كتاب ومقالات

التقاعد والاكتئاب المرضي

عقل العقل

التقاعد عند الغالبية منا هو مثل المرض العضال الذي يفاجئني من غير موعد ويقرّب النهايات الحزينة، الكل يعمل في وظيفته ويستبعد أنه يوماً سيغادر هذه الضوضاء والأهمية والإنتاجية، في ثقافتنا الكل يعمل جاهداً أن يمدد له سنوات عمله في وظيفته وتجد البعض منهم يلاحق الوزراء والمديرين حتى يمددوا خدمته في وظيفته، المهم أن الغالبية الآن تغادر مراكزها الهامة وتقبع في منازلها في فترة التقاعد ولا نعرف ما يجري لهم خلف الجدران الأسمنتية الشاهقة.

قبل عقود كان المتقاعدون في مجتمعنا فئة يغلب عليها المحافظة في التفكير والسلوك ولا تهوى المغامرات في هذه المرحلة الحساسة، الآن الظروف تغيرت من كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالمتقاعدون أو أغلبيتهم فئة متعلمة ولها تجارب عميقة في السفر ومعرفة ما يدور بالعالم وتتحدث اللغات الأجنبية، في جميع دول العالم تجد المتقاعدين هم الأكثر سفراً لدول العالم، بل إنه في الغرب مثلاً تجد المدن الشاطئية الجميلة والمرتفع نسبة الحياة فيها اقتصادياً هي للمتقاعدين هناك، أي أن هذه المرحلة تحتاج تخطيطاً دقيقاً مالياً واجتماعياً، فالأولاد كبروا واستقلوا اقتصادياً ولم يعودوا يشكلون عبئاً على الوالدين؛ لذا تجد هؤلاء الأجانب يدورون سيّاحاً في دول العالم بشهية وإقبال على الحياة بكل متعها الجميلة ولا يلتفتون للأخبار السلبية في حياتهم أو في ما حولهم، في تلك الدول نجد الكثير منهم يغيرون أماكن سكنهم من دولة لأخرى، بل إنهم يمتلكون منازل في تلك الدول الأجنبية، بل البعض منهم يقدمون على علاقات غرامية وزواج من نساء في دول تختلف عن النساء في بلادهم بشكل كبير.

متقاعدونا أو بعضهم بدأوا الآن في الانطلاق في فضاء الحياة الواسع بعد التقاعد والتمتع في هذه المرحلة الجميلة من العمر وخاصة لمن رتّب أوضاعه قبل ترك وظيفته، لا أتكلم عن بعضهم الذين لا يتخيل أن يكون بلا عمل، وهذه قد تكون بلا شك ميزة إيجابية للإنسان، ولكن إلى متى والركض مستمر والنهايات تقترب والعبر والقصص نشاهدها كل يوم لزملاء مروا وكدحوا ورحلوا دون أن يتمتعوا بالسفر والتجارب الجديدة البعيدة عن المناصب والصراعات الوظيفية القاتلة، في مرحلة التقاعد تكثر النصائح كيف نعيش هذه المرحلة وخاصة المحافظة على الأصدقاء، ولكنني أعتبر مثل هذا الكلام فيه شيء من التنظير البعيد عن الواقعية فللأسف في حياتنا قبل التقاعد تتقطع بنا السبل مع الأصدقاء وخاصة زملاء الدراسة والابتعاث مثلاً ونكون غارقين في معترك حياتنا الشخصية، فإنه من المحال بعد التقاعد البحث عنهم وإعادة وشائج الصداقة المنقطعة منذ سنين طويلة.

للأسف المتقاعدون في مجتمعاتنا العربية يتقاعدون بالفعل عندما يغادرون الحياة نهائياً فنحن أناس يشغلنا ليس حياتنا الشخصية التي خططنا لها ولكن مع الأسرة والأولاد نصبح قلقين على دراسة الأولاد وصحتهم وتخرجهم وحصولهم على وظائف مناسبة وزواجهم ومشاكل طلاقهم إن حدثت وبعد ذلك الاهتمام بالأحفاد والدائرة تكبر وتتعقد والمتقاعد المجاهد الأول هو من يدفع الثمن، البعض يتعرضون لنكسات صحية فقط لأنه ترك الوظيفة والبعض تسيطر عليهم الأمراض النفسية نتيجة ما يعتقدون من أفكار بالنكران من المجتمع، وتصيبهم أعراض الاكتئاب للأسف، لاحظت بعض المتقاعدين مؤخراً يخططون ويستمتعون بحياتهم بالسفر والإقامة في بعض الدول العربية والأجنبية لظروف متعددة منها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، بل إن بعضهم اصبح يقطع شهور العام بالترحال في دول العالم وفي الرحلات البرية والاستكشافية وداخل الوطن، الأكيد أن بعض المتقاعدين يحتاجون التفاتة من حيث قلة المداخيل وقضايا التأمين الصحي ومسألة التخفيضات الحقيقية لهم في بعض الأنشطة الرياضية والطبابة والسفر، وهذا أقل واجب نقدمه لهم.