كتاب ومقالات

ولي العهد والإصلاح الشامل

علي بن محمد الرباعي

من يقرأ سيرة الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يعلم أن الحاكم؛ الفقيه؛ يسوغ له الاجتهاد في النصوص بما تمليه عليه المصلحة؛ وإن خالف ظاهر النص؛ ومما ثبت عنه قبول شهادة النساء وحدهن في ما لا يطّلع عليه الرجال، كالجرائم والجنايات التي تقع في محيطهن، وشهادة القابلة على الولادة؛ وتعيين الولد عند النزاع فيه، رغم أن الآية نصت على (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان). وروي عنه إجازته شهادة النساء في الطلاق، وعدم قطع يد السارق عام المجاعة، علماً بأن قطع يد السارق حد من حدود الله، ثابت بالآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) وبالحديث: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تُقطع اليد في عذق ولا عام سنة» وهذا تخصيص؛ بشبهة المجاعة.

ومن يتتبع سيرة خامس الخلفاء عمر بن عبدالعزيز، رضي الله عنه؛ يقف على صيانته لبيت المال، وتحصينه؛ عن تطاول أيدي الولاة والأمراء، ورفضه لمبدأ أن يكون امتيازاً للقلة على حساب البقيّة من الشعب في عصره والعصور اللاحقة، ومما يروى أن وهب بن منبه كان على بيت مال اليمن: فكتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً» فكتب إليه: «إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم».

وعن ميسر بن أبي الفرات: أن الحجبة كتبت إلى عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، ليأمر للبيت الحرام بكسوة كما كان يفعل من كان قبله، فكتب إليهم: إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة فإنها أولى بذلك من البيت.

فيما شهد عصر المأمون نقلة علمية وثقافية، بدءاً من العناية بالعلوم والفنون والآداب والفلسفة، ما رفع مكانة العلم، وأتاح بالقرار مساحةً لطرح الأفكار المتجددة، فأرسل البعوث إلى (القسطنطينية) و(الإسكندرية) و(أنطاكية) لجلب مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة من المترجمين؛ لنقلها إلى اللغة العربية، وأنشأ مجمعاً علمياً في بغداد، ومرصدين؛ في بغداد، و(تدمر)، وطلب من الفلكيين رصد حركات الكواكب، وأمر برسم خريطة جغرافية للعالم، ما أسهم في ازدهار المعارف، والكشوف؛ واتصال الحضارات.

ولا ريب أن منهج الإصلاح، المعتمد، في عصر خادم الحرمين، وولي العهد، انطلق من مشروع كُلّي لا يتجزأ، فالإصلاح الديني لا ينفصم عن الإصلاح الاجتماعي؛ والاقتصادي والثقافي، والسياسي، كون الإصلاح دوائر تبدأ من المركزي، وتتسع لتشمل كافة جوانب الحياة، والوطن الإصلاحي عمره أطول.

وربما يظنّ البعض أن الإسلام لا يمكن حفظه إلا بقناعات تقليدية، إلا أن الإسلام إذا ارتهن إلى التقليدية والجمود والرجعية ذبل وتعطّلت روحه، ذلك أنه دين للحاضر والمستقبل، ولا يمكن لمجتمع أن يخطو براحة وانسجام إلى الأمام، وعلى كاهله ترزح كل حمولات تاريخ ماضٍ؛ مرضه أكثر من صحته.

ولو سلّمنا لأعداء الوطن ممن يحلمون بمشروع أممي وخلافة بأنهم صمام أمان الأوطان، فسيوقعون المجتمعات في انقسامات، وتحزبات، وصراعات، وأزمات وانقلابات، إضافة لتعطيل التنمية، وإفساد العلاقات الإنسانية والمصلحية؛ فهم يتمسكون بالفهم المؤدلج لخدمة مشروعهم؛ ولا يعنيهم التقدم بأوطانهم، والشواهد ماثلة للعيان وخالدة في ذاكرة الزمان، فالثورة الخمينية في إيران، التي لم تحقق ما بشّرت به؛ من مجتمع العدل والحريات والمدنية، ولا عملت للرفاه الموعود؛ كما رفرفت به راياتها في مطلعها المريب، بل صوّبت البنادق، ونصبت المشانق، وحفرت الخنادق لدفن الشعب حياً إن نادى؛ وإماتته تدريجياً إذا صمت.

وليست شخصية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان طارئة، ولا دخيلة، ولا مُنبتة، فالسياسات والقرارات تؤكد أن الجذور الأصيلة غير منفصلة عن أرومتها الأولى؛ فما ذهب إليه (قائد الرؤية) من مراجعات للنص الدِّيني له سوابق ثابتة في العصور المفضلة، من مراجعة النصوص، والتخصيص لبعض العمومات، باعتبار النص العام يُخصّص بالنص وبالإجماع وبقول الصحابي وبالعقل وبالعُرف وبالعادة، وبالحسّ، ويُطلق عليها مخصصات مستقلة، كما يُخصص بالاستثناء الوارد في النص، والشرط والغاية والصفة.

وتخصيص النص بالمصلحة المرسلة ورد عند المالكية والحنفية، وقال به الشافعية، وحكموا بقاعدة الضرورات، واختيار أهون الشرين، ولا يغيب عن الشرع أن الإنسان كائن متغيّر، لذا جاءت النصوص بقدر وافر من المرونة في تجاوبها مع المتغيرات؛ وعدم إعنات الأتباع؛ بما هو خارج الثوابت القطعية.

ثم إن أجمل ما يتبناه حاكم مسلم اليوم، يتمثل في توظيف الجانب الأصلح للنص في التحولات، ومراعاة تبدل الأحوال، وفق السياق التاريخي، والتطور الاجتماعي؛ ما يؤكد مدنية وحضارية روح الدِّين القابل للتجدد من داخله، اعتماداً على العلم والمال.

وهنا يطرح السؤال نفسه؛ هل توظف الدولة الإسلام برؤية أحدث لخدمة المجتمع؟ أم توظف جماعات الإسلام السياسي المجتمع لخدمة فهم قاصر للدِّين، وتُخضع النصوص لغايات مشبوهة؟