محمد حلمي مدرسة الخط العربي !
الأحد / 10 / جمادى الأولى / 1444 هـ الاحد 04 ديسمبر 2022 23:25
نجيب يماني
لا أجد لغة من اللغات الحيّة من اعتنى ناطقوها بحرف أبجديتها، مثل عناية العربية بحرفها المرسوم، عناية تضرب عميقًا في جذور التاريخ، مكللة بالمهابة والجلال، للغة وصفت من قبل الخالق عز وجلّ بـ«الإبانة» لقوله تعالى (تلك آيات الكتاب وقران مُبين)، ولحروف فيها كانت مدار القسم في سور افتتحت بالحروف العربية المقطعة وعددها ٢٩ سورة.
ورغم أن اللغة سبقت الدين الخاتم بأمد بعيد، إلا أن العناية بالحرف العربي جاءت قرينة به كل الاقتران، مرتبطة به أشد الارتباط، ليكتسب بذلك بعدًا يتداول بين بندولي الجلال والجمال، في مراوحة إبداعية تتجلى في مراياها إبداعات من خدموا هذا الحرف العربي برسوم جمالية مختلفة، واعتنوا بتزيينه وفق سمت خاص، وطرائق مبهرة، فالتصقت أسماؤهم به، وعرفوا به حق المعرفة، وعلا ذكرهم وارتفع صيتهم كفاء ما خدموا الحرف العربي حق الخدمة..
فإذا كان الأمر على هذا النحو؛ فما ظنك بمن تشرّف بأن يكون «أوّل سعودي كتب على حزام الكعبة المشرّفة بتكليف من المؤسس - طيّب الله ثراه»، نعم إنّه الخطّاط المبدع الأستاذ محمد حلمي، رحمه الله.. إن الصيت هنا أعلى، والمقام مقام تشريف يعزّ على الكثيرين، وذكرى لا يمحوها البلى، أو يطويها النسيان.
أثبتها ابنه البكر فؤاد في كتاب تاريخي، مع ذكرى سنوية في منزله يحيي فيها سيرة والده يعرض فيها على الحضور إبداعات من تاريخه وصورًا من فنه يحرص فيها على تذكير الحاضرين بأهمية الحرف وكيف كان والده يطوّعه ويتعامل معه ويشكله.
أستعيد في خاطري التماعات من حياته، وشذرات من إنجازاته، حين كنتُ شابًا يافعًا، أسكن في جرول بمكة المكرّمة، فتتراى في شاشة ذاكرتي الآن مرأى الأستاذ محمد حلمي، الذي كان يقطن قريبًا، يخرج من داره عصر كل يوم بثوبه الأبيض الناصع، متجهًا إلى الحرم المكّي الشريف راجلاً، فقد كان يعاف ركوب السيارة، مفضلاً المشي ذهابًا، وجيئة بعد انتهاء صلاة العشاء، قاطعًا مسافة تُقدّر بحوالي ٥٠ كيلو مترًا، ولعل هذا يفسّر العمر المديد الذي عاشه وهو بكامل قواه، حتى تجاوز المائة عام، فقد كان محافظًا لا يأكل إلّا بحساب ويتجنب أهل الطب والمستشفيات شغوفًا بالأعشاب، مؤمنًا بأهمية الطب النبوي وفعاليته في علاج الأمراض، ناصحاً زوّاره أن المعدة بيت الداء وأن ابن آدم ما ملأ وعاء شرّ من بطنه..
أقلّب الآن صفحات كتاب خواطر من ذكرياتي بإشراف ابنه البار «فؤاد» بدوافع البر والوفاء، وأخلص فيه إخلاص من يرجو المثوبة وجزيل العطاء، وأكاد أحس بمعاناته في إعداد مادته وتجميع تاريخ والده ولكن ما عساه يضيف إلى من هو معروف ومشهور، وماذا سيقدم من جديد عن رجل كان ملء السمع والبصر، وخلدت ذكراه اليوم في كل حرف خطّه بيمينه، ولوحة ناطقة بجمال رسمه وبديع فنه، ولكن عزم الابن أخرج لنا كتابًا حريٌّ بأن يقتنى، وجدير بأن يقرأ ويطالع في مقام الإحسان والتقريظ..
اقرأ في سطوره جهود والده في مجال توسيع دائرة فن الخط العربي، حين كانت تُوزّع في المدارس كراريس بخطي الرقعة والنسخ على حوافها آيات من القرآن الكريم مكتوبة بخطه،
لقب بخطّاط وزارة المعارف آنذاك، وكانت مادة الخط تُدرّس للطلبة في مراحلهم المختلفة مما حسّن خطوطهم والتي لا تشبه خطوط جيل اليوم، كما أنه كان رجل تعليم من الطراز الأول، له العديد من التلاميذ الذين يذكرونه بالخير. يقول (رحمه الله): «عاصرت جميع مراحل التعليم في الماضي والحاضر ولم أغادر حقل التعليم طوال حياتي ولذلك فإنّ طلابي هم كثيرون، فمنهم الأمراء والوزراء والأطباء والمهندسون والقُضاة والأُدباء والكُتّاب والفنّانون وأصحاب الأعمال الحرة. والجميع يؤدون أعمالهم بأمانة وإخلاص ويخدمون الأفراد والوطن وجميع مرافق الحياة».
كما أن له بعض الكتابات خطّت بخط عربي جميل ومنمّق على جدران وأعمدة الحرم المكّي الشريف، كما كان يخط شهادات التخرّج للمراحل الدراسية المختلفة، وما زلت احتفظ ببعضها شاهدة على إبداع هذا الإنسان.
عاصر نشوء الدولة السعودية، وأثبت كفاءة وإخلاصًا في خدمة مهنته الشريفة حتى أنّه اُختير من المقام السامي خبيرًا عامًا لمكافحة التزوير، ومضاهاة الخطوط أوّل من أسّس أول مدرسة لتحسين الخطوط في أحد أروقة الحرم المكّي الشريف عند باب الصفا، وكانت حلقته المسماة مدرسة تحسين الخطوط الحلمية تشكّل مع بقية الحلقات العلمية والفكرية والدينية المنتشرة آنذاك في أروقة الحرم المكّي الشريف أوّل جامعة في الإسلام.
صفوة القول؛ إن الأستاذ محمد حلمي - رحمه الله - شخصية تربوية فذة، وهب وقته للعلم والتعليم لأكثر من نصف قرن من الزمن، بنى عقولاً، وساهم في تكوين الأجيال المستنيرة، تولّى إدارة المعهد العلمي السعودي وكان يفخر بهذه الفترة الثرية من حياته، يقول عنها: «هذا المعهد هو أوّل مؤسسة علمية ثانوية في المملكة لما بعد المرحلة الابتدائية وكانت به فصول ليلية لمن أراد أن يكمل تعليمه من موظفي الدولة، وعندما تم افتتاح فرع للقضاء الشرعي كنت أحد المدرّسين فيه».
شهدت فترته الكثير من التطورات أبرزها استيراده لأوّل إذاعة مدرسية من الخارج، وأنشأ أوّل معرض فنّي، عُرضت لوحاته الفنية من رسومات طلبة المعهد في معرض دمشق الدولي في العام 1373هـ.
أنشأ صندوقًا للتوفير باسم الطلبة، وافتتح مقصفًا مدرسيًا، واستورد لهم الأدوات المدرسية والدفاتر والكتب التي يحتاجونها.
لم يخلف ثروة تذكر، عاش موفورًا، ومات مستورًا راضيًاً قانعًاً برزقه وعيشه.. ويأتي كتاب «خواطر من ذكرياتي» مجسّدًا لسيرته العطرة الباقية بين الناس، لتبقى صلة ود تجسّر المسافات بين الأجيال، وتضع رموزنا حيث ينبغي من مقامات الرفعة والسمو، والذكر المستطاب، وليقدم الكتاب صورة من صور وفاء الابن لأبيه، وبره به بعد رحيله..
ورغم أن اللغة سبقت الدين الخاتم بأمد بعيد، إلا أن العناية بالحرف العربي جاءت قرينة به كل الاقتران، مرتبطة به أشد الارتباط، ليكتسب بذلك بعدًا يتداول بين بندولي الجلال والجمال، في مراوحة إبداعية تتجلى في مراياها إبداعات من خدموا هذا الحرف العربي برسوم جمالية مختلفة، واعتنوا بتزيينه وفق سمت خاص، وطرائق مبهرة، فالتصقت أسماؤهم به، وعرفوا به حق المعرفة، وعلا ذكرهم وارتفع صيتهم كفاء ما خدموا الحرف العربي حق الخدمة..
فإذا كان الأمر على هذا النحو؛ فما ظنك بمن تشرّف بأن يكون «أوّل سعودي كتب على حزام الكعبة المشرّفة بتكليف من المؤسس - طيّب الله ثراه»، نعم إنّه الخطّاط المبدع الأستاذ محمد حلمي، رحمه الله.. إن الصيت هنا أعلى، والمقام مقام تشريف يعزّ على الكثيرين، وذكرى لا يمحوها البلى، أو يطويها النسيان.
أثبتها ابنه البكر فؤاد في كتاب تاريخي، مع ذكرى سنوية في منزله يحيي فيها سيرة والده يعرض فيها على الحضور إبداعات من تاريخه وصورًا من فنه يحرص فيها على تذكير الحاضرين بأهمية الحرف وكيف كان والده يطوّعه ويتعامل معه ويشكله.
أستعيد في خاطري التماعات من حياته، وشذرات من إنجازاته، حين كنتُ شابًا يافعًا، أسكن في جرول بمكة المكرّمة، فتتراى في شاشة ذاكرتي الآن مرأى الأستاذ محمد حلمي، الذي كان يقطن قريبًا، يخرج من داره عصر كل يوم بثوبه الأبيض الناصع، متجهًا إلى الحرم المكّي الشريف راجلاً، فقد كان يعاف ركوب السيارة، مفضلاً المشي ذهابًا، وجيئة بعد انتهاء صلاة العشاء، قاطعًا مسافة تُقدّر بحوالي ٥٠ كيلو مترًا، ولعل هذا يفسّر العمر المديد الذي عاشه وهو بكامل قواه، حتى تجاوز المائة عام، فقد كان محافظًا لا يأكل إلّا بحساب ويتجنب أهل الطب والمستشفيات شغوفًا بالأعشاب، مؤمنًا بأهمية الطب النبوي وفعاليته في علاج الأمراض، ناصحاً زوّاره أن المعدة بيت الداء وأن ابن آدم ما ملأ وعاء شرّ من بطنه..
أقلّب الآن صفحات كتاب خواطر من ذكرياتي بإشراف ابنه البار «فؤاد» بدوافع البر والوفاء، وأخلص فيه إخلاص من يرجو المثوبة وجزيل العطاء، وأكاد أحس بمعاناته في إعداد مادته وتجميع تاريخ والده ولكن ما عساه يضيف إلى من هو معروف ومشهور، وماذا سيقدم من جديد عن رجل كان ملء السمع والبصر، وخلدت ذكراه اليوم في كل حرف خطّه بيمينه، ولوحة ناطقة بجمال رسمه وبديع فنه، ولكن عزم الابن أخرج لنا كتابًا حريٌّ بأن يقتنى، وجدير بأن يقرأ ويطالع في مقام الإحسان والتقريظ..
اقرأ في سطوره جهود والده في مجال توسيع دائرة فن الخط العربي، حين كانت تُوزّع في المدارس كراريس بخطي الرقعة والنسخ على حوافها آيات من القرآن الكريم مكتوبة بخطه،
لقب بخطّاط وزارة المعارف آنذاك، وكانت مادة الخط تُدرّس للطلبة في مراحلهم المختلفة مما حسّن خطوطهم والتي لا تشبه خطوط جيل اليوم، كما أنه كان رجل تعليم من الطراز الأول، له العديد من التلاميذ الذين يذكرونه بالخير. يقول (رحمه الله): «عاصرت جميع مراحل التعليم في الماضي والحاضر ولم أغادر حقل التعليم طوال حياتي ولذلك فإنّ طلابي هم كثيرون، فمنهم الأمراء والوزراء والأطباء والمهندسون والقُضاة والأُدباء والكُتّاب والفنّانون وأصحاب الأعمال الحرة. والجميع يؤدون أعمالهم بأمانة وإخلاص ويخدمون الأفراد والوطن وجميع مرافق الحياة».
كما أن له بعض الكتابات خطّت بخط عربي جميل ومنمّق على جدران وأعمدة الحرم المكّي الشريف، كما كان يخط شهادات التخرّج للمراحل الدراسية المختلفة، وما زلت احتفظ ببعضها شاهدة على إبداع هذا الإنسان.
عاصر نشوء الدولة السعودية، وأثبت كفاءة وإخلاصًا في خدمة مهنته الشريفة حتى أنّه اُختير من المقام السامي خبيرًا عامًا لمكافحة التزوير، ومضاهاة الخطوط أوّل من أسّس أول مدرسة لتحسين الخطوط في أحد أروقة الحرم المكّي الشريف عند باب الصفا، وكانت حلقته المسماة مدرسة تحسين الخطوط الحلمية تشكّل مع بقية الحلقات العلمية والفكرية والدينية المنتشرة آنذاك في أروقة الحرم المكّي الشريف أوّل جامعة في الإسلام.
صفوة القول؛ إن الأستاذ محمد حلمي - رحمه الله - شخصية تربوية فذة، وهب وقته للعلم والتعليم لأكثر من نصف قرن من الزمن، بنى عقولاً، وساهم في تكوين الأجيال المستنيرة، تولّى إدارة المعهد العلمي السعودي وكان يفخر بهذه الفترة الثرية من حياته، يقول عنها: «هذا المعهد هو أوّل مؤسسة علمية ثانوية في المملكة لما بعد المرحلة الابتدائية وكانت به فصول ليلية لمن أراد أن يكمل تعليمه من موظفي الدولة، وعندما تم افتتاح فرع للقضاء الشرعي كنت أحد المدرّسين فيه».
شهدت فترته الكثير من التطورات أبرزها استيراده لأوّل إذاعة مدرسية من الخارج، وأنشأ أوّل معرض فنّي، عُرضت لوحاته الفنية من رسومات طلبة المعهد في معرض دمشق الدولي في العام 1373هـ.
أنشأ صندوقًا للتوفير باسم الطلبة، وافتتح مقصفًا مدرسيًا، واستورد لهم الأدوات المدرسية والدفاتر والكتب التي يحتاجونها.
لم يخلف ثروة تذكر، عاش موفورًا، ومات مستورًا راضيًاً قانعًاً برزقه وعيشه.. ويأتي كتاب «خواطر من ذكرياتي» مجسّدًا لسيرته العطرة الباقية بين الناس، لتبقى صلة ود تجسّر المسافات بين الأجيال، وتضع رموزنا حيث ينبغي من مقامات الرفعة والسمو، والذكر المستطاب، وليقدم الكتاب صورة من صور وفاء الابن لأبيه، وبره به بعد رحيله..