كتاب ومقالات

سوق العمل والتخصصات الإنسانية.. التحدي الأصعب !

منى المالكي

في ظل التركيز الكبير على التخصصات العلمية ومهارات التكنولوجيا والرياضيات، أو ما يعرف بالـ STEM، نتساءل عن موقع العلوم الإنسانية في خارطة سوق العمل! هل ستختفي وتُسحق تحت عجلة التقدّم التكنولوجي والتطور العلمي؟ أم أنها ستحظى بحصّتها في عالم الأرقام المستقبلي؟ وماذا نقصد بسوق العمل: هل هو الوظيفة في القطاع الخاص أو الحكومي أم هو المشرع الريادي الخاص؟ عندما نعلم أن سوق العمل يعني الفرص الهائلة المتوفرة التي نستطيع تعلمها واستثمارها في ظل الطلب المتزايد على المهارات ثم المعرفة في عالم الأعمال اليوم، نطمئن إلى أن تطوير المهارات هو ما نحتاجه في التخصصات الإنسانية.

فالعلوم الإنسانية شريك أساسي لمهارات الـ STEM، والتي تتألف من أربع مواد دراسية رئيسة هي: العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات واختصارها «STEM»، وما تتوصل إليه تلك العلوم بمثابة حقائق علمية تحتاج إلى التفسير والتحليل والنشر حتى تتمكّن من إحداث الفرق، ولأن العلوم الإنسانية تدرس الثقافة والقيم دراسة عميقة، يمكنها الكشف عن الحقائق والدوافع التي تستطيع الوقوف في وجه أقوى النظريات العلمية التي لا يمكن دحضها أو الدفاع عن تلك النظريات وتقديمها للمستفيدين بطريقة لا يجيدها إلا أصحاب التخصصات الإنسانية! وهذه مهارة.

كذلك القدرة على رواية القصص، وهي من أهم نقاط القوّة التي يتمتع بها دارسو التخصصات الإنسانية، فالقصص هي التي تجذب انتباه الجمهور وتحفّز الأفراد على التغيير. والكثير من التغييرات العظيمة في العالم حصلت نتيجة تحفيز مباشر من الكتابات الإنسانية. فكتاب «الربيع الصامت» مثلاً لعب دوراً حاسماً في إطلاق حركة حماية البيئة والحفاظ عليها من التلوث والاندثار. بل يعود له الفضل الأكبر في ظهور علم البيئة بأكمله، ومنصة «TED» خير شاهد على ذلك، فإحداث التغيير يحتاج لمتحدثين جيدين ولا يمكن الاستغناء عن الخطابة والمجاز واللغة في ذلك! وهذه مهارة. ومستقبلنا يحتاج أيضاً إلى ضمان أخلاقي فلا يمكن للآلة والذكاء الاصطناعي أن يعترفا أو يعرفا مثل هذه القيم الأخلاقية، إذ نجد مثلاً رواية «فرانكشتاين» الشهيرة، التي تطرح على القارئ سؤالاً مهماً: هل يتوجب علينا القيام بشيء ما، فقط لأننا نستطيع ذلك، دون العودة إلى القيم والأخلاقيات؟!

كذلك لا يمكن الاستغناء أو تجاوز التراث والثقافة، لأنها تبقى جزءاً أصيلاً من الهوية الإنسانية، ومهما تقدّمت الآلة وتطوّر الذكاء الاصطناعي وتقنياته، فلن يصل إلى مرحلة الابتكار. ينشأ الابتكار من خلال اكتشاف الجوانب الخفية في عالمنا، حيث نواجه تحدّيات صعبة ونحل المشاكل بالاستعانة بمخيّلتنا للعثور على الحلول المناسبة. وهنا يأتي دور التخصصات الإنسانية التي تدرّب دارسوها على صياغة الأسئلة بطرق جديدة تقودهم للعثور على حلول خلّاقة، فالكثير من روايات الخيال العلمي ألهمت العلماء للخروج باختراعات مميزة قلبت حياة البشرية، وهذه مهارة.

قدرات البشر متفاوتة وميولهم مختلفة، فهناك من يبرع في الرياضيات والفيزياء وغيرها من العلوم، وهناك من يملك شغفاً للفنون والآداب. ففي الوقت الذي تشعر فيه الفئة الأولى بالأمان تجاه المستقبل، نجد أن خريجي التخصصات الإنسانية متخوّفون من مستقبل وظائفهم، ويتساءلون إن كان عالم الغد سيحتاج إليهم؟ الإجابة هي نعم سيحتاجهم لكن بشروطه الخاصة في المنافسة، فالتخصصات الإنسانية في جامعاتنا تحتاج إلى مواكبة التغييرات العلمية المتسارعة والمتنامية عليها الخروج من عباءة التنظير القديمة لتذهب إلى صناعة خارطة عمل حقيقية تعتمد المهارة والتنافسية وإلى تزويد طلابها بالمعرفة الرقمية في تخصصاتهم وصناعة المحتوى المناسب للعالم الرقمي، كذلك المنافسة على المنصات الاجتماعية لتقديم خريجيها المستقبليين في عباءة التقنية والتكنولوجيا وإكسابهم المهارات اللازمة لصناعة المستقبل.