كتاب ومقالات

سمعها روسي ونقلها إخونجي وصدقها صحوي !

نجيب يماني

كثير هي المرويات التي صكّت أسماعنا زمن الصحوة المقبور، فصحّرت نفوسنا بالعبوس والكآبة وكره الحياة.

أدلجوا الإحساس بجماليات الأشياء، فألغوا شفافيتها، استدعوا الغيبيات وكيّفوها لصالح فكرهم المريض بمرويات يرفضها العقل السليم وتأباها النفس السوية.

أذكر من تلك الأكاذيب حكاية عذاب القبر التي سمعها روسي ونقلها إخونجي وصدقها صحوي.

تقول الحكاية، إن الداعية عبدالمجيد الزنداني لديه أشرطة تم تسجيلها في سيبيريا لأصوات صادرة من باطن الأرض لملايين من الناس يعذبون ويضربون، وطبعاً لم يصدق حكايته هذه إلا المريدون والذين اعتادوا على عبادة الأشخاص وتقديسهم وأسموه (شريط السعير)، ولِحبك القصة قالوا بأن الشريط غير موجود إلا عند الزنداني لسحبه من كل الوكالات الإعلامية من قبل السلطات الروسية، وأن من سجله وُجد مقتولاً إلى آخر هذه الترهات.

لم يُنقل عن رسول الله (عليه الصلاة والسلام) مثل هذا القول، وكان يزور مقابر البقيع وأحد، ولم يقل بها صحابته بأنهم سمعوا أصوات المعذّبين في القبور وهم من هم في الفضل والتقوى والصحبة المباركة.

والأدهى والأمَر أنّه وجد من يؤيده، فقالوا إن أحاديث عدم استماع الثقلين لأصوات العذاب لا يمنع استماعها في ظل التقدم التكنولوجي.

يلوون أعناق الأدلة لصالح مسألتهم، يمتهنون الكذب ويسوّغونه باسم الدين، سمعنا الكثير من أراجيفهم وكأنهم وكلاء الله على المقابر، فمنهم من رأى ناراً تخرج ليلاً من قبر دُفن صاحبه نهاراً، وأن قبراً رفض استقبال ميّت يلفظه كلما دفنوه، وأن أحدهم رأى بأم عينه كفناً محروقاً، ووجه امرأة مشوّهة عضها الشجاع الأقرع، وأخرى حُوّلت في قبرها عن القبلة لأنها لا تغطي وجهها.

أكاذيب تبثها أشرطتهم وتقولها منابرهم.

كِذبة الزنداني هذه ذكرتني بمقطع فيديو وصلني أمس يصوّر طير (البغبغان)، وهو يقلّد أصوات المعذبين في قبورهم بعد أن أخذته صاحبته إلى المقبرة لزيارة جدّها، وعندما عادت إلى منزلها أخبرت ابنها بما حدث من البغبغان، فأخذه الابن وعاد به إلى المقبرة وصوّر ردّة فعله، فيقول، قبل وصولنا كان يغنّي سعيداً وفي لحظة دخوله للمقبرة تغيّر مزاجه وتصرّفاته وبدأ يقلّد الأصوات التي يسمعها وكانت تشبه الصراخ.

إن مشاهد الآخرة وأحداث الساعة والأمور العقائدية في الإسلام مأمورون بتصديقها والإيمان بها كغيبيات يعلمها الله وحده، وقد مر (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) على قبرين فقال: (إنَّهما ليُعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ)، ولم يبين لنا ماهية هذا العذاب ولا كيفيته وما ردة فعل المعذبين؟

رسول الله كان متبعاً للقرآن ولم يكن مناقضاً له، أو مخالفاً لما جاء فيه، يقول نبي الرحمة (اعرضوا حديثي على كتاب الله فإن وافقه فهو مني وأنا قلته).

فالسنّة الحقيقية تطابق القرآن مثل حديث جبريل حين سأل النبي (عليه الصلاة والسلام) عن الإيمان، فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالبعث بعد الموت واليوم الآخر، وهذا مطابق لما ذكره القرآن.

أما الأحاديث التي يستشهد بها في الغيبيات، فهي أحاديث تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وهي أحاديث آحاد، فلا يُؤخذ بها في العقائد، وإنما تُؤخذ من القرآن الكريم كما يقول علماء الأصول والأحاديث المتواترة، وحيث إن الحديث المتواتر ليس فيه ذِكر لمثل هذه الغيبيات، فهي بالتالي أحاديث آحاد لا يصلح الاستشهاد بها، وليس هناك نص قرآني أو حديث أو قول لصحابي يؤكّد أن أحداً سمع صراخ الأموات أو بكاءهم أو أنينهم أو أصواتهم في قبورهم، فهذه كلها غيبيات، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده {قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}، وفي آية تؤكّد أن رسول الله لا يعلم الغيب، قوله تعالى {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا منْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، فالسيدة عائشة مثلاً أنكرت مسألة سماع الموتى كلام الأحياء مستدلة بقوله تعالى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وبقوله تعالى {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} وقد وافقها في ذلك الشيخ بن باز وابن عثيمين (رحمهما الله).

منظومة خلق النفس وحياتها وموتها وبرزخ الأرواح والقبور والبعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار، أحداث ومشاهد ذكرها القرآن في عدد من الآيات ولم يترك مجالاً لمجتهد أن يزايد عليها أو يقدح فيها من رأسه ويتاجر بها لأغراضه المريضة.

الغيبيات نؤمن بها كما وردت، ولكن لا نعرف ماهيتها وكيف تكون وكيف هي الأصوات، وهل هناك ثعبان أقرع أو مطارق من حديد، وهل هناك عذاب في القبر غير عذاب الآخرة، وكم مدة هذا العذاب، كلها غيبيات يعلمها الله وحده، فلا يجب أن نصدّق كل ما نسمعه من أهل الغفوة ومن شايعهم، ونحمد الله على نعمة العقل وسلامة المنطق.