زوايا متخصصة

علي جواد.. مدرس الأجيال وشيخ النقاد وعميد الأدب العراقي

الطاهر في مكتبه العامر بالنفائس.

بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@

يعد الدكتور علي جواد الطاهر علامة مضيئة وقامة من قامات العلم في تاريخ وطنه العراق وسائر أوطان العروبة، بسبب صولاته وجولاته في حقول الأدب والنقد والتاريخ على مدى نصف قرن، ومؤلفاته المتخصصة الكثيرة وسيرته العطرة في مجال التدريس وتخريج الأجيال المتعاقبة من المبدعين، وحضوره القوي على صفحات المطبوعات العربية، وتسيّد طروحاته وأفكاره وحواراته المشهد الثقافي العربي. وهذا كله ليس بمستغرب على إنسان نشأ وتعلم في العراق، موطن الحضارات والعلوم والفلسفات، في زمنه العبق الجميل، ثم أقام ودرس في عاصمتين من عواصم العلم والانفتاح والمدهشات (القاهرة وباريس)، ناهيك عن سنوات قضاها في قلب الجزيرة العربية، معلماً وباحثاً ومحققاً ومحاضراً. وبالمثل فإنه ليس بالمستغرب أن تحظى شخصية كهذه بتقدير المؤسسات والاتحادات والجمعيات العلمية والثقافية الرسمية وغير الرسمية في كل الوطن العربي، استضافة وتكريماً وإشادة ووداً، ومنه فوزه بجائزة سلطان بن العويس الثقافية في دورتها الأولى (1988/‏1989) في حقل الدراسات الإنسانية والمستقبلية.

غير أن مشوار الرجل لم يكن دوماً مفروشاً بالورود، فمن كان مثله صاحب عقلية علمية فلسفية وتجارب زاخرة وعلاقات متشعبة وجرأة في التعبير وصدق في البيان، يظل معرضاً على الدوام للمنغصات والظلم، خصوصاً في بلد يفتقد الاستقرار السياسي وتتقاذفه الانقلابات العسكرية ويصطبغ تاريخه بالعنف والدم كالعراق.

ابن لأحد وجهاء المدينة

ولد العلامة «علي جواد علي طاهر حميد بن شهيب بن شبيب» في «عقد المفتي» (زقاق المفتي) بمحلة جبران من مدينة الحلة (مركز محافظة بابل) في سنة 1919، ابناً لأحد وجهاء المدينة من عشيرة الأقرع (الأكرع) وهي عشيرة طائية قحطانية منتشرة ما بين النجف في العراق وحائل في المملكة العربية السعودية.

في سن السادسة قاده والده إلى الشيخ علي إمام مسجد الحي ليعلمه القرآن والقراءة والكتابة وشيئاً من الحساب. وحينما حلّ عام 1929 أدخله والده المدرسة الشرقية بالحلة، حيث أتمّ دراسة المرحلة الابتدائية وتعلم الإنشاء والتعبير عن أفكاره ومكنوناته على يد الشيخ رزوقي (عبدالرزاق السعيد)، وبدأت تظهر علامات اهتمامه بالأدب بدليل أنه في تلك السن المبكرة خصص دفتراً ضم فيه كل ما التقطه من أشعار وأقوال وحكم. واصل دراسته بمدرسة الحلة المتوسطة، وفيها تعلم الأدب والإنشاء على يد الأستاذ أحمد توفيق الحلي، وصار قيماً على مكتبة المدرسة في علامة أخرى من علامات توجهاته الثقافية المبكرة. وفي العام الدراسي 1937/‏1938 التحق بثانوية الحلة، التي ما أنهى دراسته فيها حتى دخل دورة لتأهيله كمعلم. لذا نراه يبدأ مسيرته المهنية بوظيفة معلم مؤقت في مدينة الناصرية على بعد نحو 300 كلم من الحلة، غير أن هذا لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تقرر إلغاء تعيينه، فقرر الطاهر حينها أن يلتحق بدار المعلمين العالية التي أمضي بها أربع سنوات، تتلمذ خلالها على يد ثلاثة من أساتذة العراق الأجلاء (محمد مهدي البصير وطاهر الراوي ومصطفى جواد)، وانتهت بتخرجه سنة 1945، وصدور أمر في العام التالي بتعيينه مدرساً للغة العربية والتاريخ الإسلامي في متوسطة الحلة التي كان يوماً من تلامذتها. وأثناء عمله هناك قام بإصدار صحيفة حائطية تحت اسم «الفجر»، نشر فيها بعض مقالاته وأشعاره، مواصلاً بذلك ما كان بدأه منذ مرحلة دراسته الثانوية من نشر كتاباته في بعض الصحف والمجلات المحلية.

السفر إلى القاهرة

في عام 1947، قرر صاحبنا أن يرتقي بنفسه أكاديمياً فسافر إلى القاهرة للالتحاق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) التي حصل منها على ليسانس الآداب. ومن القاهرة انتقل إلى باريس، حيث درس في الفترة ما بين عامي 1948 و1954 بكلية الآداب التابعة لجامعة السربون العريقة، ونال منها درجتي الماجستير والدكتوراه وأتقن اللغة الفرنسية إلى جانب لغته الأجنبية الأولى (الإنجليزية).

حينما عاد إلى العراق بعد رحلته العلمية تلك، التي ساهمت في صقل شخصيته الأدبية، فتحت أمامه منافذ جديدة للإبداع والعمل، خصوصاً في ظل نظام العراق الجمهوري بعد عام 1958، الذي أراد الاستفادة من علمه وخبرته، فعينه في «لجنة تأليف الكتاب المدرسي». وبصفته تلك وضع أول كتاب لمادة النقد الأدبي للمرحلة الثانوية سنة 1958، وفي العام التالي تمّ تعيينه مدرساً في كلية الآداب بجامعة بغداد، حيث واصل عمله بجهد وتفان مشهودين، وترقى أكاديمياً بحصوله على درجة أستاذ مساعد، وأثناء هذه الفترة شغل أيضاً منصب سكرتير مجلة كلية الآداب، كما كان في الفترة ما بين عامي 1959 و1963 أول سكرتير تحرير لاتحاد أدباء العراق.

الهرب من بغداد

في مارس 1963 حدث ما لم يكن في حسبانه، بل ما غير مجرى حياته، وتسبب في خروجه من العراق إلى السعودية. ففي ذلك التاريخ استلم حزب البعث السلطة في بغداد بعد انقلابه الدموي على نظام الزعيم عبدالكريم قاسم. وما لبث أن بدأ الانقلابيون مسلسل التخلص من خصومهم بحجج واهية. وكان الطاهر أحد الضحايا، حيث اتهم باعتناق الفكر اليساري، وصدر قرار بطرده من عمله الأكاديمي وكافة مناصبه الأخرى.

العمل أكاديمياً في السعودية

وهكذا خسره العراق واستفادت منه السعودية التي احتضنته لمدة خمس سنوات بدأت عام 1963 وانتهت بعودته إلى العراق عام 1968. عن ظروف قدومه إلى السعودية أخبرنا الدكتور عبدالله عبدالرحمن الحيدري (أستاذ الأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في صحيفة الشرق الأوسط (5/‏10/‏2021)، نقلاً عن كتاب «طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات» للدكتور علي القاسمي ما مفاده أن من فصلتهم حكومة البعث من جامعة بغداد - إلى جانب الطاهر - الدكاترة محمد مهدي المخزومي وخالد الجادر وشاكر خصباك وغيرهم، ولأن خصباك كان على معرفة برئيس جامعة الرياض آنذاك الدكتور عبدالعزيز الخويطر، كونهما تزاملا أثناء دراستهما العليا بجامعة لندن، فقد كاتبه شارحاً وضعه ووضع زملائه المفصولين. ما حدث بعد ذلك هو أن الخويطر أبرق لخصباك يخبره بأن الحكومة السعودية أعطت تعليماتها إلى السفير السعودي في بغداد للتعاقد معه ومع جميع زملائه المفصولين للتدريس بجامعة الرياض.

في السعودية عمل الطاهر أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب، وبدأ حياة جديدة قادته للتعرف على نظام التعليم الجامعي والأدب السعودي بفروعه المختلفة، فبنى علاقات قوية مع ثلة من كبار رموز الأدب والشعر والثقافة والصحافة السعوديين (مثل الشيخ حمد الجاسر وعبدالعزيز الرفاعي وعبدالعزيز الخويطر ومنصور الحازمي)، امتدت لما بعد عودته إلى العراق، وكتب مقالات وبحوثاً كثيرة في المجلات السعودية الرصينة كالعرب والمنهل والفيصل وعالم الكتب (جمعها فيما بعد في كتاب ضخم أصدره من بغداد سنة 1985 تحت عنوان «معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية»، جامعاً فيه ما بين العمل الببليوغرافي والممارسة النقدية)، ناهيك عن مساهمته في تخريج جيل من طلبة الآداب اللامعين، وفي مقدمتهم يحيى محمود بن جنيد، الذي ظل على تواصل معرفي مع أستاذه الطاهر.

العودة للعراق

في عام 1968 حدث تغيير سياسي في العراق بمجيء نظام البكر/‏صدام، فاعتقد أن الظروف الجديدة مواتية لعودته إلى بلاده للمساهمة في مشهدها الثقافي والتربوي من جديد، خصوصاً مع وجود عراقيين مثقفين في الحكومة الجديدة (عبدالله سلوم السامرائي وشفيق الكمالي). وبالفعل أنهى تعاقده مع جامعة الرياض وعاد للتدريس بجامعة بغداد والعمل بالتزامن محاضراً في جامعة المستنصرية، كما تمت دعوته في هذه الفترة للمشاركة في «مؤتمر المستشرقين» الذي عقد بباريس سنة 1972، وأوكلت إليه إدارة أول مهرجان للمربد في البصرة، وتمت الإستعانة به كأستاذ زائر في جامعات الجزائر وقسطنطينة وصنعاء وقطر بسبب علو كعبه في مجال تخصصه وشهرته العلمية المدوية.

التقاعد المؤلم

لكنه سرعان ما أيقن أنه ارتكب ذنباً في حق نفسه، وذلك حينما صدر قرار في أواخر السبعينات بإحالته إلى التقاعد مع 24 أستاذاً جامعياً آخر لعدم رضى النظام عنهم. بل تجاوز الأمر إلى مضايقته ومنعه من السفر للخارج لتلقي العلاج من مرضه العضال. لكن، رغم معاناته من شح الغذاء والدواء زمن الحصار، قدر الله له أن يعيش حتى التاسع من أكتوبر 1996، وهو تاريخ انتقاله إلى جوار ربه ببغداد، ودفنه بمسجد براثا في محلة العطيفية.

طه حسين العراق

وبهذا انطوت صفحة من لقب بألقاب كثيرة مثل: «طه حسين العراق»، «شيخ مشايخ النقاد»، «عميد الأدب العراقي»، «معلم الأجيال»، «حامل خيمة النقد» و«الموسوعة المعرفية»، لكن بقيت مآثره شاهدة على عظمته، مجسدة في مشروعه النهضوي الثقافي ونحو 40 كتاباً أثرى بها المكتبة العربية، وكان في جميعها صادقاً بالتجويد في العبارة والفكرة والبناء، ومخلصاً لروح العلم، وموضوعياً في البحث والتحليل والنقد.

من أهم هذه المؤلفات: «الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي»، «لامية الطغرائي، تحقيق وتحليل ومناقشة»، «تدريس العربية في المدارس المتوسطة والثانوية»، «منهج البحث الأدبي»، «ديوان الجواهري»، «ملاحظات على وفيات الأعيان»، «في القصص العراقي المعاصر، نقد مختارات»، و«الخلاصة في مذاهب الأدب الغربي». علاوة على قيامه بترجمة العديد من الأعمال الأدبية الفرنسية إلى العربية ونشرها في كتب. هذا ناهيك عن مؤلفه الضخم المتمثل في «معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية»، الذي تناول فيه صلته بالأدب السعودي منذ عام 1944 من خلال كتاب «أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبّان، ومدى تأثر أدباء السعودية بالصحافة المصرية، مسلطاً الضوء على الكتب المبكّرة التي حوت نصوصاً وتراجم للأدباء السعوديين من الرعيل الأول، وراصداً بالشرح والنقد المطبوعات السعودية في كافة العلوم وليس في الأدب وحده.

نسيج وحده في العطاء العلمي

وصفه الشاعر العراقي محمد حسين آل ياسين بـ«إنسان لا يتكرر بسهولة، بل لا يتكرر»، مضيفاً «هو نسيج وحده في العطاء العلمي، ونسيج وحده في الأستاذية التي لا تشبه أحدا آخر من زملائه ممن درسنا، ونسيج وحده في الرحمة والإنسانية.. هو أبو طلابه بكل ما تعنيه كلمة الأبوة من احتضان واهتمام ورعاية وتوجيه». واستطرد يروي بعض الذكريات عنه فقال: عندما يحين موعد الامتحان، كان يقول (أطلب منكم ألا تقرأوا شيئاً لأنكم حين تقرأون ستكونون نسخاً مما تقرأون، وحين تتركون القراءة وتكتبون مما لديكم من خزين معرفي نقدي ستظهر شخصياتكم على حقيقتها في الورقة)، طبقاً لما جاء في صحيفة إيلاف الإلكترونية (9/‏10/‏2010).

وقال عنه الناقد والكاتب العراقي ماجد السامرائي (بتصرف) «أذكر فيه معلماً كبيراً، كان يساعد طلبة الدراسات العليا المساعدة التي تكونهم وليست المساعدة التي تجعلهم يكتبون الرسالة فقط. لم يكن يهمه أن تكتب شكراً له أو لا تكتب، فهذه مسألة لم يكن يعيرها أي اهتمام. كان يعتبر العلم والمعرفة مثل الماء والهواء كما قال طه حسين. كان يشيع هذا الهواء ويجعل الماء في متناول الآخرين، وكان واضحاً وصريحاً ولا يجامل. إذا وجد نصاً قرأه فأعجبه يبدي إعجابه به وإذا وجد في النص ما لم يعجبه أو ما لا يتوافق معه انتقده حتى لو كان كاتب النص من أقرب الناس إليه. إن الذي يقول لك إنه عرف الدكتور الطاهر أو تتلمذ على يده أو استمع إلى محاضرة من محاضراته، ولم يستفد؛ فهو كذاب».

ونقتطف مما كتبه الدكتور ضياء خضير الشريباجي، الأستاذ بكلية الآداب والقانون في جامعة صحار العمانية، عن الطاهر في مجلة ألف باء (11/‏10/‏2020) النص التالي «يكتب الطاهر باستمرار وبصمت ومن دون ضجيج وصخب. وحين يضيف إلى الرفّ الخاص بمؤلفاته الشخصية في مكتبة داره العامرة في بغداد عنواناً جديداً، ينزاح عن نفسه قدر من الهمّ يعادل في حجمه حجم هذا المؤلف الجديد، فيشعر بالرضى ويفرح بالإنجاز ويحتفل به على طريقته الخاصة بصمت، ولكن ذلك لا يستمر غير أيام أو ساعات. إذ سرعان ما يعاوده الحنين للبدء من جديد، ويهتف بجسده الضعيف أن يستمر في المقاومة، واعداً إياه بأفراح ولذاذات سرية أخرى تنتظرهما معاً على طريق الإبداع اللعين. هذا الإبداع الذي لا يكاد ينتهي أنموذج من نماذجه حتى تتدحرج أحلام صاحبه مثل صخرة سيزيف إلى قاع جديد من اليأس. ودافع الطاهر إلى كل هذا التعب في الكتابة ليس الشهوة الغالبة إلى الإعلان عن النفس وحب الظهور أمام الجمهور، وإنما الجوع الذي يفرض على صاحبه الشعور الدائم إلى التواصل ويضطره إلى أن يعيد نفسه وكلماته نفسها أحياناً. وذلك يعني أن ما يحتاجه الطاهر قبل أيّ شيء آخر هو أن يثبت لنفسه قيمة نفسه من أجل الاستمرار في معركته الضارية مع الصبر والجلد والضعف المتواصل للجسد».

فرنان تكتب عن الطاهر بالفرنسية

أما الكاتبة والإعلامية أسماء فرنان، التي وضعت عن سيرته وعطائه ومنتوجه الفكري والثقافي كتاباً بالفرنسية في إطار المشروع الثقافي بين مؤسسة جائزة الملك فيصل بالرياض ومعهد العالم العربي بباريس، فقد قالت، حسب «عكاظ» السعودية (9 / ‏‏‏4 /‏‏‏ 2021) ما مفاده أن توصيف الطاهر بسمة أدبية واحدة أو إدراجه في خانة نقدية معينة وإغفال الجوانب الأخرى التي مثلت حجر الزاوية في إبداعه الثقافي، يعتبر إجحافاً في حق «رجل كان يأخذ بيد المتلقي، فيضعه على الحقيقي والأصيل من الإبداع»، وأضافت أن دافعها من وراء الكتاب هو تعريف المتلقي الفرنسي به كونه ضمن كوكبة المفكرين الذين يستحقون أن يُعرف بهم في غير الوطن العربي، خصوصاً أنه صاحب فضل في ترجمة أعمال فرنسية كثيرة من تلك التي لم يكتشفها القارئ العربي إلا بسبب جهوده.

وأخيراً فإن كل الذين كتبوا عن الطاهر أجمعوا على وجود تقصير من المؤسسة الثقافية الرسمية في العراق تجاه الرجل، قائلين إنها لم تَفِهِ حقه ولا ربع حقه ولا حتى عشر حقه، وداعين إلى تكريمه بإطلاق اسمه على شارع أو ساحة، وإقامة تمثال نصفي أو كامل له، وإصدار طابع تذكاري يحمل صورته، وإعادة طباعة مؤلفاته.

أهم مؤلفات الطاهر:

منهج البحث الأدبي، ديوان الجواهري

ملاحظات على وفيات الأعيان

الخلاصة في مذاهب الأدب الغربي

معجم المطبوعات العربية في السعودية