كتاب ومقالات

الأزمة الصامتة في الجيش الفرنسي

رامي الخليفة العلي

يعتبر الجيش الفرنسي من أعرق الجيوش في القارة العجوز، وهو يحتل المرتبة الأولى في الاتحاد الأوروبي من حيث العدة والعتاد، وقد كان الحامل الأساسي للتاريخ الفرنسي طوال القرون الثلاثة الماضية بكل ما في هذا التاريخ (سلبياته وإيجابياته). وقد مرّ هذا الجيش بانتكاسات لعل أقساها الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك استعادت فرنسا دورها وحافظت على الحد الأدنى من قوتها ونفوذها خصوصاً في القارة السمراء، (بالأمس غادر آخر جندي فرنسي من مالي)، وربما يعبّر هذا عن حالة التراجع الفرنسية. وربما كانت أزمة إلغاء أستراليا لصفقة الغواصات الفرنسية التي حدثت في الخريف الماضي رأس جبل الجليد من أزمة صامتة تجتاح العسكرية الفرنسية. الأمر لا يقتصر على الصناعات الدفاعية التي تكافح بمرارة للحفاظ على موقعها في إطار تنافس شديد مع اللاعبين القدامى كالولايات المتحدة وروسيا والصين ولاعبين جدد مثل تركيا. الأزمة تدخل في صلب الجيش الفرنسي حيث ذكرت صحيفة «لوموند» الفرنسية أن الجيش يفتقر للأسلحة الحديثة والترسانة المدفعية. وذكرت الصحيفة أنه في حال نشوب صراع ضخم، ستواجه القوات الفرنسية نقصاً حاداً في المدفعية بعيدة المدى والذخيرة، إضافةً إلى افتقار الجيش الفرنسي إلى الأسلحة الحديثة. الأزمة بدت أكثر وضوحاً في جلسات استماع برلمانية مغلقة عقدت من قبل لجنة الدفاع التابعة للجمعية الوطنية، التي نشرت محاضرها بحسب اللومند في بداية شهر أغسطس، وكان هدف تلك الجلسات إقناع النواب بالدعم المالي لخطة الرئيس لإعادة تقييم قانون البرمجة العسكري الذي هو قيد التنفيذ حتى العام 2025. في هذه الجلسات تم الكشف عن ضعف الإمكانات المادية مقارنة بالسنوات السابقة، حيث قال رئيس هيئة الأركان تييري بوركار: «إن قدرتنا على أن نكون قوة استكشافية لا تجعلنا قادرين على الفور على شنّ حرب شديدة الكثافة». بينما يذهب رئيس أركان القوات البحرية الفرنسية الأدميرال بيير فاندييه إلى أن: «البحرية الفرنسية لم تكن بهذا الحجم الصغير من قبل». من جهة أخرى تم تخفيض عدد المقاتلات في فرنسا إلى الثلث، وظهرت حاجة لشراء طائرات دون طيار إضافية ومدفعية بعيدة المدى، وتحديث أنظمة الدفاع الجوي.

هناك شعور فرنسي خادع بأنه لا يوجد تهديد للجمهورية الفرنسية سوى من بعض القوى غير التقليدية مثل المنظمات الإرهابية وجيوب للتطرف في منطقة جنوب الصحراء. ولكن فرنسا تتفوق على هذه القوات عدداً وعدة. القوات الفرنسية باتت تعتمد أكثر فأكثر على مواجهة حرب العصابات التي تشنها بعض التنظيمات في أفريقيا، ومقاومة الإرهاب بالتعاون مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. لكن في حقيقة الأمر وفي حين كانت فرنسا تقنع نفسها بهذا الأمر فإن هناك الكثير من التغيرات التي تطرأ على الساحة الدولية وأهمها عودة الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وكذا بين الصين وأمريكا، وإذا بقيت فرنسا على نفس السياسة الدفاعية فسوف تصبح هامشية في هذه الصراعات الجديدة. عندما يتحدث رئيس هيئة الأركان الفرنسية عما أسماه حرباً شديدة الكثافة فإنه يقصد كالحرب القائمة في أوكرانيا، فهو يرى أن فرنسا تعاني من نقاط ضعف في حال أي مواجهة مع الجانب الروسي حتى وإن لم يسمه. حتى وإن قامت فرنسا بدق ناقوس الخطر فهل هي قادرة على تقديم استجابة ووضع خطة تمكّنها من بناء قدرات دفاعية نشطة تستطيع أن تحجز مكاناً لها في الخارطة العالمية؟ هناك الكثير من الشكوك بسبب إحساس الأمان الكاذب، والأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق، والأحداث القريبة التي تتطلب ردة فعل آنية بينما السياسات الدفاعية تحتاج وقتاً طويلاً. وكذلك فقدان المبادرة التقنية، فالأطراف الدولية سبقت فرنسا بمراحل وفي ميادين شتى منها الذكاء الصناعي العسكري والصناعات الدقيقة والقدرات العلمية الهائلة، وفرنسا حتى الآن لم تضع خططاً للحاق بالركب.