بناه الألمان لتخزين الفحم الحجري وصادره الاتراك

جزيرة قماح .. حضرت في الصراع الدولي قديما وغابت اليومبيت الجرمل

بناه الألمان لتخزين الفحم الحجري وصادره الاتراك

جولة: سلطان الحمزي

سمعت كثيرا بجزيرة قماح «إحدى جزر فرسان» فقرأت عنها ولشدة ما انطبع في نفسي من أهميتها تصورت أن الجزيرة الآن تختال في ثوب قشيب ناتج عن مكانتها الحيوية التي تسببت في أن تتموضع على خارطة الصراع الدولي، إذ لا يعقل أن تحتل تلك الأهمية آن ذاك وتكون أقل أهمية اليوم، فحزمت حقائبي وتوجهت اليها وأنا في عرض البحر تحملني « فلوكة « إليها تذكرت ما جمعته من معلومات عنها تحكي بأن موقعها الاستراتيجي وما تتمتع به من خيرات ومعادن هي وجاراتها من الجزر استرعى موقع جزيرة قماح انتباه الألمان فقاموا ببناء مستودع كبير لهم فيها لاستخدامه في تخزين الفحم الحجري المستخدم وقودا للبواخر العابرة للبحر الأحمر بين قناة السويس في الشمال الغربي للبحر الأحمر وباب المندب في الجنوب الشرقي، وهذا البناء الكبير يقع بمحاذاة الساحل ويبعد عنه 50 مترا ولا زالت له بقايا موجودة حتى الآن إذ هو عبارة عن مبنى مستطيل « تبلغ مساحته 107 أمتار طولاً، و340 متراً عرضاً، وله ثلاثة مداخل و يطلق عليه العامة من الناس اسم «بيت الجرمل» وهو تحريف لكلمة «GERMANY» الإنجليزية. وفي التفاصيل يذكر الاديب والشاعر إبراهيم مفتاح نقلا عن مترجمات مركز الخليج العربي بأن ألمانيا – مستغلة تحالفها مع تركيا – طلبت منها الحصول على ترخيص ببناء مستودع للفحم الحجري في جزيرة «قماح»، والهدف الظاهر منه تزويد السفن العابرة للبحر الأحمر، وبالفعل تم بناء ذلك المستودع الذي أطلق عليه الأهالي « بيت الجرمل» ، وكان ذلك سنة 1319 هـ 1901م إلا أن تركيا – بعد موافقتها الأولية – تذرعت ببعض الأسباب وسحبت الترخيص الذي منحته للألمان فرحلوا منها، لكن الأمل ظل يراود الألمان في الحصول على موقع في جزر فرسان حيث تقدمت للباب العالي بطلب الحصول على امتياز فيها فرفضت تركيا مرة أخرى معللة ذلك بأنها تفضل أن تعطي الامتياز للعرب.
لفظ فرسان
ويضيف: فعلا منحت الامتياز لشخص من رعاياهم يدعى يوسف عاصم وكان تاجر قهوة وسكر في اسطنبول ويتعامل بشكل رئيسي مع الحجاز واليمن، أعطوه الامتياز لاستثمار النفط في جزر فرسان إلا أنه عام1328هـ تقدم «وليام هايكوك» وهو مهندس تعدين في اسطنبول وشرع يفاوض يوسف عاصم لشراء أو نقل الامتياز نيابة عنه عن شركة النفط الشرقية البريطانية « فتقدم يوسف عاصم بطلب للحكومة التركية لمنحه صلاحية إجراء البيع .
وبناء على ذلك الطلب منحت الحكومة التركية تلك الصلاحية ليوسف عاصم الذي وافق واتم إجراءات البيع مقابل قيمة نقدية وحصص متفق عليها، وعلى أثر ذلك اغتنمت الشركات البريطانية الفرصة وأخذت تتداول الامتيازات حتى رست على شركة النفط الشرقية التي قامت بنقل الامتياز الى شركة نفط جزر فرسان، وفي أثناء المباحثات التي جرت في لندن مع شخص يدعى حقي باشا بسبب زيادة حكومته العثمانية الضرائب وتكوين الاحتكارات، وبناء على أخذ التعهد بأن الشركة هي بريطانية صرفة تقريبا – تم الايعاز للسفير البريطاني في اسطنبول في 1914/1/9 إعلام الدولة العثمانية أن تحويل ترخيص جزر فرسان إلى مدير شركة النفط الشرقية «جورج روجرز» شرط ملح للاتفاقية البريطانية تجاه الاحتكارات العثمانية .
وجزيرة « قماح « - لمن لا يعرفها - تقع جنوب غرب فرسان الكبرى وأقرب نقطتين بين الجزيرتين هما من ناحية « رأس جبل شدا» في الجنوب الغربي من فرسان وبين رأس خور قماح في الجنوب الشرقي من جزيرة قماح، وعدد السكان قليل لا يتجاوز ال200 نسمة، وهي تشرف على الممر الدولي للبحر الأحمر وعلى السفن العابرة من قناة السويس إلى باب المندب في الجنوب وبالعكس.
الهجرة من قماح
وحين وصلنا الى الجزيرة خاب ظني إذ أن الموقع الاستراتيجي الذي حضر بقوة في قلب الصراع الدولي آنذاك.. لم يشفع اليوم للجزيرة اليتيمة أن تتمتع بمقومات بقاء أبنائها فيها لبعث الحياة وإذكاء الحيوية؛ فنظرا لانعدام خدمات التعليم والصحة والكهرباء والخدمات البلدية وصعوبة التنقل فقد هاجر أغلب أبنائها إلى جزيرة فرسان، وتناقصت أعداد البيوت المتبقية من 60 بيتاً الى 15 بيتاً حاليا وفق تقديرات أهالي الجزيرة. وقد علق ابراهيم مفتاح «عضو مجلس منطقة جازان» على ذلك بأنها هجرة سلبية تتعارض مع مكانة الجزيرة الاستراتيجية وضرورة بقائها حية، لذا فيجب تشجيع أهالي قماح على البقاء فيها من خلال حل مشاكلهم بإيجاد الخدمات الحيوية أسوة بوزارة التربية والتعليم التي فتحت لهم مدرستين ابتدائيتين للأولاد والبنات برغم أن العدد قليل، وتوفير بدائل النقل من وإلى جزيرة فرسان, وفي هذا الصدد كانت وزارة التربية والتعليم (تعليم البنات) قد قررت منذ عام تقريبا تأمين قارب بحري لنقل الطالبات من جزيرة قماح إلى جزيرة فرسان. صرح بذلك حينها المدير العام للشئون الإدارية والمالية بتعليم البنات الدكتور أسامة بن فهد الحيزان، حيث بيّن أن الطالبات يعانين حالياً من مشكلة التنقل اليومية في فلوكات صيد لا تنطبق عليها ضوابط السلامة البحرية؛ ما يعرضهن للخطر اليومي.
«الفلوكة» شريان الحياة
ولك أن تقف على شاطئ فرسان - الى جهة الجنوب الغربي - حيث تجتمع «القوارب» و»الفلوكات» فبعضها للصيد والبعض الآخر لمن شاء أن يتنزه ولا غرابة في ذلك أو عجب، لكن محدثي اضطرني أن أتحول بكامل جسمي اليه حين أشار الى قاربين وتابع القول: لا تستغرب إن رأيت قاربين وعلى ظهرهما سيارة لنقلها الى الضفة الأخرى، كيف؟ تبسم محدثي وقال: لا تستغرب.. فما حيلة المضطر الا ركوبها، فالطريقة الوحيدة للنقل بين جزيرة فرسان و قماح هي «الفلوكة»، وهناك على ظهر الجزيرة لا توجد غير ثلاث سيارات فقط – حسب قوله – واذا تعطلت السيارة فثمة خياران لا ثالث لهما إما أن يحمل من جزيرة فرسان مهندس ميكانيكي إليها وهو ما قد يكون مكلف الثمن، او قد تبقى بعطلها الى أن يأكلها الصدأ عن بكرة أبيها، بينما تظل الدراجات النارية الوسيلة الأسهل نقلا الى جزيرة قماح وبالتالي فهي وسيلة التنقل الرئيسية والشائعة بين أهل الجزيرة.
معاناة العطش والظلام
«قماح»عاشت معاناة مع الماء الصالح للشرب، فبرغم كون محطة تحلية جزيرة فرسان على الضفة المقابلة لها إلا أن الماء الصالح للشرب لا يبلغ أفواه أبناء قماح إلا بشق الأنفس، إذا أنهم بحاجة الى قارب يذهب الى جزيرة فرسان لجلب الماء الى جزيرتهم فإذا ما وصل الى الشاطئ كانت المشقة اكبر فكيف ينقلونه الى بيوتهم وليس لديهم سيارات، أما الآن فالأمر أضحى أكثر «سهولة» فقد خصص لهم أحد الخيرين «فلوكة» لنقل الماء إليهم من الضفة الأخرى كما خصصت خزانات على ضفاف شاطئهم لاستيعاب ذلك الماء، وبالتالي تقوم سيارة أيضا مجهزة لذلك بنقل الماء من خزانات الشاطئ إلى المنازل.
والسؤال عن الكهرباء في ظل تلك الأوضاع التي أسلفنا أضحى عبثا، فقماح ينطبق عليها المثل السائر «مقطوعة من شجرة» ولو جاءت الكهرباء لحلت كثيراً من معضلاتها ابتداء بالماء فالصحة مرورا بالتعليم وانتهاء بالنقل.
خطر يتهدد الحوامل
حتى الحوامل – يتابع مرافقي – ينقلون بالقوارب اذا حانت ولادتهم، وفي حال كانت الرياح الشديدة فمعنى ذلك أننا لا نستطيع العبور بالفلوكات وهو مؤشر خطر على حياة الأم ووليدها اذ سيلزمها الانتظار على شاطىء الجزيرة حتى يهدأ البحر، وفي حال كانت الولادة متعسرة – لا قدر الله – فإن الأمور تبدو أكثر تعقيدا لأن ذلك يعني تهديدا مباشراً لروحين «الأم» و «المولود»، والحال لا يمكن وصفه أبدا. الجدير بالذكر أن جزيرة قماح تتمتع بطبيعة رملية خلابة، فمساحتها التي في حدود 14.3 كيلو مترا مربعا مشبعة بالحيوية, وكأنها جزيرة تنتظر أن تتحول الى ملتقى السياح الذين يطمعون في الاستمتاع بشمس شتائها البحري وليلة دافئة دون حدود أو فواصل.
وحين دخلناها كان موسم الطيور المهاجرة قد حل «وهو موسم يقع في شهري ابريل ومايو من كل عام، يحتفي فيه أهل الجزيرة بقدوم الطيور من أنحاء العالم وخاصة من أوروبا، فرأينا كيف يهتم أهالي قماح لذلك الموسم بانتشار مصائد الطيور في أرجاء الجزيرة، وبحسب ابراهيم مفتاح فإنهم وجدوا في أرجل بعض الطيور خواتم معدنية نقشت عليها أسماء بعض الدول كألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية والاتحاد السوفيتي.
ومنازل القماحيين المتداخلة تبدو لناظرها كأبناء أم رؤوم حشروا أجسادهم في أنحاء جسدها طمعا في الاستمتاع بحنانها أو الاستظلال بظلها، إنها ولا شك ترسم صورة لقصة كفاح طويلة.. من أجل الحياة.
وأخيرا لا تعاود السؤال عن بيت «الجرمل» فهو لم يبق منه الا السور، وفي حال لم تجد من يؤكد لك بأن ذلك الموقع هو ما خلفته ألمانيا فلن تستطيع التعرف عليه لأنه أضحى أطلالا غير محددة المعالم، ولعل اهتمام إدارة الآثار ببيت «الجرمل» كاهتمام بقية الوزارات الخدمية بالجزيرة ذاتها.