غدوت أكتم حزني مع رحيل أي إنسان تربطني به علاقة، صدمة الفقد تجعلك منفعلاً، ولكثرة من رحلوا من حياتي، مكنني من تدريب نفسي على هيئة أن فلاناً لم يمت، فقط تقطعت بيننا وسائل التواصل، وهو حي باق في مكانه... هذه الدربة جعلت جزع الفقد أقل وطأة.

سمعت برحيل رجل الأعمال النبيل عبدالمقصود خوجة، وقرأت الكلام ذاته حين يقال عن الرحيل، أعرف أن كلمات الفرح والحزن هي كلمات مستنسخة.. وغالباً ننقاد إلى الهذيان بها من غير الوقوف على ردة الفعل الأولى للصدمة، تلك اللحظة لا يمكن لأي كلمة أو تعبير أن يجسدها بالكلمات.

دربتي التي أتخذها حيال أي فقد، جعلت عشرات الأرقام (لراحلين) لا تزال في جوالي، وإن حدث بحث عن اسم أو وظيفة وجدت اسم الأصدقاء في أماكنهم، والرسائل التي بيننا لا تزال مثبتة في مكانها، رسائل بها مناسبات وصور لكثير من الأحداث التي جمعتنا.. ومع بقاء الرسائل والصور أطمئن أنني لم أفقد صديقي.

الناس لا تعذر أو ليس لديهم فكرتك، والفكرة أن لا تؤبن صديقاً أو عزيزاً، فهو باق فيك، ولا تريد أن تدفنه كما يفعل الآخرون، وإن لم تفعل ما يفعله الناس توصم بقلة الوفاء أو جحود اللحظات التي جمعتك بالراحل..

لذا سوف أتحدث عن عبدالمقصود خوجة الحي، في فترة مرضه، وقفت على بابه ثلاث مرات وفي كل مرة يقال إنه محجوب، لا يستقبل أحداً، فأصبحت وسيلة الاطمئنان عليه من قبل بعض الأصدقاء الذين يؤكدون تواصلهم مع أسرته، وأكتفي بأنه بخير لكنه يمر بأزمة نفسية حادة، وإزاء هذه الجملة (يمر بحالة نفسية حادة) أتحول إلى منقب في كلمات من ينقل هذا الخبر، لماذا هطلت عليه هذه الغيمة النفسية السوداء؟ فتدور الأقوال، والأخبار فلا تعرف أهي صحيحة أم اعتراها زيادة الرواة..

عبدالمقصود خوجة هو الوحيد من رجال الأعمال الذين احتفوا بأصحاب الكلمة بجميع مستويات باثي تلك الكلمة. كان يوصف بأنه باحث عن الشهرة من خلال (الاثنينية)، وهذه الوقاحة لا تصدر إلا ممن لا يتنبهون إلى أن هناك أنفساً جميلة، وتريد بث الجمال في كل مكان وفي كل زمان..

حسناً، أراد عبدالمقصود خوجة الشهرة من خلال (الاثنينية)، فلماذا لم يفعل بعض رجال الأعمال لدينا فعلته؟

وللأسف أن بعضهم بحثوا عن رنة (الدينار) وصداها، وبلاط الثقافة ماص لأي صوت يلقى على عرصاته، فلم يبادر إلى الاهتمام بالأدب والأدباء إلا أنفار لم تكمل اليد الواحدة عدهم !

رجل الأعمال عبدالمقصود خوجة له فضل كبير في تكريمي لمرتين متتاليتين قبل أن أُكرم من أي جهة في بلادي، كرمني وأنا في بداية انتشار رواياتي، وهذا التكريم (الأول) أفرحني كثيراً بصورة لا أستطيع التعبير عنها، أفرحني لوجود أخي أحمد ووالدتي (قبل رحيلهما).. فرحت أنهما شاهدا ابنهما ذلك الطفل الحالم يحصد تكريماً على أنه حقق حلمه أو حقق الفخر لهما، إذ كان حلمهما مغايراً لحلمي، أن أكون موظفاً أحصل على راتب، ولي زوجة وأبناء، لم يكن يدر في خلدهما أن أعيان جدة يلتفون حول ابنهما الصغير فرحاً بإنجازاته... والتكريم الثاني الذي تفضل به الشيخ عبدالمقصود خوجة علي بعد فوزي بجائزة البوكر العالمية، كانت ليلة استحضر فيها الداعي الأجواء الجيزانية من خلال الرقصات الشعبية، وجلب الراقصين إلى قصره العامر، وتوزيع الفل الجيزاني على من حضر.. والتكريمان كان سباقاً بهما، كرمني في بداياتي، وكرمني بعد تحقق منجز كتابي عالمي.. لم أجد في البلد كلها تكريماً كما فعل الرجل النبيل عبدالمقصود خوجة.. اللهم ارحم عبدك عبدالمقصود وأدخله فسيح جناتك.