الديمقراطية ووظيفة الدولة الاجتماعية
الاثنين / 16 / صفر / 1444 هـ الاثنين 12 سبتمبر 2022 23:56
طلال صالح بنان
ما يؤخذ على الممارسة الديمقراطية في نسختها الليبرالية (الأصلية)، تركيزها على الحقوق والحريات الفردية، كأساس لشرعية النظام السياسي. بهذا تكون النظرية الليبرالية، بآلية الممارسة الديمقراطية، قد غفلت عن ما تنبهت له من قبل النظرية السياسية التقليدية، كما خبرتها تجربة دولة المدينة في الثقافة الإغريقية القديمة.
الإغريق القدماء لم تكن لديهم فكرة عن الحقوق والحريات الفردية، فذلك لم يكن حينها مشكلة النظرية السياسية. كان الأثينيون يرون في أنفسهم هم الأحرار، بل هم فقط البشر، وغيرهم عبيداً، وليسوا من جنس البشر! الرواقيون طوّروا فكرة عالمية الإنسان، بوصفه بشراً. في الإمبراطورية الرومانية، يتساوى الجميع، العبد والإمبراطور، من حيث الطبيعة الإنسانية، وليس بالضرورة المكانة السياسية.
مشكلة النظرية السياسية، في الفلسفة الإغريقية القديمة، كانت في المفاضلة بين أنظمة الحكم الرشيدة، وغير الرشيدة. فغاية الدولة تكمن في قدرة النظام السياسي على استغلال موارد المجتمع، لإشباع حاجات أفراده. كلما كان النظام السياسي يعمل للصالح العام، كان النظام السياسي رشيداً وصالحاً. والعكس صحيح.
هناك إذن: ما غفلت عنه النظرية الليبرالية الحديثة، وكانت تركز عليه النظرية السياسية التقليدية القديمة. ألا وهو: البعد الوظيفي للدولة والمسؤولية الاجتماعية للحكومة. افترضت النظرية الليبرالية أنه برعاية حقوق وحريات الأفراد، يتسنى التعامل بكفاءة بإشباع حاجات الناس، دون تدخل الدولة في العملية الاقتصادية.
لكن في حقيقة الأمر، هذا التصور الافتراضي الصارم لفكرة الربط بين شرعية النظام الديمقراطي، وكفاءة فاعليته في حماية وصيانة الحقوق والحريات الفردية، لم يتفاعل على أرض الواقع (حصرياً)، من خلال الممارسة الديمقراطية، مطلقاً. في حقيقة الأمر: ظهور البعد الوظيفي للنظرية الليبرالية، لم يكن رد فعل لانتقاد الفكر الثوري، الذي تصدى له كارل ماركس ( 1818 – 1883) في نقده العنيف للرأسمالية، لكنه جاءَ لاحقاً كرد فعل طبيعي توَلّد ذاتياً بنشأة الدولة القومية الحديثة في أوروبا، بعد صلح ويستفاليا 1648، بقيمها الليبرالية وممارستها الديمقراطية.
هناك وظيفة اجتماعية للدولة، تشكل محور مسؤولية الحكومة، في أنظمة الحكم الليبرالية، ديمقراطياً. مهما كان توجه النخبة الحاكمة، سواءً كان يمينياً محافظاً، أم ديمقراطياً ليبرالياً اشتراكياً، هناك دوماً اهتمام بالوظيفة الاجتماعية للدولة، بشكل أو بآخر. المعيار هنا: مدى تدخل الدولة في العملية الاقتصادية، اتساعاً ومحدودية. الأحزاب والنخب اليمينية المحافظة، تُضَيّقُ من مساحة تدخلِ الدولة في العملية الاقتصادية، تاركةً العملية الاقتصادية، بشكل كبير، على هامش اهتماماتها السياسية.
أما الأحزاب والنخب الديمقراطية والاشتراكية، واليسارية عموماً، فإنها تميل إلى توسيع نطاق تدخل الدولة في العملية الاقتصادية سعياً وراء اتساع مجالات وظيفة الدولة الاجتماعية، مما يعني حكومة كبيرة بسلطات خدمية واسعة، وما يترتب على ذلك من إنفاقٍ أكبر على التعليم والصحة والخدمات البلدية والبنى التحتية وبرامج إعانة الطبقات الفقيرة والمتوسطة وخدمات الطاقة وبرامج إعانات السلع والخدمات الأساسية والضمان الاجتماعي والإسكان ومكافحة البطالة والاهتمام بقضايا البيئة والمناخ وتشجيع المشاريع الصغيرة وبناء الصروح التنموية العملاقة، من طرق وموانئ ومطارات وشبكات اتصال ومحطات توليد الطاقة... إلخ.
كل ذلك يحتاج إلى موارد اقتصادية ضخمة، لا يتحمس لها القطاع الخاص (الرأسمالي) الساعي للربح السهل والعائد السريع، كما لا تتوفر للحكومة إلا إذا تدخلت في علاقات الإنتاج.. ومستويات الأجور.. وأسعار مخرجات الإنتاج، السلعية والخدمية.. ومحاربة الاحتكار.. وفرض نظام تصاعدي للضرائب.. وفرض سياسات نقدية ومالية وسن قوانين محفزة للتنمية، مما يترتب عليه تدخلاً مباشراً في العملية الاقتصادية، لتحقيق مستويات التنمية التي تطمح إليها تلك الأحزاب والنخب اليسارية، استجابةً لمطالب دوائرها الانتخابية.
لم يعد تدخل الدولة في العملية الاقتصادية، للقيام بمسؤوليات الوظيفة الاجتماعية، يتطلب ملكية كاملة لأدوات الإنتاج وتصفية جذرية للرأسمالية، كما في الأنظمة الشمولية في صورتها الشيوعية أو تلك المتطرفة في توجهاتها القومية الفاشية المستبدة. هناك أنظمة ديمقراطية تتفاعل بها تيارات وأحزاب سياسية تؤمن بتعظيم الوظيفة الاجتماعية للدولة، من خلال الصراع السلمي على السلطة، تدفع برموز سياسية إلى سدة الحكم، التي كما تهتم بقضية الحقوق والحريات الفردية، تضطلع بمسؤوليات وظيفة الدولة الاجتماعية.
الوظيفة الاجتماعية للدولة من أهم ركائز شرعية النظم السياسية المعاصرة.
الإغريق القدماء لم تكن لديهم فكرة عن الحقوق والحريات الفردية، فذلك لم يكن حينها مشكلة النظرية السياسية. كان الأثينيون يرون في أنفسهم هم الأحرار، بل هم فقط البشر، وغيرهم عبيداً، وليسوا من جنس البشر! الرواقيون طوّروا فكرة عالمية الإنسان، بوصفه بشراً. في الإمبراطورية الرومانية، يتساوى الجميع، العبد والإمبراطور، من حيث الطبيعة الإنسانية، وليس بالضرورة المكانة السياسية.
مشكلة النظرية السياسية، في الفلسفة الإغريقية القديمة، كانت في المفاضلة بين أنظمة الحكم الرشيدة، وغير الرشيدة. فغاية الدولة تكمن في قدرة النظام السياسي على استغلال موارد المجتمع، لإشباع حاجات أفراده. كلما كان النظام السياسي يعمل للصالح العام، كان النظام السياسي رشيداً وصالحاً. والعكس صحيح.
هناك إذن: ما غفلت عنه النظرية الليبرالية الحديثة، وكانت تركز عليه النظرية السياسية التقليدية القديمة. ألا وهو: البعد الوظيفي للدولة والمسؤولية الاجتماعية للحكومة. افترضت النظرية الليبرالية أنه برعاية حقوق وحريات الأفراد، يتسنى التعامل بكفاءة بإشباع حاجات الناس، دون تدخل الدولة في العملية الاقتصادية.
لكن في حقيقة الأمر، هذا التصور الافتراضي الصارم لفكرة الربط بين شرعية النظام الديمقراطي، وكفاءة فاعليته في حماية وصيانة الحقوق والحريات الفردية، لم يتفاعل على أرض الواقع (حصرياً)، من خلال الممارسة الديمقراطية، مطلقاً. في حقيقة الأمر: ظهور البعد الوظيفي للنظرية الليبرالية، لم يكن رد فعل لانتقاد الفكر الثوري، الذي تصدى له كارل ماركس ( 1818 – 1883) في نقده العنيف للرأسمالية، لكنه جاءَ لاحقاً كرد فعل طبيعي توَلّد ذاتياً بنشأة الدولة القومية الحديثة في أوروبا، بعد صلح ويستفاليا 1648، بقيمها الليبرالية وممارستها الديمقراطية.
هناك وظيفة اجتماعية للدولة، تشكل محور مسؤولية الحكومة، في أنظمة الحكم الليبرالية، ديمقراطياً. مهما كان توجه النخبة الحاكمة، سواءً كان يمينياً محافظاً، أم ديمقراطياً ليبرالياً اشتراكياً، هناك دوماً اهتمام بالوظيفة الاجتماعية للدولة، بشكل أو بآخر. المعيار هنا: مدى تدخل الدولة في العملية الاقتصادية، اتساعاً ومحدودية. الأحزاب والنخب اليمينية المحافظة، تُضَيّقُ من مساحة تدخلِ الدولة في العملية الاقتصادية، تاركةً العملية الاقتصادية، بشكل كبير، على هامش اهتماماتها السياسية.
أما الأحزاب والنخب الديمقراطية والاشتراكية، واليسارية عموماً، فإنها تميل إلى توسيع نطاق تدخل الدولة في العملية الاقتصادية سعياً وراء اتساع مجالات وظيفة الدولة الاجتماعية، مما يعني حكومة كبيرة بسلطات خدمية واسعة، وما يترتب على ذلك من إنفاقٍ أكبر على التعليم والصحة والخدمات البلدية والبنى التحتية وبرامج إعانة الطبقات الفقيرة والمتوسطة وخدمات الطاقة وبرامج إعانات السلع والخدمات الأساسية والضمان الاجتماعي والإسكان ومكافحة البطالة والاهتمام بقضايا البيئة والمناخ وتشجيع المشاريع الصغيرة وبناء الصروح التنموية العملاقة، من طرق وموانئ ومطارات وشبكات اتصال ومحطات توليد الطاقة... إلخ.
كل ذلك يحتاج إلى موارد اقتصادية ضخمة، لا يتحمس لها القطاع الخاص (الرأسمالي) الساعي للربح السهل والعائد السريع، كما لا تتوفر للحكومة إلا إذا تدخلت في علاقات الإنتاج.. ومستويات الأجور.. وأسعار مخرجات الإنتاج، السلعية والخدمية.. ومحاربة الاحتكار.. وفرض نظام تصاعدي للضرائب.. وفرض سياسات نقدية ومالية وسن قوانين محفزة للتنمية، مما يترتب عليه تدخلاً مباشراً في العملية الاقتصادية، لتحقيق مستويات التنمية التي تطمح إليها تلك الأحزاب والنخب اليسارية، استجابةً لمطالب دوائرها الانتخابية.
لم يعد تدخل الدولة في العملية الاقتصادية، للقيام بمسؤوليات الوظيفة الاجتماعية، يتطلب ملكية كاملة لأدوات الإنتاج وتصفية جذرية للرأسمالية، كما في الأنظمة الشمولية في صورتها الشيوعية أو تلك المتطرفة في توجهاتها القومية الفاشية المستبدة. هناك أنظمة ديمقراطية تتفاعل بها تيارات وأحزاب سياسية تؤمن بتعظيم الوظيفة الاجتماعية للدولة، من خلال الصراع السلمي على السلطة، تدفع برموز سياسية إلى سدة الحكم، التي كما تهتم بقضية الحقوق والحريات الفردية، تضطلع بمسؤوليات وظيفة الدولة الاجتماعية.
الوظيفة الاجتماعية للدولة من أهم ركائز شرعية النظم السياسية المعاصرة.