كتاب ومقالات

إرث الحرب التاريخي والإنساني

طلال صالح بنان

الحرب ليست غايةً في حد ذاتها. الحرُب تُشن من أجل خدمة هدف سياسي محدد. الحرب، أيضاً: سلوكٌ مستهجنٌ، في العلاقات بين الدول. لذا: نادراً ما تُقْدِمُ الدول على إعلان الحرب، وتنكر بدأها بها، باللجوء لمصطلحات أقل وقعاً من الناحية السياسية والأخلاقية، لتبرير استخدامها للقوة، كالقول: بأن الحرب اضطرت لها اضطراراً دفاعاً عن النفس.. أو لدفع عدوان وشيك وناجز عنها.. أو لتحرير أراضٍ احتلت بالقوة.. أو من أجل قضية أخلاقية وحضارية ونشر دعوة دينية مقدسة أو قيمة أخلاقية رفيعة... وكثيراً ما تتمسح الدول بنقيض الحرب نفسها، فتدعي: أنها أُجبرت على الحرب انتصاراً للسلام.

في كل الأحوال: الحربُ خيارٌ صعبٌ، ومن النادر ضمان كسبها بحسمها.. ومن المستحيل التحكّم في مسارها والعودة عن قرارها، بعد إشعال فتيلها، فهذا السلوك، معناه: أن الطرف الذي أقدم على الحرب، قد خسر رهانها عند إطلاقه الرصاصة الأولى.

لكن الحرب، تظلُ تُشَنُّ رغم كل مخاطرها.. وتكلفتها العالية.. وعدم توفر الثقة في جدواها، وعدم قدرة المتحاربين على التحكم في حركتها. فالحربُ، ذات علاقة فطرية بسلوك البشر أنفسهم.. وأن إغراءها لا يُقاوم من قِبَل الساسة، وهي، في كثير من الأحيان، تعكس الجانب اللا عقلاني في شخصية الإنسان، متغلبةً على فضيلة الحكمة والتبصّر. ثم إن إغراء الحرب، أحياناً، يعكسُ انتشاء شخصياً ومجتمعياً، يصيب الساسة والشعوب، إذا ما وصل غرور القوة عندهم حداً يستحيل معه مقاومة الحرب وتجربة خوض غمارها.

الحربُ في أوكرانيا، في حقيقة الأمر، نموذج «كلاسيكي» لتاريخية الحرب وإرثها الإنساني. روسيا بدأت الحرب، بعيداً عن ذكر مسماها الحقيقي، بالقول: إنها عملية عسكرية خاصة. في تقدير من اتخذ قرارها (الخاطئ حسابياً) أنها لن تطول طويلاً.. وأنها جديرة بتحقيق الهدف السياسي منها، بما يفوق تقديره تكلفة تجربة رهان خوضها.

لقد بلغ سوءُ تقدير الروس لخيار الحرب اعتقادهم أن كسبها في المتناول، اعتماداً على وضع ميزان القوى (الكمي) مع أوكرانيا.. وأن أحداً لن يأتي لنجدة كييف، لمنعة وضخامة ترسانة ردع موسكو النووي.. وأن الروس، في النهاية، يلعبون ضمن حماهم الأمني الإقليمي والدولي، فهي إذن، من وجهة نظر موسكو: حربٌ عادلةٌ أخلاقياً.. ومبررةٌ عقلاً.. ومنيعةٌ سياسياً، ومؤيدةٌ شعبياً.. وليست هناك قوة على الأرض تستطيع المجازفة بتحمّل تكلفة المواجهة مع روسيا.. وفي النهاية: روسيا قادرةٌ على تحمّل تبعات الحرب السياسية والاقتصادية والأخلاقية، ويستحيل أن تصل الأمورُ لدرجة المواجهة المباشرةِ مع الغرب.

لكن الروس فوجئوا برد فعل الغرب العنيف في عمقه الحذر في سلوكه، الذي أجبرهم على إعادة حساباتهم، مع فقدان سيطرتهم على التحكم في إدارة الحرب، التي اكتسبت حركة ذاتية، أخرجت قادة الكرملين السياسيين والعسكريين من قدرتهم على التحكم فيها ووقفها، دعك عن الانتصار فيها. من أهم تبعات الحرب الاستراتيجية أن روسيا أضرت بهيبتها، كقوة عظمى.. وخرجت من مضمار المنافسة الكونية، بل حتى تعريض أمنها القومي (الوجودي) نفسه للخطر، وذلك باعتراف قادة الكرملين.

روسيا، التي كان الغرب يخشى عقب الحرب الكونية الثانية، اجتياحها أوروبا، كما فعلت مع ألمانيا وشرق أوروبا، كشفت عن ضعف قوتها البشرية، مقارنة بمساحتها الشاسعة وبمواردها الطبيعية الضخمة.. وعن تخلّف تكنولوجيا صناعتها الحربية التقليدية وتكتيكاتها، وهامشية رادعها النووي. روسيا نسيت أن انتصارها على هتلر كان، أساساً، سببه مدها بالسلاح الغربي. روسيا اليوم تلجأ للمرتزقة وعتاة المجرمين في السجون والأقليات المستضعفة، لإدارة معاركها داخل أوكرانيا.. وتلجأ إلى دول من العالم الثالث لتزويدها بالسلاح.. وتضطر للتحالف الإستراتيجي مع عدوها التاريخي الإستراتيجي اللدود (الصين)، وتعاني من ضائقة اقتصادية وعزلة سياسية، قد تعيدها لتجربة روسيا القيصرية، بداية القرن العشرين.

دخلت روسيا الحرب على أوكرانيا بإرادتها، وهي إلى الآن لا تستطيع الخروج منها من نفس الباب الذي دخلت منه إليها. روسيا ستدفع ثمناً باهظاً لقرارها شن الحرب على أوكرانيا، قد يفوق ذلك الذي دفعته مع اليابان بداية القرن الماضي، وذلك الذي دفعته في الحرب العالمية الأولى. روسيا، بل والعالم، لن يعودوا لما كانت الأمور عليها قبل الحرب.