زوايا متخصصة

منى طالب الدهام.. «غناوي الشوق» و«بقايا الليل»

بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@

أجبرت المتلقي بصوتها الرشيق المميز ونبراتها المهذبة ومخارج حروفها الصحيحة وثقتها بنفسها، أن يحترمها ويجلس منصتاً لها كما يفعل التلميذ مع معلمه في محراب العلم، بل فرضت عليه أن يسهر ليتابع برامجها بشغف في أوقات بثها أواخر الليل. وهي من جانبها أخلصت لعشاق صوتها، فمنحتهم الثقة والاحترام والمشاعر الدافئة، قبل إثراء فكرهم بكل ما هو شاعري ومفيد من كنوز الأدب والشعر والثقافة العامة.

تلك هي أيقونة الإعلام الكويتي المسموع والمرئي في الزمن الجميل المذيعة القديرة «منى طالب الدهام السالم» الإنسانة الطموحة المتوثبة، صاحبة الرأي المتنور والمقدرة العجيبة على كشف الأفكار السطحية المهزوزة، والإيمان اللامحدود بالانطلاق والتفرد.

وهبت نفسها، منذ سنوات حياتها المبكرة، لميكرفون الإذاعة، ومن ثمّ لكاميرا التلفاز، وعاصرت البدايات الصعبة للجهازين، وتغلبت بالإرادة والتصميم على كل ما وقف في طريقها من عقبات اجتماعية ووظيفية، إلى أن غدت اسماً من الأسماء المحفورة في ذاكرة الأجيال وفي تاريخ الراديو والتلفزيون الكويتيين، جنباً إلى جنب مع أسماء الإعلاميات الأوائل اللواتي خضن تجربة العمل الإذاعي بدءاً من عام 1961، من أمثال: فاطمة حسين وضياء الغانم (العبدالجليل) ونورية السداني وشيخة الزاحم وأنيسة محمد جعفر (ماما أنيسة) وأمينة الأنصاري وأمل عبدالله وإقبال الغربللي وغيرهن.

الولادة في البصرة

ولدت منى بمدينة البصرة في جنوب العراق سنة 1949 لأب كويتي ميسور الحال كان يعمل في التجارة ما بين العراق والكويت، لكنه تعرض للقتل في البر عام 1948 فتوفي عنها وهي في الشهر السادس من عمرها. وقالت منى في حديثها إلى صحيفة الأنباء الكويتية (15/‏3/‏2008) إن والدها كان يحبها كثيرا وإنها لا تتذكره لكنها سمعت أنه حملها خلال الاضرابات التي حدثت في العراق عام 1948 بسبب تقسيم فلسطين وذهب بها إلى العم عبدالعزيز البعيجان لتناول العشاء، فقال والدها للمستضيف «لا أعلم هل سأربي هذه البنت أم لا».

وأخبرتنا في حوار صحفي آخر مع إحدى المجلات أن والدها رحل دون أن يترك لأسرته مورداً تعيش عليه، فقامت والدتها بعبء رعايتها وتربيتها مع خالها، بل عاشت الأم حياة زهد وتقشف كي توفر لها حياة كريمة من خلال خياطة الملابس للجيران والمعارف. كما أخبرتنا أن والدتها رفضت أن تتزوج مجدداً حرصاً منها على راحتها النفسية، وخوفاً من أن يسيء الزوج لها أو تنجب أطفالاً ينافسونها في الرعاية والاهتمام. وذكرت منى أنها كانت شقية في طفولتها، وتلعب مع الصبيان فكانت أمها تزجرها وتعنفها وتربطها في السرير من قدميها، الأمر الذي زرع في داخلها رغبة مضاعفة في التحرر والانطلاق، بما في ذلك التحرر من العباءة التي ارتدتها لمدة 11 سنة ثم خلعتها إلى الأبد.

اللحاق بأهلها في الكويتكان أول عهدها بالتعليم هو الالتحاق في سن السادسة بمدرسة في الزبير، ظلت بها حتى بداية المرحلة الثانوية. وتقول منى عن تلك المرحلة من حياتها ما مفاده أنها لا تزال مشتاقة إلى الأيام التي عاشتها في الزبير وسط ناسها البسطاء الطيبين المرتبطين ببعضهم بعضاً بروابط اجتماعية قوية وصلات قوامها الأخلاق والتعاون والمودة، مضيفة أنها اضطرت في مطلع الستينات إلى ترك الزبير والعراق كله مع والدتها للالتحاق بأهلها في الكويت من جهة أبيها، لأن بقاءها ككويتية في العراق آنذاك كان صعباً في أعقاب افتعال الزعيم عبدالكريم قاسم أزمة المطالبة بالسيادة على الكويت عام 1961.

وعليه، حلت منى ــ برفقة والدتها ــ في الكويت سنة 1961، حالمة بظروف معيشية أفضل، وتواقة إلى حريات اجتماعية أوسع، وسكنت في «أم صده» بالمرقاب. وفي الكويت حاولت أن تواصل دراستها الثانوية، لكنها أهملت الموضوع بسبب إصابتها بالسكر والضغط، ناهيك عن حصولها على فرصة الالتحاق بالإذاعة الكويتية للعمل مذيعة بعد عام من وصولها وهي في سن الخامسة عشرة.

وهكذا تحملت مسؤولة الإنفاق على نفسها وأمها في هذا السن المبكر، دون سند يقف إلى جانبها، فحتى خالها الذي كان معيناً ومرشداً لها على مدى سنوات كان بعيداً عنها في العراق.

«مظلومة يا ناس»بدأت العمل وسط أجهزة لم تألفها وفي أجواء غريبة لم تعتدها، وفي وقت لم يكن في إذاعة الكويت من المذيعات سوى «نورية صالح السداني» و«شيخة عبدالعزيز الزاحم». لكنها كانت ــ على الأقل ــ مسرورة لعدم وجود من يعترض الطريق الذي اختارته لمستقبلها، فأمها تدعمها في خياراتها، وخالها ليس على علم بخطوتها. على أنها ــ رغم ذلك ــ لم تسلم من الغمز واللمز من قبل بعض أقاربها بسبب إقدامها على العمل في مجال كان مقتصراً آنذاك على الذكور. وقفت أمها في صفها، وحاولت أن تخفف عليها اعتراضات أقاربها عبر اصطحابها من وإلى مكان العمل بنفسها، فيما تكفل زملاؤها الرجال بعملية تشجيعها وإزالة مخاوفها وقلقها من أجواء الاستوديو ورهبة الميكرفون. كان أول ما قدمت أمام الميكرفون أغنية «مظلومة يا ناس» للمطربة سعاد محمد، نطقت عنوانها وكأنها تتحدث عن نفسها وتواسيها وتصبرها.

ورويداً رويداً ثبتت قدميها في دار الإذاعة وأثبت كفاءتها في العمل وراء الميكرفون، وهو ما شجع مديريها على السماح لها بما هو أكثر من فقرات الربط، فقدمت برنامجاً تمثيلياً كانت تطل من خلاله على مشاكل الناس، ثم قدمت برنامج «صور شعبية»، وهو أيضاً برنامج تمثيلي كانت مدته نصف ساعة ولاقى إقبالاً كبيراً من المستمعين. وحينما افتتحت الإذاعة الشعبية، كانت منى مع زميليها سالم الفهد وجاسم شهاب من أوائل العاملين فيها، حيث نجحوا في رفع مستوى هذه الإذاعة الوليدة من كافة النواحي. وكان من نصيبها تقديم عدة برامج مثل برنامج «نصف ساعة مع فنان»، برنامج «يصير خير»، وبرنامج «ورطة».

«غناوي الشوق».. نقطة التحولبعد مدة من عملها في الإذاعة الشعبية، انتقلت إلى البرنامج العام فواصلت إظهار مواهبها الإعلامية من خلال عدد آخر من البرامج مثل برنامج «ساعة مع فنان»، برنامج «صباح الخير» بمشاركة المذيع صالح الشايجي، برنامج «أوراق قديمة» بمشاركة المذيع صقر الرشود، برنامج «من أشهر الأسماء» بمشاركة صقر الرشود أيضاً، وغيرها من البرامج. على أن ما ساهم في انتشار اسمها خارج حدود الكويت ومنطقة الخليج وخلّدها في قلوب المستمعين هو برنامج «غناوي الشوق» الذي استمر 21 سنة بين الاذاعة والتلفزيون، وهو برنامج يمزج الشعر بالغناء وتعتمد مادته الأساسية على إلقاء قصائد شعبية مشهورة من تلك التي تحولت إلى أغانٍ معروفة. ثم برنامج «بقايا الليل» الذي استمر لمدة 37 سنة في إذاعة الكويت وكان خلالها المستمعون ينامون على صوت منى طالب وهي تعزف لهم بصوتها الشجي أجمل القصائد والزهيريات مطعمة بالتراث والفلكلور الشعبي ومخزونها الثقافي الواسع، علما أن هذا البرنامج الأثير تحول إلى مصدر لكل الباحثين في الشعر، وسهّل مهمة الساعين لنيل الدرجات الجامعية العليا في الأدب والشعر.

أول إعلامية يكرمها عبدالله السالمفي عام 1965 طلب منها الأمير المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح أن تعمل في الديوان الأميري بوظيفة «أمينة ديوان» مهمتها استقبال الضيوف من زوار الكويت، وذلك بعد ما بلغ أسماعه عن اجتهادها وحسن تدبيرها وقوة شخصيتها ومواهبها في الحوار والمخاطبة. ورغم ما حظيت به في هذه الوظيفة من رعاية أبوية وعطف كريم من لدن الأمير شخصياً، إلا أنها لم تستمر أكثر من سنة، عادت بعدها إلى الإذاعة. والجدير بالذكر أن منى طالب هي أول إعلامية يكرمها الشيخ عبدالله السالم، وهي أول من كتبت قصيدة رثاء في سموه بعد وفاته رحمه الله عام في 24 نوفمبر 1965.

بين أبوظبي ولندن..

«قلائد على صدر الكويت»شعرت منى في وقت من الأوقات أن ما يقف أمام صعودها في السلم الوظيفي بوزارة الإعلام هو عدم إكمالها دراستها. ذلك أنها بقيت على الدرجة السادسة خلال 7 سنوات من العمل الدؤوب والتفاني والإخلاص دون ان تنال أي ترقية، بل دون أن توفد إلى الخارج لزيارة أي إذاعة للاطلاع والاستفادة، عدا فرصة وحيدة جاءتها للسفر إلى القاهرة لمدة 3 أشهر للدراسة بمعهد الإذاعة المصرية، وهي فرصة رفضتها بحجة أنها لن تضيف لها شيئاً خلال تلك المدة القصيرة. ولهذا قررت أن تكمل دراستها الثانوية كي تلتحق بالجامعة. وبالفعل درست الثانوية في الكويت وأكملتها في القاهرة، ثم التحقت بكلية الآداب في جامعة بيروت العربية لدراسة التاريخ، ونجحت في الحصول منها على درجة الليسانس سنة 1974. لم تكتفِ منى بذلك فقط، وانما اتبعته أيضاً بنيل دبوم في الإعلام من مصر.

وعلى إثر ذلك، تم إرسالها مع الفنانة سعاد عبدالله سنة 1975 إلى أبوظبي تلبية لدعوة وجهها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان من خلال وكيل وزارة إعلامه عبدالله النويس للمساهمة في إعداد البرامج المتنوعة لإذاعة الدولة الاتحادية من أبوظبي. تقول منى حول هذه المهمة «منحنا أهلنا في الإمارات الثقة، مما حدانا على الجد والمثابرة في عملنا هناك، كما أن الثقة التي وضعها فينا المغفور له الشيخ جابر العلي السالم الصباح جعلت منا حالة من الإبداع والتفاني والذوبان في العمل. هكذا كنا.. وسنبقى حالة من حالات الحب المتوقد للكويت وأهلها.. ينعكس صوراً جميلة لعطائنا أينما ذهبنا أو حللنا». وقد تجلى حبها لوطنها خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت، حيث تصادف وصولها إلى لندن قبل الغزو بثلاثة أيام فقامت بنشاط إعلامي واجتماعي مزدوج هناك، ولاسيما في أوساط الأسر البريطانية التي كان أبناؤها يحاربون في عملية عاصفة الصحراء، وهو ما جعل رئيسة الحكومة البريطانية وقتذاك السيدة مارغريت ثاتشر تسأل عنها وتقابلها لتشكرها. وبعد التحرير قامت منى بتقديم برنامج تلفزيوني بعنوان «قلائد على صدر الكويت» خصصته للقاء نساء الكويت اللواتي عشن معاناة الاحتلال في الداخل بصبر وشجاعة.