كتاب ومقالات

باطل ينطح.. ولا حقّ يكاكي

علي بن محمد الرباعي

سمع (عوض) جاره (أبو معيض) يشكي لزوجته منه ويقول: الله لا يسقي ساعة؛ جاورنا فيها. فعلّقت: هذا المخلوق كل يوم أذاه يزيد، لكن سبحان من رزقه زوجة من بنات الحلال، والصبايا شرّفهن اللي خلق، تنحط الواحدة على الجرح فيبرأ. فدخل عليهم، وقال: كني سمعتكم، تدعون عليّه. فلم يردّا عليه، فقال: إن كان ما تبغون جيرتي بيعوني البيت، والمحوا لكم جار على مقاسكم.

صباح يوم الجمعة، سبق (عوض) (أبو معيض) إلى وادي الغيل، وأدخل حمارته إلى وسط الغدير، وبدأ يرشها بالطاسة، لإزالة غبار المراغة؛ عشان بيهبط بها سوق السبت. وطلب منه أبو معيض إتاحة فرصة ليسقي ثوره، فقال: زِعرّة تقترب. وعندما حاول الاقتراب؛ حذفه بالطاسة، ولو ما دنّق عنها كان لبدت في خشمه، وكادوا يتلازمون بالأيدي؛ لولا أن زوجة العريفة بدت عليهما من ركيب الذرة المتناصف، وقالت: اعقبوا يا قليلين الشيمة، تتضاربون في يوم فضيل. وأقسمت أن الثور والحمارة أعقل من اللي ما يعرفون حق الجيرة.

وذات ليلة ربيعية، استرق (معيض) النظر من تحت بطانيته، فإذا أبوه وأمه، وإخوانه، وأخواته غاطسين في سابع نومة؛ ولو أحد يشتلّهم من فوق فُرشهم ما حسوا بشيء، فالتقط البطانية، وتكاية حشوها علف، وأعنز السُّلم على مدخل البيت، وصعد فوق السقف، ومشى على رؤوس أصابعه، فالسقف مشترك لثلاثة بيوت، وفي ركن مقابل لمطلع البدر مدّ بطانيته، وتمدد على ظهره؛ متأملاً سيّد السماء المتكامل بهاه، والمُشع كوجه مألوف؛ فتلبسته حالة شجن، فغنى «يا قمر لا تنوّر لغيري، خلّ نورك في الليل ليّه»، وما أمداه يكمل قصيدة قمره إلا و(عوض) فوق رأسه، فنهض مفزوعاً، فتناول طرفي عمامته، وبرمها لين انحزقت على رقبته، وبين فك ما تفك، علا صوت (عوض): من هو القمر اللي يخلي نوره لك؛ يا ولد الزِفر. و(معيض) غصبى ينشغها، من الخنقة، ويقسم ما يقصد حاد.

نزل به، يقتاده؛ كمن حكم الله عليه، واستحبه لداخل البيت، وكتفه في الزافر، وما أسفرت الشمس بوجهها، ولامست بمحياها الدافي حلوق أبواب باردة، ووجنات طفولة بريئة إلا و(أم معيض) تصيح وتدعي من يصيح، (يا ولدي ولداه)؛ فبدت بنت (عوض) من الخَلْف، وقالت: يا خالة؛ لا تخافين، معيض عندنا ربطه (آبي) في الزافر، سلّم (أبو معيض) من ركعتي الضحى، أداها عَجِلاً، وكان وهو يصلّي يسمع الكلام، ففزّ، واحتزم بجنبيته، والرجال ما هو دون شيء، فوضعت زوجته يدها على الباب، وقالت: والله ما تخرج، خلنا من الله في سعة.

نادت على بنتها البكر، وطلبت منها تروح تدعي العريفة، ولا تعوّد إلا به؛ سألها: وش ساق خطوتك علينا يا بنت الغالية؟ فقالت: أمي تبغاك، فاعتزى «أبو ناصح بوه» وقال: امشي وأنا في ساقتك. وصل وسمع ما فعله (عوض) بمعيض؛ فقال: ما هِلا، ووضع عمامته على فمه وبدأ يضحك. وانتقل لبيت عوض، ونشد عنه، فأجابت حرمته: سرح يختلي للجمل. فافتك معيض، وقال: إذا راح خليه يكسيني رأسه.

تناول (أبو معيض) الدلة من فوق الجمر، فأقسم (عوض)، ما يصب دلة العريفة إلا هو؛ فقال العريفة: خله يا (بو معيض) يصبّ وانت أُنخش لنا من العدلة حبتين تمرة نحلي بها قهوتنا. فجاء بالتمر، ورمى عمامته، فوق رُكبة العريفة، وقال: داخل على الله ثم عليك تفكنا من شرّه، طول ليل الله، يدقدق بالمطرقة في السفل، والبنات يخرعن منه، وترى يد الرجال اللي قدامك ولسانه طالت علينا، وأنا ما لحقه منّي كُبر الشعرة. و(عوض) يمضغ التمرة، ويرشف، ويتبسم.

سأل العريفة عوض: كيف تؤذي جارك، ويوم الجمعة تحداه لا يسقي ثوره، وآخرتها تكسر خاطر ومقام معيض، وتسحبه، وتخنقه حتى بيّضت عيونه، وتلف عليه المقاط، كنّك تعقل بعير؟ فقال عوض: يا كبيرنا، وش وزّه؛ والناس هاجعين، يتنسبل ويدبِي، فوق بيوتنا؛ ترضاها على بيتك. فقال: لا والله ما أرضاها لا علينا ولا عليك. ولمح في (أبو معيض)، وقال: الدجاجة ما ترقد لين تضم فرخانها تحت جُنحانها، وأنت ما تصدق على الله تشم قفاة (أم معيض) حتى تنعمي، وما عاد تدري عن اللي قام واللي نام.

قال (أبو معيض): يا عريفة؛ يستحب ولدي سحب البهيمة، ويصلبه في الزافر؛ تراها سُبل وسيّه بيني وبين عوض. فالتقط الهرجة عوض، وقال: إذا لقيت ولدي فوق بيتك يشيل بالغناني والناس راقدين، فحُق تراب مِلى وجهه، واصلبه في زافر المسيد. قال العريفة: ما أحلى الشبا لو كان في جنبي، ولكن تعوذوا من الشيطان؛ وقولوا لا إله إلا الله، وصلّوا على شفيع الخلق؛ صلى الله عليه وسلم. وأخرج مسواكه العُتم الناشف من جيبه، وبدأ يلجغ فيه، ويردد «والله ما أصخاك ولا أصخاه، وإنكم عينين في رأس، ولكن العِلم له عنبوب، وأطلبكم تمهلوني إلى دور اليوم، ويصير خير». مرّ أسبوع، أسبوعين، ثلاثة، والعريفة ما ردّ عليهم.

اشتكى (أبو معيض) على الشيخ، وحدد لهم جلسة، وطلب شهود، وأبلغ العريفة فانقلب وجهه، وقال: تعرف طريق الشيخ؛ هيا، إلى ذاك اليوم وخير، والعِلم له عنبوب. عاد (بو معيض) للبيت، وقضى بقية نهاره مع ليله، يحاول فك عبارة العريفة (العِلم له عنبوب)، سألته أم معيض (وشبك تهرّج نفسك)، فقال: خالك العريفة؛ خلخلوا نيبانك ونيبانه، نطلب شهادته، ويرد يقول (العِلم له عنبوب). قالت: ريّح بالك، ما لك إلا من يسدك فيه، وكل صباح تتلقط البيض من تحت الدجاجة، وتنصى بيت العريفة، مرددة؛ عساه مندار العافية، وليلة الثلوث، أخذت أكبر الديكة، وقالت: عشاك يا عريفتنا ولا هو قدرك.

لمحها (عوض) في الصباح، وهي مديّحة ببيضها في طاستها، فطلب من زوجته تصب له من الشكوة طاسة لبن بثمره، وعلى أوله ما وقّف إلا بين يدي كبيرهم، وعندما اقترب موعد الشهادة، افتك البقرة بحسيلها، وانطلق بهما لساحة العريفة، وقال: خلّها عندك تحلّبها، وإن كان ودك بعد ما يجف ضرعها نتمرّق الحسيل، فعساه فدى رجليك. هزّ رأسه، وقال: ما يقدر فيك إلا ربي يا عوض.

دق العريفة رقبته، قدام الشيخ، وحلف أن (عوض) ما يرزى حسابه من الحيله، وأن (بو معيض) يتبلى عليه، وهم خارجين؛ بدأ (أبو معيض) يحسبن عليهم، ويصيّح: الله ينصرني عليكم يا ظَلَمة. فقال العريفة: تكاكي، وإلا ما تكاكي، الحقّ ينطح نطح.