تحقيقات

«الصامتون» لوزارة الصحة: لماذا السكوت عن معاناتنا؟

محمد الهتار (جدة) alhattar@

«استخرجوا جهاز القوقعة من رأس طفلي واتركوه يستمتع بطفولته، يلعب ويركض ويسبح كبقية الأطفال طالما لم يستفِد من جهاز غرسه في رأسه من أجل أن يسمع، لقد تعبت من كثرة التردد على المستشفى لتوفير احتياجات الغرسة المزروعة في رأس طفلي، وفي كل مرة أخرج من المستشفى بوعد في المرة القادمة، ومع كثرة الوعود رفعت أكثر من خطاب لصحة جدة وحتى للوزارة وما زالت أنتظر».

ويتساءل والد الطفلة مها زارعة قوقعة في الأذنين، متى تنتهي هذه الوعود؟ لا المستشفى قال لنا ليس من حقكم الحصول على مستلزمات الغرسة ولا وفروها، وظروفي المادية لا تساعدني في كل مرة على شراء هذه المستلزمات في ظل ارتفاع أسعارها، ولا أستطيع إلحاقها بالمراكز المتخصصة للتأهيل بسبب المغالاة في أسعارها.

وبحزن قال والد الطفل سعد، لم أتوقع أن تصل بي الحال إلى هذا الحد وأصبح متردداً على المستشفى، بل متسولاً منهم في أن يوفروا لي احتياجات طفلي، مضىت ثلاثة أعوام وأنا من موعد لآخر، ومن مشوار لآخر على أمل أن أخرج مرة واحدة طيلة الأعوام الثلاثة الماضية بكرتون للبطاريات، ولكن لا حياة لمن تنادي، وكأنهم يطبقون المثل القائل «أذن من طين وأخرى من عجين». وأتمنى من القائمين على المستشفى أن يشعروا بمعاناتنا.

وهذا ما جعل والد إبراهيم يطرح سؤالاً آخر هو بطول عدد الزارعين للقوقعة، هل لدى القائمون على المستشفى أطفال زارعو قوقعة؟

وتلتقط أم فاطمة الحديث، وتقول ظروفنا صعبة وحتى نوفر لطفلتنا احتياجات الغرسة، بتنا نقتصد من المأكل والمشرب فكل قطعة من قطع الغرسة غالية وظروفنا صعبة ولا نستطيع توفيرها، ولا نستطيع مجاراة أسعار التأهيل، طفلتي بدلاً من استفادتها من القوقعة أشعر أنها عادت إلى ما كانت عليه قبل زراعة الغرسة في رأسها.

فيما وصف الأب محمد معاناة طفله بكلمة واحدة، هي أن طفله غرس القوقعة في رأسه، لكنه لم يستفد منها لعدم قدرته على توفير سماعة بديله للمعطلة، حتى أن طفله الذي يدرس بالصف الثاني ابتدائي، بات يذهب إلى المدرسة يوماً أو يومين في الأسبوع، ويغيب عنها أسبوعا أو أسبوعين.

وقال: «كنت أظن أن حياة طفلي ستتغير وسيستمتع بفوائد كثيرة؛ وأهمها قدرته على السمع بشكل أفضل لكن كل ذلك ذهب مع الوعود».

قصص حزينة وآمال مفقودة

كلمات مؤثرة، وقصص حزينة، وآلام محمولة، وموجوعة، وآمال مفقودة، وأحلام طائرة، وأهداف ضائعة، وأعين دامعة وقلوب منفطرة، كل ذلك بسبب غلاء أسعار مستلزمات أجهزة القوقعة وعدم توفرها من المستشفيات وعدم حصول الزارعين على تأهيل مستمر يمكنهم من الاستفادة من الغرسة بالسمع والكلام.

هذه المعاناة، هي قليل من كثير، استمعنا إليها وتمنينا ألا نستمع إليها في ظل حرص حكومتنا الرشيدة الاعتناء بالمواطن وتوفير احتياجاته مهما كانت، ولأننا نعلم يقينا أن القائمين على وزارة الصحة حريصون كل الحرص على تنفيذ تعليمات ولاة الأمر بتوفير كافة احتياجات أبنائها وبالذات ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا يجعلنا نتساءل لماذا كل هذا الصمت؟!

هذه الآلام حملناها إلى وزارة الصحة، وإلى المؤسسات الطبية، والمراكز المتخصصة، وجمعية أسمعك، والمختصين في تأهيل الزارعين للقوقعة بحثاً عن حلول تعيد للزارعين ولأولياء أمورهم أمل الاستفادة من الغرسة، وتعيد إليهم الآمال والأحلام التي رسموها عند دخولهم غرفة العمليات.

خطط قصيرة وطويلة المدى

بداية هذه المعاناة أضاء مشعلها مدير برنامج ماجستير العلوم في اضطرابات النطق واللغة والسمع وبرنامج البكالوريوس في علوم النطق والسمع واللغة بجامعة دار الحكمة الأهلية الدكتور ياسر نعمان الصعبي، الذي بيّن أن دور أخصائي أمراض النطق واللغة يعتبر من أهم أعضاء فريق زراعة القوقعة الإلكترونية وعملية التأهيل السمعي واللغوي سواءً قبل إجراء زراعة القوقعة الإلكترونية أو بعدها، وإطلاع فريق زراعة القوقعة الإلكترونية على مستوى تقدم الطفل في برنامج التأهيل السمعي، ووضع خطة قصيرة المدى وخطة طويلة المدى لتعزيز مهارات التواصل وتقديم التقييم المستمر وتقييم مهارات النطق واللغة والسمع لدى الطفل وتدريبه بين الأشهر الأربعة والأشهر الستة قبل عملية الزراعة، باستخدام المعينات السمعية بشكل مستمر، وهذا من شأنه تجهيز وتهيئة الطفل والأهل بعد زراعة القوقعة، التي يعقبها التعريف بمكونات جهاز القوقعة الإلكترونية وطرق التعامل مع الجهاز من تركيب وتشغيل وتنظيف.

وأوضح الصعبي، أن الاستفادة القصوى من زراعة القوقعة الإلكترونية تعتمد على عمر الطفل عند زراعتها، فالعمر المثالي هو العام الأول، فبعد الثالثة أو الرابعة تكون النتائج ضعيفة، مشيراً إلى أن عدم استخدام جهاز السمع (الغرسة) يوم واحد يؤثر سلباً على تأهيله واستفادته، ومشدداً على أن دور الأسرة في تأهيل أبنائهم من خلال التكلم معهم باستمرار والتصحيح لهم ضروري ومهم مع استشارة المدرب لتطوير مهارات التواصل.

الغرسة تحتاج الكثير من الدعم

بعد تلك التحذيرات، انطلقنا إلى رئيس الجمعية السعودية للأنف والأذن والحنجرة رئيس الأكاديمية العربية للأذن مدير مركز الملك عبدالله الدكتور عبدالله حجر، للوقوف على حالات زارعي القوقعة، الذي بدأ قائلا: إن قرار فحص السمع المبكر الإلزامي للمواليد وربط برنامج زراعة القوقعة الإلكترونية في وزارة الصحة مع البرنامج الوطني لفحص الإعاقة السمعية لحديثي الولادة، كان كفيلاً باكتشاف حالات الضعف السمعي المبكر والذي بدوره ساعد في حل العديد من الحالات وإيجاد أفضل الطرق لعلاجها، موضحاً أن ضعف السمع الحسي العصبي يعد من أكثر أنواع ضعف السمع شيوعاً، عاداً ذلك إلى زواج الأقارب، ومبيناً أن الإحصاءات العالمية تقدر إصابة اثنين من الألف من المواليد بضعف سمعي شديد إما بأسباب وراثية أو مكتسبة، وأن النسبة المئوية للإصابة في المملكة تصل إلى ما يقارب 4 لكل 1000 مولود من إجمالي عدد المواليد بالمملكة والذي يصل إلى ما يقارب 600 ألف مولود في العام، وتبلغ نسبة من يحتاج منهم لزراعة القوقعة ما يقارب 25%.

وبين أن برنامج زراعة القوقعة، يجب أن يكون برنامجاً متكاملاً يشمل جميع الخدمات للزارعين من حيث التأهيل قبل وبعد الجراحة، مع توفير كافة المستلزمات اللازمة لنجاح الزراعة، وهذا موجود في مركز الملك عبدالله التخصصي للأذن؛ الذي يقدم خدمات متكاملة في زراعة القوقعة وتأهيل زارعي القوقعة، حيث إن المركز مزود بأخصائيي تأهيل سمعي ولغوي وعيادات مجهزة لعملية التأهيل والبرمجة، كما يحتوي على مواد لتقييم وتدريب مرضى ضعاف السمع وزراعة القوقعة، مضيفاً أنه ومنذ بداية رحلة العلاج يحرص الفريق المختص على توضيح أن الزراعة هي غرسة تحتاج الكثير من الدعم بالتأهيل حتى تثمر وتظهر النتائج المرجوة، وذلك من خلال المحاضرات التثقيفية والاستشارات التأهيلية التي تعد إلزامية قبل الزراعة، لهذا يعد مركز الملك عبدالله التخصصي للأذن متميزاً في مجال الإعاقة السمعية، وزراعة الأجهزة السمعية، ومرجعاً طبياً فريداً في توفير الخدمات وصرحاً للأبحاث والدراسات العلمية المحكمة، ورائداً للمحافل الدولية في هذا المجال.

وحول شكوى بعض أولياء الأمور من عدم قدرتهم على تأهيل أبنائهم الزارعين لغلاء أجرة التدريب في المراكز الخاصة ولعدم توفر مراكز تدريب في القطاع الصحي بالشكل المطلوب، قال الدكتور حجر: مركز الملك عبدالله التخصصي للأذن يوفر خدمات متكاملة من ناحية التأهيل السمعي واللغوي، ويحرص دائماً على تسليط الضوء على أهمية التأهيل اللغوي بعد الزراعة، حيث يعتبر اللبنة الأولى في نجاح الزراعة، ويعزز من دور الأسرة المحوري في نجاح التأهيل من خلال التعاون مع أخصائيي التأهيل لتطبيق الأهداف والنتائج المرجوة.

مغالاة أسعار جلسات التأهيل

ولمعرفة رأي المراكز المتخصصة للتأهيل فيما يتردد عن مغالاتهم في أسعار جلسات التأهيل، طرقنا باب المسؤولة عن أحد المراكز المتخصصة رنا مرزا، التي نفت ذلك وبشدة، مشددة على أن أسعارهم ليست عالية. وقالت: «على العكس لا تزيد الساعة عن 190 ريالا، فالمراكز لديها التزامات كثيرة حتى تصل إلى هدف تأهيل زارع القوقعة من خلال توفير كوادر متخصصة في مختلف المجالات المطلوبة للتأهيل، موضحة أنها لمست من خلال الحالات التي سجلت بالمركز عدم استفادتها من زراعة القوقعة بسبب عدم حصولها على تأهيل مطلوب».

وأرجعت ذلك لبعد الفترات الزمنية للمراجعة ولعامل آخر هو أكثر أهمية لعدم تخصص القائمين الموجودين حاليا نتيجة أن دراساتهم عامة وليست متخصصة. ولأن المؤسسات الطبية هي الأخرى أشير إليها بالمبالغة في أسعارها، قال مسؤول المبيعات في إحدى الشركات الطبية المتخصصة بتأمين غرسات القوقعة وتوفير قطع غيارها سامح عبدالله: أسعارنا هي وفق التسعيرة القانونية، مع أنها ليست رخيصة القيمة عند استيرادها، ونحن كشركة وطنية لا يمكن أن نتجاوز التعليمات في هذا الخصوص، ونخسر 30 عاما من وجودنا في السوق، ودورنا كموردين هو التنسيق الكامل مع الجهة الطبية التي يتم توريد القطع الخاصة بالغرسات لها بناء على شروط المنافسات الحكومية، والضمانات التي تقدمها الشركة للمستفيدين من الغرسات هي ضمانات معروفة وهي وفق شروط المنافسات الحكومية. وحول أن المؤسسات الطبية المختصة ملزمة ومسؤولة عن توفير مستلزمات الغرسة مجانا في عامها الأول، قال: يتم توريد القطع المطلوبة بناء على شروط المنافسات الحكومية. وعن توقف محاولاتهم السابقة مع بعض المستشفيات في توفير كوادر لتأهيل الزارعين، أفاد : «تسعى الشركة دائما بتقديم التدريب المتخصص للجهات الطبية الحكومية لتقديم أفضل خدمه ويتم ذلك بصفة دورية».

الأسعار ليست عالية

دق أحد مسؤولي المبيعات في إحدى الشركات المتخصصة في توفير مستلزمات القوقعة ناقوس خطر زيادة الأسعار قائلا: «التكلفة زادت والأسعار مع بداية العام القادم سترتفع، والأسعار الحالية ليست عالية، وهي معقولة بل نتحمل أجزاء من قيمتها الأساسية». ونفى ما يشاع عن إلزامهم بتوفير قطع الغيار لمستلزمات الغرسة في العام الأول مجاناً، موضحاً أن المستشفى الزارع هو الملزم بتوفيرها وليست شركات بيع الغرسات.

اجتياز التأهيل للزارعين

لأن جمعية زارعي القوقعة (أسمعك) باتت ملاذ البعض في اللجوء إليها لتوفير مستلزمات القوقعة وبالذات للحالات غير القادرة، قال المدير التنفيذي للجمعية فهد السبيعي: «إن هدف الجمعية الرئيسي هو اجتياز التأهيل للزارعين قبل بلوغهم السادسة من أعمارهم وإلحاقهم بالتعليم العام، ومن هذا المنطلق الجمعية حريصة على متابعة كل زارع مسجل لديها وكانت البداية في منطقة الرياض، وحالياً توسعنا وبلغ عدد المسجلين بالغربية قرابة 200 زارع للقوقعة، وقد حرصنا ومن خلال ما يصلنا من تبرعات على توفير مستلزمات القوقعة وبعضها نوفرها لهم بتحمل أولياء الأمور نسبة من القيمة».

وكشف السبيعي، أنه ومن خلال متابعة بعض الحالات لمسوا ضعفاً في التأهيل، أرجعه لعدم توفر الكوادر ولبعد أوقات المراجعات، ومن هنا قامت الجمعية بتوفير عيادات خاصة للتأهيل في المواقع المتواجدة فيها، ومنها حالياً مكة المكرمة بتوفير أربع عيادات لتأهيل السلوك واللفظ والنطق والتخاطب، التي ستبدأ قريباً بهدف حصول الزارع على حصيلة لغوية وتحسين سلوكه، متمنياً استمرار دعم الجمعية حتى تنفذ أهدافها.

موضحاً أن أسباب تركيزهم على منطقة معينة في توفير احتياجات الزارعين، يعود إلى أن المانح يشترط في منحته ذلك، مشيراً إلى أن أسعار قطع الغيار مبالغ فيها ومع ذلك عقدوا شراكات مع بعضها في تخفيض الأسعار لبعض القطع، مختتماً أن الجمعية زرعت في الفترة الماضية 8 حالات لغير سعوديين.

نقص الكوادر والمتخصصين المؤهلين

وبعد كل الذي الرصد، كان لزاماً أن نعرف رأي المسؤول الأول عن برنامج زراعة القوقعة بوزارة الصحة استشاري جراحة الأنف والأذن والحنجرة واستشاري الأعصاب السمعية، وقائد مسار زراعة القوقعة في المراكز المتخصصة الدكتور أحمد الظفيري، الذي كشف عن نقص في عدد الكوادر والمتخصصين المؤهلين في بعض مراكز زراعة القوقعة.

وأرجع السبب إلى صعوبة الحصول عليهم، لافتاً إلى أن ذلك النقص موجود في كثير من الدول، وأن وزارة الصحة تعمل حالياً لتغطية الحاجة في مختلف مراكز زراعة القوقعة في المملكة. وأوضح الدكتور الظفيري، أن عدد المراكز 13 مركزاً، وعدد الحالات التي تمت زراعتها في 2021 أكثر من 400 حالة، وعن المستهلكات والصيانة، قال: «يعتمد على فترة ضمان الجهاز، مبيناً أن المستشفى الزارع والشركة مسؤولان عن الجهاز، وعن المرضى الزارعين خلال مدد الضمان، وقد سعت الوزارة إلى رفع سنوات الضمان للأجهزة الجديدة من سنة وثلاث سنوات إلى خمس سنوات في الأجهزة القادمة، أما التي هي خارج الضمان فالمستشفى مسؤول عن مرضى الزراعة بالإمكانات المتاحة لديه، ونعمل حالياً مع مراكز زراعة القوقعة على مبادرة تنظيم الإجراءات فيما يخص صرف قطع المستهلكات الخاصة بالزراعة لما بعد الضمان وتسهيل حصول المرضى عليها». وأضاف: «فيما يتعلق بتلف المعالج الخارجي لزراعة القوقعة فعلى المريض مراجعة المستشفى لفحص الجهاز بالتعاون مع الشركة البائعة لمعالجته، فإن كان التلف ضمن مدة الضمان يستبدل أما إذا كان بسبب سوء الاستخدام، فعلى ولي الأمر معالجة الموضوع، ومع ذلك يحاول المستشفى الزارع توفير الجهاز بقدر بالإمكانات المتاحة لديهم».

أخيراً، تمنينا أن نغلق ملف معاناة زارعي القوقعة بمشاركة رأي الشؤون الصحية في جدة التي تسلمت استفساراتنا في هذا الخصوص قبل 20 يوماً، لكنها ألمحت لنا أن تلك الاستفسارات أرسلتها إلى الوزارة ولم تتسلم الإجابات منها.