محبي القراءة والاطلاع وطلبة العلم.

وغانم غباش الذي لم تمكنه ظروفه المعيشية وتواضع أحوال بلاده في الستينات الميلادية من مواصلة تعليمه الجامعي، حرص على أن يشجع إخوته على مواصلة تعليمهم وتخصصاتهم حتى أعلى المراحل، فغدوا جميعهم من حملة الشهادات التي لم يتمكن هو من نيلها. ليس هذا فحسب، وإنما كان يشجع ويدعم أيضا أبناء وطنه لنيل أعلى الشهادات. وتذكر الأكاديمي والإعلامي الدكتور محمد عبدالله المطوع في مقال كتبه في صحيفة البيان (8/3/2015) دور غباش في تشجيعه على إكمال دراساته العليا فقال: «ذلك الإنسان هو الذي شجعني على إكمال الدراسات العليا لنيل درجة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي، ولا أنسى مساندته المالية لي حينذاك، بل سافر معي ليتأكد أنني سوف أبدأ مشوارا جديدا في حياتي، مؤكدا أن الوطن بحاجة إلى أبنائه من حملة الشهادات العلمية العليا».

رحل بلا ألقاب ولا أسماء

من ضمن من تذكروا الفقيد وأشادوا به المستشار إبراهيم بوملحة الذي قال عنه: «عاش حياته مدافعا عن رأيه، منافحا عنه بالقلم والبيان والمشاركة، ما يجعلك بلا شك ترى فيه هذه الهمة وهذا التواصل والتمسك بالرأي والثبات على المبدأ. بل حتى في وقت الشدائد ومدلهمات الخطوب لم يبغ عنه بديلا ولم يرم عنه تحولا إلى آخر رمق من العمر». وتحدث عنه أيضا أستاذنا المؤرخ الأديب عبدالغفار حسين، الذي زامله وصادقه منذ بداياته، فقال: «إن غانم لو عاش حتى أيامنا هذه لكانت الإمارات عندها كاتب سياسي ومفكر كبير تضعه في الصفوف الأولى بين الكتاب الكبار من العرب المعاصرين».

وفي احتفالية أقامتها مؤسسة سلطان علي العويس الثقافية في مارس 2004 بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لرحيله، تحدث شقيقه الدكتور محمد عبيد غباش عن إرادة تحقيق الذات لدى الفقيد فخاطب الحضور قائلا: «حين وقع حادث 1975 لغانم اعتقدنا جميعاً أن غانم سيبقى قعيد الكرسي ويفقد الحركة، لكن غانم سرعان ما حول ضعفه إلى قوة خلال فترة وجيزة. ففي السنوات التالية تفجرت لديه طاقات خبيئة جعلته أقوى مما كان عليه قبل الحادث، فقد تمكن بالعمل والجهد والصبر من صنع نفسه ككاتب وصحافي ومثقف ترك بصماته على جيل كامل من المثقفين في عقدي السبعينات والثمانينات».

أما في ذكرى مرور ربع قرن على رحيله فقد كتبت شهيرة أحمد في صحيفة الاتحاد الظبيانية: «رحل غانم عبيد غباش، هكذا بلا ألقاب ولا أسماء رغم أن كل الألقاب المهمّة تنطبق عليه بل وتقصرُ عنه. فالرجل لأهمية الأثر الذي تركه في ذاكرة الإمارات خاصة والعرب عامة، بات علماً، لا يحتاج إلى تعريف أو تقديم.. إنه من الطراز الذي يكفي للإشارة إلى أهميته أن يُذكر اسمه فقط. تمرّ السنون وتمضي الأعوام في دورانها المحموم لتبهت الوجوه وربما تتساقط من الذاكرة في قاع النسيان الأصفر، نسيان من ذلك الطراز الذي يمكنه أن يبتلع حياة كاملة من دون أن يغص بها، لكن ثمة وجوهاً لا تغيب أبداً، لا تعرف طريقاً إلى النسيان ولا تتقنه أصلاً. غانم غباش من هذا النوع.. كان، ولا يزال، وسيظل، حاضراً في ذاكرة الإمارات كلما فتحت سيرة الوطن. أما حضوره في ما يتعلق بالحياة الثقافية والسياسية فسوف يظل خارج (الأزمنة) وخارج المحو. وأما في أرواح وقلوب وعقول كل من ارتبطوا معه بعروة وثقى من عرى الصداقة أو العمل فله منزلة لا ينازعه عليها أحد».

- ساهم في تأسيس أول اتحاد للكتّاب والأدباء في الإمارات

- تولى منصب رئيس اتحاد كرة القدم في الإمارات

- إصدار مجلة «الأزمنة العربية» من خلال مطبعة خاصة

- إطلاق جائزة «غانم غباش للقصة القصيرة»