كتاب ومقالات

لماذا.. رغم كل عطائك لا أحد يحبك؟

بشرى فيصل السباعي

أكثر شكوى يمكن سماعها من الناس خصوصاً من الأهل ضد بعضهم هي قول الشخص أنه رغم كل ما يقدمه لمن يشتكيهم لكنه لا يجد منهم الحب والتقدير المناسبين، وأحيانا تكون هذه الشكوى غير منصفة ومتولدة عن حب المسكنة والنرجسية، لكن أحيانا أخرى تكون حقيقية وتصف الواقع بشكل حقيقي، لكن ما تغفل عنه هو البحث عن سبب سلوك الآخرين هذا المخالف للفطرة؛ فمن الفطرة أن الإحسان لأحد يولد الحب والتقدير تلقائيا لديه والرغبة بالتعبير عن هذا الحب والتقدير لصاحب البذل، «اللهم لا تجعل لفاجر عندي يدا -إحسانا ومعروفا- فيحبه قلبي»، وهذا سبب حب الحيوانات الأليفة لأصحابها لدرجة أن يلازم الحيوان قبر صاحبه ويرفض مغادرته، ففطرة الحب المتولد عن البذل تتجلى بالحيوانات لأن الحيوان لا يحب الإنسان من إعجابه بعقليته وشخصيته وإنجازاته، إنما يحبه فقط لحسن معاملته له، ولذا مفيد جدا مطالعة الدراسات عن ردات أفعال الحيوانات على أنماط المعاملة، وأبرز تجارب رصدتها حصلت بسبعينات القرن الماضي وما عاد يمكن تكرارها حاليا بسبب القوانين التي تمنع التجارب القاسية نفسيا على الحيوانات، وكانت التجارب على القرود بتوفير احتياجاتها المادية كاملة مقابل حرمانها من المعاملة العاطفية الحسية سواء من البشر أو من بقية نوعها، فعانت من اضطرابات نفسية وسلوكية خطيرة دائمة وتشوهت كامل غرائزها الفطرية للحب حتى أن الإناث بعدما كبرت وأنجبت هاجمت صغارها وأرادت قتلها، وعندما تم تخيير القرد الصغير بين تمثال له فرو بملمس ناعم مثل فرو الأم وبين تمثال فيه الحليب مصنوع من المعدن وجدوا أنه فضّل الإشباع العاطفي بالبقاء محتضنا للتمثال الذي له ملمس فرو الأم على التمثال الذي يوفر له الغذاء، أي أن الإشباع العاطفي أهم عنده من الإشباع المادي، ومثل هذه التجارب بينت أن الإدراك الفطري يفرق بين البذل الذي يحقق الإشباع المادي وبين البذل الذي يحقق الإشباع النفسي والعاطفي، وأن الكائن غالبا يفضل ما يحقق له الإشباع النفسي والعاطفي على ما يحقق له الإشباع المادي، وعدم توفر هذا الإشباع النفسي والعاطفي يؤدي لتشوه التركيبة النفسية السلوكية للكائن ويجعله قاسيا جافيا وغير ودود، وهذه هي الحقيقة التي يغفل عنها غالبا الناس وهم يتفانون بتقديم الإشباع المادي لأهاليهم لكنهم في نفس الوقت يسيئون معاملتهم نفسيا وعاطفيا، والبذل المادي لا يعوض عن الحرمان من البذل النفسي والعاطفي ولا يمسح الإساءات والأذية النفسية والعاطفية التي لحقت بالإنسان جراء أنماط السلوك والأخلاق والمعاملة التي فيها عصبية وحدة وانفعالات عدائية ورفع للصوت وأنماط إرادة فرض السيطرة والهيمنة والتحكم والاستبداد ولا مبالاة باعتبارات وارادة وشعور ورأي الآخر، والتهديد والوعيد الدائم، والاستخفاف والتهكم وعدم الاحترام، ناهيك عن أن يكون هناك تعنيف مادي، ويصبح لدى الآخرين عند حرمانهم من الإشباع العاطفي والنفسي نمط انتقامي يتبدى بأنماط كالمبالغة بالتطلب المادي وجفوة المعاملة وكثرة التشكي والتنكيد، ولذا كل من يكون له بذل مادي لأهله ولا يجد بالمقابل حبا وتقديرا من طرفهم فيجب أن يراجع أولا أخلاقه وسلوكه ومعاملته لهم بمعزل عن بذله المادي لهم، ويمكنه حتى أن يضع كاميرا تصور معاملته لأهله إن كانوا باستمرار يقولون له إنه أساء معاملتهم، بينما الشخص لا يرى أنه أساء معاملتهم لأن كثيرين يفتقرون للوعي بالذات ولا يعون كم أن صوتهم العالي وطبعهم الغضوب وانفعالاتهم المنفلتة وتعابير وجوههم المتجهمة وجفوتهم العاطفية وألفاظهم القاسية وسلطويتهم وعدم تعبيرهم عن الحب والدعم والتفهم والمواساة والتعاطف يجرح ويؤذي الآخرين وينسيهم كل البذل المادي الذي بذله لأجلهم هذا الشخص، ولهذا كثير من الأبناء يحب الأم أكثر من الأب رغم أن الأب هو الذي يقدم البذل المادي الأكبر غالبا، ويفضلون عند تخييرهم بعد طلاق الوالدين أن يعيشوا مع الأم وليس الأب، فهذا نمط فطري بالمخلوقات أن تعتبر البذل العاطفي أهم من المادي، والبذل العاطفي يولد الحب تلقائيا بنفوس الآخرين، بينما البذل المادي لوحده لا يولد الحب تلقائيا إن لم يرادفه بذل معنوي سلوكي عاطفي، وكثير من الناس له مثال من تتعب بغزل ثوب ثم تقوم بفك غزلها ثم تشعر بالغضب لأن كل تعبها بالغزل ضاع، وهي نقضت غزلها «أي البذل المادي» بعدم بذلها العاطفي السلوكي المحب الطيب الودود المتعاطف الداعم الخالي من الأشواك، ومعاملة الإنسان للآخرين هو امتداد لطبيعة شخصيته؛ ولذا ليحسن أخلاقه ومعاملته للآخرين ليحصل على حبهم وتقديرهم، يجب أن يحسن شخصيته وسيساعده على ذلك مطالعة كتب التنمية الذاتية وكتب علاج المشاكل الأسرية خصوصاً المترجمة التي ألفها متخصصون بعلم النفس، ومراجعة معالج نفسي متخصص بالمشاكل الأسرية برفقة من لديه مشاكل معهم من الأهل. وهناك عبرة رمزية في كون حتى الدواء الذي يرجو الإنسان أن ينقذ حياته يكون مغلفا بالسكر.. لجعله محببا ولتحييد أي نفور تجاهه بسبب مرارة مذاقه، عذوبة المعاملة العاطفية والنفسية هي السكر اللازم لتحييد مرارات الحياة.