الهيبة الكرتونية للدب الروسي!

كاظم الشبيب

ماذا تريد كل من روسيا وأمريكا من استمرار التوتر بينهما على خلفية الحرب الروسية الجورجية؟ هل ستُضحي موسكو بعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن؟ وكيف يفهم العالم الانزلاق الأمريكي نحو التصعيد تجاه موسكو؟ أم أن جورجيا بلد يستحق التضحية بمكتسبات العقدين الأخيرين من قبل البيت الأبيض والكرملين؟ أم أن الروس آمنوا أخيراً بأن من مصلحتهم أولاً ومصلحة العالم ثانياً إيقاف الاستثمار الأمريكي والغربي للضعف الروسي والضعف الشرقي والعالمي عموماً أمام تقدمهم العلمي والسياسي والاقتصادي؟
جمدت روسيا علاقاتها العسكرية مع حلف شمال الاطلسي الناتو, واتهمت أمريكا بتسليح جورجيا. مدمرة أمريكية تصل إلى الميناء الجورجي بغطاء العمل الإنساني. الغرب كله يحذر موسكو من العودة إلى زمن «الحرب الباردة». اعتراف روسي باستقلال أوسيتا الجنوبية وأبخازيا. اجتماع رؤساء بلدان «مجموعة شنغهاي» التي تضم روسيا والصين واوزبكستان وقرقستان وطاجيكستان وقيرغيزستان, بحضور أيضا رؤساء إيران وأفغانستان وممثلين عن الهند ومنغوليا, يقدمون تعاطفهم ودعمهم للموقف الروسي. أمريكا تحذر موسكو بأنها تخاطر بعضويتها في منتديات عالمية مثل منظمة التجارة العالمية ومجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى.
سعى الطرفان, الأمريكي والروسي, خلال العقد الأخير, للتفاهم على الخطوط العريضة حول الملفات الساخنة في العالم, في الاقتصاد والسياسة, لكنهما اختلفا حول ملفات عديدة أخرى في السياسة والأمن. لكل طرف أجندته وفلسفته وتقييمه للذات والآخر, يلتقيان في جوانب ويختلفان في أخرى. فقد انتقلت واشنطن من سياسة الاحتواء, التي اتبعتها ضد روسيا أيام الحرب الباردة, إلى سياسة التفرد بروح القطب الأوحد تجاه العالم كما مع روسيا والصين... بينما كانت موسكو تعاني من صور الاذلال, الحقيقي أو المتخيل, الذي مارسه البيت الأبيض والغرب ضدها منذ عام 1990.
شعر الكرملين بأن ما أخذه حتى الآن من الغرب لم يتجاوز الهيبة الكرتونية التي يتم تجاوزها متى ما شاء الآخرون, أو متى ما فرضت مصالحهم ذلك. لكنه عندما استعاد عافيته من جديد, وقد وصلت نيران شبكة الدروع الصاروخية الأمريكية لقاب قوسين أو أدنى من خاصرته, وأصبحت منطقة بحر قزوين, التي يقع أغلبها على الشريط الحدودي لروسيا, منطقة مصالح استراتيجية أمريكية لما تحتويه من أرقام فلكية من الاحتياطيات النفطية, ولما بلغ تهوينه والاستخفاف به أطرافاً كجورجيا, يعدها الروس من مناطق نفوذهم التقليدية التي ينبغي أن تلعب في حظيرتهم, كل تلك المعطيات وغيرها دفعت الكرملين نحو البروز كلاعب حقيقي لا كرتوني.
خطوة الحرب الروسية في جورجيا لم تكن وليدة اللحظة كما يظن البعض كرد فعل تجاه اقدام جورجيا لمحاولة السيطرة على اقليمي أوسيتا الجنوبية وأبخازيا, بل استغرق الاستعداد الروسي لهذه الحرب سنتين تقريباً, مما يشي بأن الروس قرروا بعد 17 عاماً من تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي مراجعة الذات ووضع تصور جديد لمستقبلهم وكيفية وجودهم على خارطة آسيا والعالم. أي أن الروس يمرون بمرحلة إعادة صياغة رؤيتهم لأنفسهم والآخرين. روسيا تعلم بأنها لا تتمكن, بحكم الواقع وليس الآمال, من استعادة ما أخذه التاريخ عندما كانت دولة عظمى. وهي تؤمن أيضاً بعدم رضاها لواقعها الحالي, أو الاستسلام له, بحكم التاريخ والامنيات, كدولة تنتقل من ضعف إلى آخر منذ 17 عاما. من هنا, فهي تسعى لإستعادة بعض من هيبتها المسكوبة, أو بعض من قوتها المضيعة في عالم غرد فرحاً بانهيارها, وزغرد طرباً وتفرجاً بتفككها.
يبدو أن الروس التقطوا اللحظة العالمية بعناية واضحة. ففي الوقت الذي بلغت كراهية العالم للسياسة الأمريكية كقطب واحد ذروتها من جراء تفردها وتسيدها لما يجري في جميع انحاء المعمورة, واستغلال المؤسسات الدولية لمصالحها, وسياساتها التي لم تنجح في العراق وأفغانستان وفلسطين, وانهيار سعر الدولار, ومعاناتها من أزمة الرهن العقاري, وانشغالها بالانتخابات على قدم وساق... في هذه اللحظة يبرز الروس ليقولوا للأمريكيين والغرب والعالم كله «إننا هنا».
ويبدو أيضا أن عالم القطب الواحد لم يحالفه الحظ ليستمر طويلاً, وأن العالم مل ايقاعاته ورتابته. لا يعني ذلك بأن العالم يتجه نحو الحرب الباردة من جديد. فروسيا غير مهيأة لتكون القطب الثاني, إلا إذا وجدت بعض الدعم من قوى عالمية كالصين واليابان قد تلتقي مصالحهما معها في ذلك. لذا فالعالم سيعمل على تجريب بديل آخر وهو «التعددية القطبية» خلال الفترة القادمة, قد تطول عقوداً. هنا, أمام هذا التشكل الجديد في البيئة الجيوسياسية لما بعد الحرب الباردة, ما هي رؤيتنا كعرب ومسلمين تجاه عالم متعدد القطبية؟
kshabib@hotmail.com