كتاب ومقالات

«يوزع مجاناً ولا يباع!»

محمد مفتي

لن ينسى العالم ولا التاريخ أن ما يعرف بثورات الربيع العربي قد انطلقت جميعها في عهد الإدارة الأمريكية الديمقراطية التي ترأسها الرئيس أوباما، وقد كانت مهندسة السياسة الخارجية الأمريكية في تلك الفترة السيدة هيلاري كلينتون، وقد انتشرت وقتذاك وتيرة الشغب التي عصفت -ولاتزال- تعصف بالعديد من الدول العربية على نحو متسارع وكأنها نار تنهش في كل ما حولها بلا هوادة، فهي لم تنطلق على فترات متباعدة بل انطلقت على فترات متزامنة، وقد استغلت إيران أحداث الشغب ووجدتها فرصة مواتية لها لنشر الفوضى في محيطها الإقليمي انطلاقاً من دولة البحرين الشقيقة، التي انتشر فيها الغوغائيون من أزلام النظام الإيراني بدعم مباشر من طهران، مما استدعى تدخل قوات درع الجزيرة وقتذاك لإعادة النظام فيها واجتثاث بذور الفتنة، حتى لا تنتقل تلك الفوضى التي بدأت في البحرين –إن نجحت- إلى بقية دول الخليج العربي.

ما زلت أتذكر الغضب الذي اعترى السيدة كلينتون عقب دخول قوات درع الجزيرة إلى دولة البحرين؛ حيث نددت بها وقتئذٍ بصفاقة واصفة إياها بأنها «خطوة في الاتجاه الخاطئ»!، ولا شك أن وزيرة الخارجية كانت تعني ما تقول، فتدخل المملكة العربية السعودية بقواتها لحفظ النظام في البحرين ووأد الشغب قبل أن يستفحل مثّل ضربة قاصمة لم تتوقعها الولايات المتحدة ولا نظام طهران، ويبدو أن وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة كلينتون توقعت حينها أن الحكومة السعودية ستسعى للحصول على الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية قبل القيام بأي إجراء سياسي أو عسكري يضمن استقرار المنطقة، ولقد كان أمير الدبلوماسية السابق الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- حازماً في رده على السيدة كلينتون، عندما ذكّرها بأن المملكة العربية السعودية لن تستأذن أحداً قبل اتخاذ أي خطوة من شأنها الحفاظ على أمنها وعلى أمن أشقائها من دول الخليج العربي.

لطالما ادعت الولايات المتحدة أنها حامي حمى الديمقراطية في العالم، وأنها تسعى لاستتباب أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة ودول الخليج العربي بصفة خاصة، ولكن هل ترغب حقاً الولايات المتحدة في ذلك؟ لن نقوم بالإجابة عن هذا التساؤل، بل سنقدم تحليلاً موجزاً يتضمن عرض بعض الحقائق ونترك الإجابة للقارئ ليستخلصها بنفسه، ولنبدأ منذ سبعينات القرن الماضي مع تحول منطقة الشرق الأوسط إلى بؤرة ملتهبة من الصراعات، فهل كان للولايات المتحدة يد في إشعالها وإبعاد المنطقة عن الاستقرار؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا نطرح تساؤلاً بديلاً وهو: ماذا يعني استقرار المنطقة؟

استقرار المنطقة يعني بداهة أن دول الشرق الأوسط ودول الخليج على الأخص ليست بحاجة إلى شراء المزيد من الأسلحة والعتاد العسكري من الولايات المتحدة، وهذا يعني ضمناً تقليص الإنتاج العسكري الأمريكي بسبب انخفاض إيراداته، وهذا الشح في واردات صناعة الأسلحة الأمريكية سيتسبب في خفض الموارد المالية الضخمة التي تحتاجها المؤسسة العسكرية الأمريكية لمواكبة التطور التقني الذي تتميز به منافستاها (روسيا والصين) وهو ما يعني ضمناً تقزّم نفوذها الدولي في كل من الشرق والغرب، لذلك فهي حريصة كل الحرص على أن تقوم دول المنطقة بزيادة إنفاقها العسكري بما يضمن لها الموارد التي تساعدها في تحقيق أهدافها.

أضف إلى ذلك أن دول الخليج -وبفضل من الله- تملك أكبر احتياطي من النفط في العالم، والنفط هو شريان الحياة في الولايات المتحدة وغيرها، وترغب الولايات المتحدة ضمان تدفق النفط لها، ولكن بشروطها وأسعارها هي، وحتى تحقق هذا الهدف فإن عليها تحويل دول المنطقة من حلفاء إلى تابعين، ولن يتم ذلك إلا بوجود خصم مشاكس له أيديولوجية مغايرة لدول المنطقة، ويلهث وراء التمدد كإيران على سبيل المثال، لذلك تسعى الولايات المتحدة لدعم سلوكيات إيران المارقة خفية.

الإدارات الأمريكية على اختلافها ترقب بقلق مسيرة التنمية والتطور في دول الخليج العربي وتحولها يوماً بعد يوم لمناطق جذابة استثمارياً، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة تخشى من تحول المستثمرين عنها والتوجه للاستثمار في دول الخليج (حيث البيئة المستقرة والمناخ المالي الجذاب)، ولذلك فإن استمرار الفوضى والحروب في المنطقة من شأنه طرد المستثمرين من الخليج وتحولهم صوب البيئة الأمريكية وتحييد أي منافس قوي وإخراجه من حلبة المنافسة، ولا شك لدينا في أن جهود الانفتاح المذهلة التي يقودها الأمير الشاب محمد بن سلمان لتشجيع الاستثمار الأجنبي في المملكة من شأنها أن تثير حفيظة الإدارة الأمريكية، وهو ما يدفع الإعلام الأمريكي لشحذ أسلحته ضد المملكة بصفة عامة وضد ولي العهد بصفة خاصة.

في كل مناسبة يصرّح رؤساء الولايات المتحدة -على اختلاف توجهاتهم- بأن استقرار دول الخليج سببه الدعم الأمريكي لهم، ولكنهم يتناسون في المقابل أن هذا الدعم لم يكن أبداً تجسيداً لمفهوم «يوزع مجاناً ولا يباع!»؛ فدول الخليج كانت ولا تزال تدفع ثمن الحصول على هذا الدعم العسكري والمتمثل في التقنيات العسكرية التي تنتجها المصانع العسكرية في الولايات المتحدة، ولذلك فالمنافع متبادلة بين جميع الأطراف، بل إن تحالف دول الخليج العربي مع رؤساء الولايات المتحدة كثيراً ما كان أحد الركائز الأساسية في العديد من البرامج الانتخابية للعديد من الرؤساء الأمريكيين، ومؤخراً أصبحت الولايات المتحدة تعتبر التحالف مع روسيا -خصمها اللدود- كارثة يتوخى على دول الخليج عدم الاندفاع نحوها، لذلك فإن التصريح الأخير للسيدة كلينتون بأن الولايات المتحدة عليها استخدام سياسة الثواب والعقاب مع دول الخليج ليس بجديد على الإطلاق.