أخبار

الباحث الفقهي «العوني»: أحب البرامج والمسلسلات خفيفة الدم

أكد أن الفقه ليس الحفظ.. وأن تدبّر سورة خير من ختم القرآن على عجل

1408217

علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@

يجمع الباحث الفقهي الدكتور حاتم العوني بين شخصية العالِم، وفطنة الفقيه، وسعة أفق المثقف، وضبط المُحدّث، ونقاء الإنسان بفطرته الأولى، وبمناسبة حلول شهر رمضان عشنا معه هذه المسامرة..

• هل حُسمت قضية رؤية هلالي رمضان وشوال؟

•• المسألة فيها خلاف قديمٌ متجدِّد، ولا أظنه سينتهي؛ لأنه خلاف معتبر لكل فقيه فيها دليله الذي يُسوِّغ قولَه ولا يجيز الإنكار عليه، إنما ينحرف الاختلاف إذا تَشَدّدَ صاحب كل قول بإقصاء القول الفقهي الآخر، وبوصفه بأوصاف البطلان والإنكار والتشنيع، وكأنه خالف قطعيات الدين! أما إن قال صاحب كل اجتهاد فقهي: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب، فلن يحصل هذا التنازع والتشكُّك الذي نراه اليوم. ومرجع الأقوال المعتبرة في هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال:

الأول: الاعتماد على الرؤية: سواء بالعين المجرّدة، أو بالأجهزة الحديثة التي تعين على الرؤية.

الثاني: الاعتماد على حساب إمكان الرؤية، وهو حساب فلكي، منه قدر قطعي، ومنه قدر ظني محتمل للاختلاف وللخطأ والصواب، كرؤية العين التي منها المتيقَّن، ومنها المظنون.

الثالث: الحساب الفلكي لمولد الهلال، سواء أمكنت رؤيته فلكيّاً أو لم تمكن. وهذا قطعي، لا يقع في مثله خلاف مؤثر بين الفلَكيين.

ورغم أن غالب الفقهاء المعاصرين يميلون لأحد القولين السابقين (الأول والثاني)، ويستبعدون الثالث، بل كثير منهم يستنكره، إلا أني أراه قولاً وجيهاً معتبراً، ولا يصح إجماعٌ بنقضه، بل هو قول موجود منذ حياة الصحابة (رضي الله عنهم)، وإن قلَّ الآخذون به، لصعوبة الحساب الفلكي في العصور الأولى، ولجهل أكثر الناس به حديثاً فضلا عن العصر القديم.

وتَمسُّكُ من تَمسَّكَ بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، مع صحة توجيهه بما لا يخالف القول الثالث، بأنه حكايةٌ لغالب ما كان متيسِّراً في الأمة الأُمّيّة، كما قال (صلى الله عليه وسلم) في حديث الصحيحين: «إنا أمة أُمّيَّةٌ، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا (وعقد الإبهام في الثالثة)، والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا (يعني تمام ثلاثين)». فالعلة أن أمة العرب كانت أمة أُميّةً، فلا يصح أن يستمر الحكم بعد زوال الأمية عن الأمة، ما دام الحكم معلَّلاً بأُميتها.

ولئن تَمسَّكَ الرافضون للحساب الفلكي بظاهرٍ فهموه من حديث الرؤية، فللآخذين بالحساب الفلكي أن يتمسكوا بظاهرٍ أقوى، وهو ظاهر آية في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾، فالله سبحانه وتعالى جعل الأهلةَ نفسها هي المواقيت، ولم يجعل رؤيتها هي المواقيت، ولو أراد الرؤية لقال عز من قائل: «قل رؤيتها مواقيت...»، ولكن الله تعالى قال ﴿قُلْ هِيَ﴾، أي الأهلة ذاتها، وليست رؤيتها.

ويمتاز هذا القول بأنه يحقق توحيد عامة المسلمين في رمضاناتهم وأعيادهم، ويجعلهم على علم بمواعيدها قبل حلولها بأزمان، ويمنع تناقضات ما يُسمى باختلاف المطالع في اجتهادات الفقهاء قديماً وحديثاً، حتى صارت حدود اختلاف المطالع بلا ضابط شرعي، إلا من الحدود السياسية لكل دولة، ولا شك أن هذه الحدود المتبدلة عبر التاريخ ليست ضابطاً صحيحاً لمولد الأهلة الكوني الذي لا يتبدّل.

ولا شك أن القول الذي يوحد مواسم العبادة والأعياد في الأمة سيحقق مقصداً عظيماً من مقاصد هذه العبادات الموسمية، وهو توحيد الأمة عليها.

من جهل شيئاً عاداه

• لماذا يستمر الجدل في قضايا فقهية يمكن أن يحسمها العِلم الحديث؟

•• لذلك أسبابٌ عديدة، لكن مرجعها إلى أمرين أساسيين: أولهما: ضعف الفقه، بسبب من يظن الفقه هو حفظ الفقه، لا مَلَكاته. وثانيهما: قلة اطلاع كثير من الشرعيين على مستجدات العلوم الحديثة، وضعف فهمهم لها، بل ربما انضاف إلى ذلك شَكُّهم فيها وفي جدواها ومصداقيتها، من باب «من جهل شيئاً عاداه». فمثلاً: الاستفادة من تحاليل الحمض النووي (DNA)، كانت بعيدةً عن المستوى المطلوب في قضايا إثبات النسب، حتى صدر مشروع نظام الأحوال الشخصية أخيراً، قبل أيام فقط، فجعل له مرجعيةً تليق بمستواه من البيّنات القضائية.

• من أسئلة رمضان المكرورة (عدد ركعات التراويح) والقيام.. وأداء صلاتهما في المنازل أم المساجد، أين تقف من الأقوال في هذه المسألة؟

•• التراويح من نوافل العبادات، والأمر في عدد ركعاتها وفي موضع أدائها واسع، فمن صلاها ثلاث عشر ركعة أو ثلاثاً وعشرين أو أقل أو أكثر، فهو جائز. وسواء صلاها المسلم أو المسلمة في المسجد أو في البيت فهو جائز، والأصلح لقلب كل شخص يفعله، والذي يرى أنه أكثر تقويةً لإيمانه من ذلك كله يفعله، وهذا مما تختلف فيه أحوال الناس: فمن الناس من يزداد خشوعُه بطول القيام والركوع والسجود: فيكون تقليل عدد الركعات وتطويل الصلاة في حقه أفضل، ومنهم من يزداد خشوعه بكثرة السجود والركوع وتخفيف القيام: فيكون تكثير الركعات في حقه أفضل. ومنهم من يَعْظُمُ إخلاصُه إذا صلى في بيته منعزلاً، ومنهم من هو بخلافه: يجد في الاجتماع على الصلاة ما يزيده في حضور القلب وزيادةِ الخشوع. وهذا من حِكَم الله في شرعه: أنها أحكامٌ تُراعي اختلافَ أحوال الناس.

يبقى أن بقاء المساجد عامرةً بمن يقيم التراويح فيها من شعارات رمضان التي ورثتها الأمةُ عن السلف، وبقاء من يعمر المساجد بها مهمٌّ في الحفاظ على هذا الشعار الجميل البهيّ الذي يعين على الطاعة ويكبت شياطين الإنس والجن. ويُروى عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه مرَّ بالمساجد في شهر رمضان، وفيها القناديل لأجل صلاة التراويح، فقال: «نَوَّر الله على عمر قبره كما نَوَّر علينا مساجدنا»؛ لأن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) هو الذي سنَّ الاجتماع على إمام واحد في المسجد، وكان الناس قبله يصلون في المساجد جماعاتٍ متفرقة أو في بيوتهم.

الضروري وغير الضروري

• ما الضروري في رمضان؟ وما غير الضروري مما يعتقده الناس سنة؟

•• الضروري في رمضان بعد التزام صيام نهاره، أن نحقق الحكمة منه، والتي من أهمها:

- أن نستحضر معنى الخضوع لله تعالى والتعبُّد له بالصيام والقيام، ولا يكون مجرد عادة، أو مجاراة للناس، وهذا هو معنى قوله (صلى الله عليه وسلم): «من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه».

- أن نحقق أحد أجل معاني الصيام: وهو تعويد النفس على الصبر، والحِلم وعدم الغضب، وحفظ اللسان عن كل ما يؤذي الناس.

- أن نحرص على تدبر القرآن وفهمه أكثر من حرصنا على ختمه أو الإكثار من قراءته بغير فهم، فتدبر سورة واحدة يزيد في إيمانك خيرٌ من قراءة القرآن كله بغير تدبر، فهذا هو الغرض من إنزال القرآن الكريم، قال تعالى ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ولم يقل سبحانه: ليتلوا آياته فقط، ولا قال: ليحفظوا آياته، وإنما قال ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾. فأتمنى أن يحرص المسلم أن لا يقرأ القرآن إلا من مصحف في حاشيته تفسير، كالتفسير الميسر الذي يطبعه مجمع الملك فهد (رحمه الله) في المدينة المنورة؛ لأنه يُيسِّرُ له الفهمَ الأَوليَّ للقرآن الكريم.

- أن نستحضر حاجة الفقراء وعوزهم، فنجود بالعطاء ولا نغفل عن المحتاجين.

- أن نحرص على الزيادة فيه من العمل الصالح عموما: من صلاةِ قيامٍ ونوافلَ وأذكارٍ وصلةِ رحم وصدقاتٍ وإحسانٍ إلى الناس ومساعدتِهم بالمال والجاه والنفس، كل حسب قُدرته.

- شهر رمضان فرصة ثمينة للتوبة من الذنوب عموماً، ومن الذنب الذي اعتاده المسلم حتى أثقل ظهره وعذّبه، فالفرصة في رمضان سانحة للتوبة منه؛ لأن أجواء رمضان الإيمانية تعين على ذلك.

• يرى البعض أن خيط الفجر الأبيض يظهر إثر الانتهاء من صلاة الصبح.. بماذا يعلّق فضيلتكم؟

•• كل قول يشتت جماعة المسلمين، ويوقعهم في حيرة الشكّ وألمه يجب أن لا يُلتفت إليه. والدول الإسلامية كلها حريصة على تصحيح عبادات الناس في رمضان وفي غير رمضان؛ ولذلك لا شك عندي في بطلان القول المسؤول عنه. فالفجر لا يؤذَّن له إلا بعد دخول وقت الفجر، وعلى المسلمين التزام ذلك.

لا للإكراه

• هل آن أوان العمل بكل المذاهب الفقهية؟

•• لا شك في وجوب اعتبار المذاهب الإسلامية السنية الأربعة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي)، وبل يجب أيضاً عدم إكراه أي طائفة مسلمة من خارج هذه المذاهب الفقهية أيضاً، كالشيعة، على أحكام مذهب، ما دامت لا تخالف واجب الوطن وأصل الإسلام. وهذا ما أشار إليه ولي العهد (وفقه الله) في لقائه القريب مع إحدى الصحف الأجنبية.

وإن سعة آفاق الفقه وتعدد وجهات النظر فيه من صور الرحمة في هذا الدين ومن مظاهر تيسيره وصلاحيته لكل ظرف في كل زمان ومكان، وقد جرب المسلمون في أعصارهم المختلفة أنه ربما أنقذهم من ضيقة يمرون بها مذهبٌ فقهي معتبر كانوا لا يأخذون به في سالف عصرهم، فإذا بهم لا يجدون تحقيق المصلحة والنجاة من العسر المحرج إلا في قول كان مهجوراً لديهم؛ ولذلك كان السلف يُعلنون فرحهم بالاختلاف الفقهي المعتبر؛ لأنهم يعلمون مقدار ما فيه من التخفيف على الناس ومن تحقيق مصالح الأنام.

النوازل والمستجدات

• لماذا لم يتم تدوين فقه النوازل في المشرق؟

•• الحقيقة أنه مدون في المشرق والمغرب، في كتب فتاوى العلماء المشرقيين والمغربيين، لكن علماء المغرب تميزوا بالتسمية (النوازل). وفي العصر الحديث ألف كثير من المشارقة في النوازل الفقهية والمستجدات، وأقيمت لها دراسات كثيرة ومؤتمرات، ما زالت تحتاج تعميقاً وتكميلاً، لكن لم يكن مغفولاً عنها.

• كيف ترى رمزية التوقيت في العبادة، في ظل حرص البعض على الدقة والحَرفيّة؟

•• هناك عبادات لها مواقيت دقيقة ولا شك، كالصلوات ومواقيت الحج إجمالاً ونحوها، قال تعالى عن مواقيت الصلاة ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾. لكن الحرفية تظهر في العناية بعبادات الظاهر مع إغفال معانيها الباطنة، فتجد المصلي مثلاً، يحرص على عدد الركعات والسجدات، ويغفل عن تحقيق حضور القلب في كل جزء من أجزاء الصلاة، فللقيام معانٍ إيمانية تختلف عن المعاني الإيمانية في الركوع وفي السجود وفي الجلوس، ولكل ذكر من الأذكار من مزكّيات النفس ما ليس للآخر: فللتسبيح معنى وأثر يختلف عن معنى الحمد وعن معنى التكبير.. وهكذا. فعلى المؤمن أن يعتني بعبادة الباطن (القلب) أكثر من عنايته بعيادة الظاهر. ولا يعني ذلك التفريط في عبادة الظاهر، خصوصاً الواجبة منها، لكن ذلك يعني أن لا تغلب عبادة الظاهر عبادة القلب. وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن هذا الخلل في العبادة، وأنه أحد أكبر أسباب انحراف الخوارج، فقال ذاكراً كثرة عباداتهم: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»، وقوله «لا يجاوز تراقيهم»: أي لا يتجاوز أثرُ قراءةِ القرآن حلوقَهم، فلا يبلغ قلوبَهم: إيماناً وفقهاً، فهم يقرؤون القرآن فلا تزكو بقراءته نفوسهم ولا تفقه قلوبهم.

العزلة ليست حلاً

• ما موقفكم من البرامج التلفزيونية في شهر رمضان؟ وهل تتابع شيئاً منها؟

•• نعم أشاهد بعض البرامج الرمضانية مع عائلتي، حسب التيسّر، خصوصاً ما يكون بعد الإفطار مباشرة، وبعد صلاة التراويح. وأحب البرامج والمسلسلات خفيفة الدم إذا كانت خالية من المعاني السيئة، وأحرص على أن أنبه أولادي وعائلتي على الخطأ والمعاني السلبية التي قد توجد في بعضها، فالعزلة عن الواقع ليست حلاً، بل هي مع استحالتها تؤدي إلى غياب عن الواقع وعدم معرفة الواقع بما فيه من إيجابيات وسلبيات، وهذا الغياب عن الواقع (لو تم) أخطر ما يكون على الأطفال والشباب؛ لأنه يجعلهم مكشوفين أمام أي شبهة منحرفة أو شهوة محرمة؛ لأنهم لم يكونوا محصَّنين بمعرفة الواقع وطريقة التعاطي معه. وإنما التليفزيون وما يُعرض فيه كالناس، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) مفضلاً مخالطة الناس على العزلة عنهم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».

• ما رسالتك للمسلمين في عامة البلدان؟

•• أن يجعلوا من رمضان صفحة جديدة لهم مع الله تعالى، فما خاب من تقرّب لله، وما حزن من رضي عن الله ورضي الله عنه. وأن يعلموا أن رحمة الله أوسع من ذنوبهم، ولو بلغت ذنوبهم عنان السماء، فرب تسبيحة واحدة تثقل في الميزان ذنوباً كالجبال، ورب إحسانٍ للخلق يكفِّر كبائر الذنوب.

في

رؤية هلالي رمضان وشوال خلاف قديمٌ متجدِّد لا أظنه سينتهي