أثرية الباحة يتيمة!
١٠٠٠ قرية ارتحل عنها المفتونون بها
الجمعة / 17 / ربيع الثاني / 1444 هـ الجمعة 11 نوفمبر 2022 04:55
علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@
لم يذهب الشاعر محمود درويش بعيداً عن أخيه الإنسان في منطقة الباحة، وهو يتساءل بطفولة واعية؛ ووعي الطفل المتأمل؛ لتغيرات لم يألفها، ولفتت انتباهه أثناء تهجيره من قريته (البروة)، في مدينة (الجليل) الفلسطينية، وغداً يكرر على مسامع أبيه المحزون بإجاباته «سؤال المكان، والهوية، والغياب، أو (التغييب)، والقلق على المستقبل؛ إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي، ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي! لماذا تركت الحصان وحيداً؟ لكي يؤنس البيت، يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها».
ولعل السؤال الأخير وجوابه يشخصان واقع بيوت ما يقارب ألف قرية أثرية في منطقة الباحة، فالبيوت الحجرية، لمَّا يعد بها ما يؤنسها، ومات حس الحياة فيها، وهُجرت، ورفع الأبناء والأحفاد أيديهم عن العناية بحاضنة أرواح من راحوا، لتتهاوى من فرط شغفها بتفقد من وُلدوا فيها، فهذه (القرى) لطالما افتخرت بأصيل بنيانها، ووطيد أركانها، ولا غرابة أن تتساقط حجارة البناء المرصوص، وتنخلع أبوابها انخلاع قلوب الأمهات، وتخر سقوفها احتجاجاً على قسوة الهجر، وعبثية النسيان.
فن المعمار وجمالية الهندسة بالفطرة
يؤكد الفن المعماري في منطقة الباحة مهارة الكائن البشري، في هندسة وبناء البيوت، دون دراسة نظامية، بل اعتماداً على الخبرة والفطرة والحدس، ويبدأ شيخ البناية بخط إشارات في الأرض بالمسحاة، لتتحول لما يشبه مجرى لا يتجاوز عمقه متراً واحداً، فيما يتولى أصحاب الجمال إحضار الحجارة اللازمة للبناء من المقلّع، والجبال المجاورة، ويولي شيخ البناية الحجارة اهتماماً بدءا من (الربض) لبناء قواعد بأحجار كبيرة تنوب عن القواعد، ويرتفع البناء بمساعدة (الملقفة) الذين يناولونه ما يحتاج من مقاسات في كل مرحلة، ويبني دون استعمال مادة إنشائية تربط ما بينها ما عدا الحجارة الصغيرة، وبالوصول للأبواب والنوافذ يتم وضع صخرة كبيرة فوق الأبواب والنوافذ (الجُباهة) وتقوم (الزفر) أعمدة حاملة توضع عليها قطعة خشبية مقوسة (الفلكة) ثم تُمد (الجوز) من الجدار الخارجي للمنزل إلى (الزافر) في الداخل، ويسقّف بأشجار العرعر التي يتم تغطيتها بالجريد والعرفج، ويتم لحمها بالطين ثم التربة، وغالباً ما يستغني الجيران عن بناء أربعة جدران، فيشبك الخشب في جدار جاره، ما يُعبّر عن تآلف، ولحاجتهم لبعضهم، ولكون الأزمنة قبل توحيد المملكة أزمنة خوف، والأبنية متصالحة مع البيئة كونها جزءاً منها ومقاومة للتغيرات المناخية، إذ يُبنى البيت من الأحجار والأشجار.
مبادرات الجمعيات طوق نجاة
أوضح عدد من المبادرين بإحياء قرى الأثرية، في منطقة الباحة، منها (قرية ذي عين الأثرية)، و(قرية الأطاولة التاريخية)، و(قصر بن رقوش)، و(بيوت العنقري) وغيرها أن نظام المبادرات يمنح المجتمع الأهلي فرصة إعادة إحياء قُراهم عبر تأسيس جمعيات أهلية، تحت مظلة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ومن خلال الجمعيات تنتهي إشكالية التملك الفردي، بحكم أن تشريع الجمعيات الأهلية يحدُّ من النزاعات ويضبط الرغبات والأهواء بالمأسسة والضوابط المحوكمة.
ولا يزال القطاع الخاص زاهداً عن فكرة استثمار القرى الأثرية، في ظل تخوفه من صراع الورثة، وعدم الإيمان بفكرة استثمارها، إما قلقاً على ما يعتبر (من ريحة الحبايب) أو حسداً لمستثمر يحقق أرباحاً خيالية ويحرمهم منها، ويتطلع التربوي إبراهيم المكي، إلى يوم يعيد إحياء القرى بالترميم للجدران والسقوف، وإصلاح الطرقات المسدودة بالحجارة المتساقطة والأشواك، وافتتاح مطاعم ومقاهٍ تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتعزز ذاكرة الأجيال بربطها بالإرث العمراني، وتوثيق موروث وتراث الآباء والأجداد، فيما يرى رجل الأمن المتقاعد علي سعدي أن البيوت المهجورة من أهلها تحتاج تفعيل دور القطاعات الخدمية، لصيانة وإحياء ما يمكن منها، لافتاً إلى جذب القرى الأثرية للزوار من داخل المملكة وخارجها، مبدياً خشيته من الإهمال والتهميش؛ كونها حيازات قابلة للتحول لمواقع خطرة على أمن الإنسان وصحته، وتحفظ على إزالتها، مؤملاً أن يتعاون ملاك البيوت في تدارك ما يمكن تداركه، كون البيوت بمرور الوقت، ستغدو أثراً بعد عين.
متاحف مشرعة الأبواب للصوص
مما يأسف له أبناء القرى الأثرية في منطقة الباحة، أن البيوت بخروج أهلها منها، غدت نهباً، لجامعي التراث، وسماسرة الآثار، كونها تحوي كنوزاً، من اللقى والتحف والأدوات والأواني المستعملة في النشاط الإنساني اليومي، إضافة لكتب ومخطوطات تزخر بها بيوت الفقهاء، ولا يستبعد البعض وجود كنوز من الذهب والفضة تحت البناء، ما يوجب إحاطتها بسياج وتكليف حراسات على مدار الساعة.
«عكاظ» حاولت أن تسجّل وتستجلي، رؤية الجهات الخدمية في المنطقة، فطرحت السؤال باسم ألف قرية، آيلة للسقوط، علّ وعسى نجد من يتولى إعادة ترميمها، إلا أن آلية إعمار القرى ليست بالأمر اليسير، فالتشريع لإعادة إعمار القرى الأثرية يحتاج، فيما يبدو، لقرار يولي جهات الاختصاص مهام إعادة التأهيل، ولم يخف بعض المسؤولين استحالة التدخل الحكومي في معالجة وضع البيوت، بحكم أنها أملاك خاصة، ضمن إطار ملك جماعي مُشاع، بين أهل القرية، ولا يمكن التصرف، إلا بموافقة خطيّة من الجميع، في حال توفّر التشريع القانوني المُخوّل بمنح التصاريح.
إحياء داون تاون القرى
احتفظ رئيس بلدية محافظة بلجرشي السابق المهندس سعيد الحسيل، بطبع بصمة في مدينته العتيقة، وتبنى مشروع إعادة تأهيل بلجرشي الأثرية (وسط السوق) وهيأ الموقع للاستثمار، مع الاحتفاظ بقيمة تراثية، تظل شاهداً على منجز الفن المعماري، والتنفيذ الهندسي القائم على الحدس الفطري واللمسات الجمالية.
وأكد أمين منطقة الباحة الدكتور علي بن محمد السواط، استعداد أمانة الباحة للإسهام بنظافة طرقات القرى الأثرية، وتزويدها بالإنارة شأن بعض القرى التي أعاد أهلها ترميمها، وتطلّع لإعادة إحياء (داون تاون) القرى والاستثمار فيه بحسب إمكانات شباب كل قرية.
ولعل السؤال الأخير وجوابه يشخصان واقع بيوت ما يقارب ألف قرية أثرية في منطقة الباحة، فالبيوت الحجرية، لمَّا يعد بها ما يؤنسها، ومات حس الحياة فيها، وهُجرت، ورفع الأبناء والأحفاد أيديهم عن العناية بحاضنة أرواح من راحوا، لتتهاوى من فرط شغفها بتفقد من وُلدوا فيها، فهذه (القرى) لطالما افتخرت بأصيل بنيانها، ووطيد أركانها، ولا غرابة أن تتساقط حجارة البناء المرصوص، وتنخلع أبوابها انخلاع قلوب الأمهات، وتخر سقوفها احتجاجاً على قسوة الهجر، وعبثية النسيان.
فن المعمار وجمالية الهندسة بالفطرة
يؤكد الفن المعماري في منطقة الباحة مهارة الكائن البشري، في هندسة وبناء البيوت، دون دراسة نظامية، بل اعتماداً على الخبرة والفطرة والحدس، ويبدأ شيخ البناية بخط إشارات في الأرض بالمسحاة، لتتحول لما يشبه مجرى لا يتجاوز عمقه متراً واحداً، فيما يتولى أصحاب الجمال إحضار الحجارة اللازمة للبناء من المقلّع، والجبال المجاورة، ويولي شيخ البناية الحجارة اهتماماً بدءا من (الربض) لبناء قواعد بأحجار كبيرة تنوب عن القواعد، ويرتفع البناء بمساعدة (الملقفة) الذين يناولونه ما يحتاج من مقاسات في كل مرحلة، ويبني دون استعمال مادة إنشائية تربط ما بينها ما عدا الحجارة الصغيرة، وبالوصول للأبواب والنوافذ يتم وضع صخرة كبيرة فوق الأبواب والنوافذ (الجُباهة) وتقوم (الزفر) أعمدة حاملة توضع عليها قطعة خشبية مقوسة (الفلكة) ثم تُمد (الجوز) من الجدار الخارجي للمنزل إلى (الزافر) في الداخل، ويسقّف بأشجار العرعر التي يتم تغطيتها بالجريد والعرفج، ويتم لحمها بالطين ثم التربة، وغالباً ما يستغني الجيران عن بناء أربعة جدران، فيشبك الخشب في جدار جاره، ما يُعبّر عن تآلف، ولحاجتهم لبعضهم، ولكون الأزمنة قبل توحيد المملكة أزمنة خوف، والأبنية متصالحة مع البيئة كونها جزءاً منها ومقاومة للتغيرات المناخية، إذ يُبنى البيت من الأحجار والأشجار.
مبادرات الجمعيات طوق نجاة
أوضح عدد من المبادرين بإحياء قرى الأثرية، في منطقة الباحة، منها (قرية ذي عين الأثرية)، و(قرية الأطاولة التاريخية)، و(قصر بن رقوش)، و(بيوت العنقري) وغيرها أن نظام المبادرات يمنح المجتمع الأهلي فرصة إعادة إحياء قُراهم عبر تأسيس جمعيات أهلية، تحت مظلة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ومن خلال الجمعيات تنتهي إشكالية التملك الفردي، بحكم أن تشريع الجمعيات الأهلية يحدُّ من النزاعات ويضبط الرغبات والأهواء بالمأسسة والضوابط المحوكمة.
ولا يزال القطاع الخاص زاهداً عن فكرة استثمار القرى الأثرية، في ظل تخوفه من صراع الورثة، وعدم الإيمان بفكرة استثمارها، إما قلقاً على ما يعتبر (من ريحة الحبايب) أو حسداً لمستثمر يحقق أرباحاً خيالية ويحرمهم منها، ويتطلع التربوي إبراهيم المكي، إلى يوم يعيد إحياء القرى بالترميم للجدران والسقوف، وإصلاح الطرقات المسدودة بالحجارة المتساقطة والأشواك، وافتتاح مطاعم ومقاهٍ تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتعزز ذاكرة الأجيال بربطها بالإرث العمراني، وتوثيق موروث وتراث الآباء والأجداد، فيما يرى رجل الأمن المتقاعد علي سعدي أن البيوت المهجورة من أهلها تحتاج تفعيل دور القطاعات الخدمية، لصيانة وإحياء ما يمكن منها، لافتاً إلى جذب القرى الأثرية للزوار من داخل المملكة وخارجها، مبدياً خشيته من الإهمال والتهميش؛ كونها حيازات قابلة للتحول لمواقع خطرة على أمن الإنسان وصحته، وتحفظ على إزالتها، مؤملاً أن يتعاون ملاك البيوت في تدارك ما يمكن تداركه، كون البيوت بمرور الوقت، ستغدو أثراً بعد عين.
متاحف مشرعة الأبواب للصوص
مما يأسف له أبناء القرى الأثرية في منطقة الباحة، أن البيوت بخروج أهلها منها، غدت نهباً، لجامعي التراث، وسماسرة الآثار، كونها تحوي كنوزاً، من اللقى والتحف والأدوات والأواني المستعملة في النشاط الإنساني اليومي، إضافة لكتب ومخطوطات تزخر بها بيوت الفقهاء، ولا يستبعد البعض وجود كنوز من الذهب والفضة تحت البناء، ما يوجب إحاطتها بسياج وتكليف حراسات على مدار الساعة.
«عكاظ» حاولت أن تسجّل وتستجلي، رؤية الجهات الخدمية في المنطقة، فطرحت السؤال باسم ألف قرية، آيلة للسقوط، علّ وعسى نجد من يتولى إعادة ترميمها، إلا أن آلية إعمار القرى ليست بالأمر اليسير، فالتشريع لإعادة إعمار القرى الأثرية يحتاج، فيما يبدو، لقرار يولي جهات الاختصاص مهام إعادة التأهيل، ولم يخف بعض المسؤولين استحالة التدخل الحكومي في معالجة وضع البيوت، بحكم أنها أملاك خاصة، ضمن إطار ملك جماعي مُشاع، بين أهل القرية، ولا يمكن التصرف، إلا بموافقة خطيّة من الجميع، في حال توفّر التشريع القانوني المُخوّل بمنح التصاريح.
إحياء داون تاون القرى
احتفظ رئيس بلدية محافظة بلجرشي السابق المهندس سعيد الحسيل، بطبع بصمة في مدينته العتيقة، وتبنى مشروع إعادة تأهيل بلجرشي الأثرية (وسط السوق) وهيأ الموقع للاستثمار، مع الاحتفاظ بقيمة تراثية، تظل شاهداً على منجز الفن المعماري، والتنفيذ الهندسي القائم على الحدس الفطري واللمسات الجمالية.
وأكد أمين منطقة الباحة الدكتور علي بن محمد السواط، استعداد أمانة الباحة للإسهام بنظافة طرقات القرى الأثرية، وتزويدها بالإنارة شأن بعض القرى التي أعاد أهلها ترميمها، وتطلّع لإعادة إحياء (داون تاون) القرى والاستثمار فيه بحسب إمكانات شباب كل قرية.