كتاب ومقالات

ثور رمضان

علي بن محمد الرباعي

ما عرفت الناس عن (رمضان) إلّا الطيّب، رجّال من حاله في شأنه، ومسالم، ولطيف في معشره ومخبره ومظهره، وما يرزى حسابه من الحيله، ولطالما افتتن بقصائد أبوه (يقول بو رمضان خذ لك ثور يا ثور؛ يفلح بلادك لا تعذرك الجماعة) ويتلهم؛ وصيّة الفاني (الثور في بيت الرجال غناة)، و(بيت ما فيه ثور وبقرة، ما له ثمرة).

يعتبرونه جماعته صدّاق، ويعرفون أن والده أخّر له قروشاً كثيرة، وهم في حاجة لثور يحرث لهم ويديس، فدزوا المؤذن يقنعه، خفته في أذنه بعد صلاة العشاء؛ إن كان ودك يعمّ فضلك الكبير والصغير، فاشتر لك ثوراً، يرفع شأنك في ربعك، وتحظى بالتحشيم والتكريم.

اقترح عليه الدّلال قائلاً: إن كان تبغيه؛ قامته قامة الجمل، ولحمته لحمة الطِّلي، فخلّنا نهبط سوق حَلِي، فقال: طاعك الله، وركب وراه فوق حمارة مجنونة، ولأنه قصير، أدخل قدميه في الخُرج؛ حتى لا تتجرح من شوك السّلم النابت على جانبي طريق العقبة، ولكن الشوك طبّزه؛ وكل شويه يصيح: أحوووه.

أدرج الدّلَال عيونه الخبيرة في الثيران، حتى قنص حبيش في طرف السوق؛ ومقاطه في يدّ سيّدة وافية، غمزها بخمسة ريال في كفها، وفردتها، وقالت: والله ما يغدي إلا بعشرة، فقال: أبشري بما تطلبين؛ وأول ما عكف ذنبه؛ قعص، فقال هذا على ما في الخاطر يا رمضان واللي بيجمّل عليك (يحرث ويديس وإذا طنقر؛ فهبّطه سوق الخميس).

منذ اقتاده (رمضان) من سوق وادي حلِي، وهو محسن الظن في مشتريه؛ ويرجّح تهيؤ الفرصة لحياة أهنأ، بحكم أن السراة أبرد مناخاً من الساحل الخانق بجوّه الصيفي الرطب، وإن كان الأوكسجين في الجبال أقلّ، إلا أن العشم في عُلفة آمنة، ومراح مريح، ومشرب هني، وعمل متقادر، يخفف عليه وينسيه أيام التسلخات والتذرّع من رخاوة الخبت، والهبوب اللافح.

صعد به أكثر من عقبة، وكلما تخطيا وتبة، وشعر رمضان أن ثوره يحند، حككه في رأسه، وصات بالقصيدة «إذا دعيت الثور فادعه يا به؛ ذا ريّحك من فزعة القرابه» فينشط حبيش، ويتناوش الوعورة بخفّة غزال، وعندما وصلا؛ صُدر بير؛ حسر، فقال رمضان «شريت لي ثور حاسر؛ ما يمشي الا بتلّه)، وكأن الثور استحى فتحامل على نفسه وقام.

احتجت زوجته وقالت؛ هذي نفعتك، أحويت علينا، وآخرتها تعوّد بثور، وأنت لا قصيل عندك ولا خُليان، بيش بتعلفه، بسفاف الدمون؟ فقال: أذكري الله يا (صفقة) رزقك ورزق الثور ورزقي على بو خيمة زرقا.

تسامع المزارعون بالثور فأقبل كل واحد بقِرى جمل، من علفة وخلا، وحُميضا، وما أمداه ينتسم يومين، حتى بدأ موسم فتح البلاد، ولم يعد يمدي رمضان يحك قفاته، ما ينتهي من حرث، إلا والطالب يطلب، ويرد بضحكة: أبشر بالثور وبرمضان؛ وإذا أزرى الثور في ركيب؛ غنى له (يا ثور يا أبيض يا جليل الساعد، مُد القدم واسمع حنين الراعد» فينتشي ويحظ الخطى.

لم يتوقع ثور رمضان أن الشقاء سيحلّ عليه مضاعفاً، خصوصاً عندما تخاشر رمضان مع شويل، وثور شويل لك عليه؛ وقهر، من الحرث، للسقي، والدّياس، وكل يوم يهرّج نفسه؛ متى بترتاح يا حُبيش من العنا، وبدأ يغني لنفسه «كلن تريّح ورأسك تحكمه مصلبه»! أشفقت زوجة رمضان على الثور، وسألت زوجها: اعلمني يوم تكد أنت والثور من بدية الشمس لين تطمي، وش هبو لك جماعتك؟ فأجابها: إذا ضمنت أنا والثور لُقمة وجغمة فاحمدي ربك، علّقت: بقعا تفجعك إن كان طردك وسعيك كله في بطنك.

ما يخفف على (حبيش) اعتراف رمضان بفضله، فكلما سرح به أو راح يتغنى به وبقدومه المبارك (يا ثوري القايم وغيرك جالس، حرثت مالي يابسٍ في يابس، وقطرة الله ما عليها حابس) و(والله ما أبيع ثوري، ما هبّت الريح هبّه، ولا تعذّرت غيري، أخاف تاجي مسبّه).

مع دخول شعبان، ما عاد يحصي (رمضان) الداخل من الخارج على الثور، وما درى عن سر الاهتمام الزائد بثوره؛ تلخلخ الثور من الفريقة؛ والدشيشه، لين ترع من خشمه، وما عاد لا يحيل ولا يزيل، يا الله يقدر يدرج خوشه وهو بارك.

أقسم الفقيه لرمضان ليعيضه بحسيل بقرته، قال: يا رمضان ثورك بينفقع من شواكله، خلنا نتشركه، ونتمرق به في شهر الخير، فقال رمضان في نفسه: حتى فقيه الغزلة يشتي المرقة.

دخلت في نفس حبيش الشكوك، وأنكر الثور الرجاجيل والنساوين؛ الجايين والرايحين؛ بقشابي الرُفه والقضب والصيب والقصيل. التقص، وتخيّل أن رمضان يدري بما في خاطره، وبدأ يناشده؛ يا شرهتك من الله يا رمضان، تقصّد فيّه؛ وتتمدح بي، وتتغنى، وتكدني وتهدني وآخرتها أغدي شِركة!

ما صحي رمضان في آخر يوم من شعبان إلا بجنب قرص المجرفة؛ دلة مهيّلة، اقتطع حثرة ورماها فوق العتبة؛ وسألته (صفقة) لا تكون بتذبح ثورنا اللي بنى لك قيمة بين جماعتك، تراك سدّ وجه الله لا تخليهم يتشركونه؛ تحارفوا على قروشك، وآهم بيتحارفون على ثورك، خيرة الله تحيل عنهم.

قال رمضان: والله ما معك من عقلك كُفحة، الثور قارح، فقالت: تراني من البارح ما سمعت له دَبَكة ولا هزة ولا رفزة. حط فنجاله، ونزل يركض للسفل، وإذا به يصيح؛ الحقيني بالشفرة يا صفقة.