كتاب ومقالات

حل الشرطة النووية !

محمد مفتي

في خطوة تكتيكية تهدف لاحتواء المظاهرات التي اندلعت في إيران منذ شهور، قامت السلطات الإيرانية بحل ما يطلق عليه شرطة الأخلاق، وبدون توضيح عما إذا كانت هذه الخطوة مؤقتة أم دائمة، أعلنت الحكومة الإيرانية حل هذا الجهاز الذي تم تأسيسه في عهد الرئيس الأسبق أحمدي نجاد بدعوى نشر الأخلاق الحميدة، غير أنه في الحقيقة كان أحد الأذرع المتعنتة للحكومة الإيرانية التي هدفت من خلالها لتضييق الحريات على الجميع، وبسط سيطرتها على المواطنين وسلب كرامتهم باستخدام ذرائع أخلاقية، وهو ما أدى في نهاية الأمر لمقتل مهسا أميني التي مثّل مقتلها الشرارة التي انطلقت بسببها مظاهرات إيران.

من الواضح تماماً أن حل الجهاز كان خطوة متأخرة لاحتواء الغضب الشعبي وليس لتصحيح الخطأ، وهو ليس أكثر من محاولة يائسة لتهدئة المواطن الإيراني الذي تساوت أمامه فرص الموت والحياة، ولو كان النظام الإيراني صادقاً في رغبته في تهدئة المواطنين وحل مشكلاتهم بشكل جاد وجوهري، لسارع بتفكيك جهاز شرطة الأخلاق فور وفاة الضحية الشابة ولم ينتظر كل هذا الوقت حتى يقوم بتلك الخطوة، غير أنه من الواضح أن النظام الإيراني استنفد كافة الطرق المشروعة وغير المشروعة لاحتواء الغضب الشعبي العارم، ولمَّا لمْ يجد بُداً قام بتلك المهادنة المؤقتة التي تتظاهر بالخضوع والإذعان لمطالب الشعب، وقد قرر إعلان تلك الخطوة أملاً منه في أن تعود الحياة لطبيعتها مرة أخرى قبل أن ينفلت الزمام منه إلى الأبد.

غير أن هذه الخطوة التي اتخذتها الحكومة الإيرانية تدل على العديد من الدلالات، غير أن الدلالة الأهم من بينها جميعاً هي أن النظام الإيراني لا يجيد فهم -أو لا يريد أن يفهم- الواقع أبداً، فالموقف الشعبي المحتدم الآن في إيران لم ينفجر بسبب مقتل مهسا أميني فحسب، بل انفجر نتيجة تراكمات عديدة لمواقف شتى على مدار فترات زمنية طويلة، فكان أشبه بانفجار بركان تضافرت عوامل عدة في تفجر أعماقه، مخلفة هزات شعبية عنيفة هادرة، ولا شك أن خطوة متواضعة ضعيفة التأثير كحل شرطة الأخلاق لن يكون بإمكانها امتصاص كافة موجات الغضب والنقمة العارمة التي اجتاحت الشارع الإيراني، فهذه الخطوة أشبه بقطرة ماء لا تروي عطشاً ولا تسقي زرعاً.

من المؤكد أن الشعب الإيراني استفاق أخيراً على واقع مؤلم لم يعد بإمكانه التعامل معه مرة أخرى، استفاق على حكومة لا تقيم له وزناً ولا تفكر أدنى تفكير في مصلحته ومصلحة أبنائه، تغرقه في الفقر والجهل والمرض بسبب طموحاتها الخرقاء وأطماعها الرعناء، تستبدل الخبز بالشعارات الكاذبة والصحة بالوعود المعسولة، تدعي أنها تحارب عدواً خارجياً بينما ترتكب في حق شعبها ما لا يجرؤ العدو نفسه على فعله به، لقد استفاق المواطن الإيراني على كمٍّ كبيرٍ من الأكاذيب والأوهام التي يرددها رئيس يليه رئيس بأن النظام الإيراني هو خط الدفاع الأول عنه أمام أعدائه، ليكتشف أن جيله والأجيال التي تسبقه دفعت جميعها ثمناً باهظاً لتلك الترهات والأساطير التي طالما حاولوا إيهامه بها، ويكتشف أنه بحاجة لغذاء ودواء وكساء، لا إلى سلاح نووي ومحطات نووية ترهب العالم وتجعله كارهاً لإيران وشعبها.

من المؤكد أن الشعب الإيراني لم يختر أن يكون مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين، لم يختر أن يكون شوكة في خاصرة المنطقة العربية، لم يختر أن يصبح عدواً لجيرانه من الشعوب المسلمة مثله، لم يختر أن تتخوف منه شعوب العالم كون حكومته رمزاً للإرهاب والقلق، فالشعب الإيراني لم يختر نظام حكمه حتى يكون مسؤولاً عن تصرفاته، أما نظام حكمه فقد اختار بكامل إرادته أن يصبح مصدر تهديد دائم ومستمر للعالم برمته، اختار أن يسير قدماً في مشروع يهدد أمن المنطقة برمتها، اختار أن يستمر في مشروعه النووي التدميري غير مبالٍ بكافة النتائج والعواقب التي ترتبت على خياراته تلك.

وفي خضم كل الفوضى التي تعم الشارع الإيراني وتضرب في جنباته، يستمر النظام الإيراني في تحدياته الرعناء للمجتمع الدولي، ويعلن عن شروعه في بناء محطة نووية جديدة، وبدلاً من أن يهتم النظام الحاكم بإعادة ترتيب أوراقه الداخلية، نجده مصراً على المضي قدمًا في مشروعاته النووية وكأن تلك المحطات النووية ستوفر للشعب الغذاء والكساء والسكن، فما أهمية تلك المشروعات التي تلتهم جل الميزانية الإيرانية؟ وهل أحلام التوسع والسيطرة ستطعم الشعب وتلبي له احتياجاته الأساسية؟ أم أن هذه المشروعات في حقيقتها تستهدف تحقيق أهداف النظام الطامح للسيطرة وتهديد القوى الإقليمية والدولية العظمى لتحقيق أجندة توسعية غير مشروعة؟

لا شك في أن النظام الإيراني يدرك جيداً أن احتواء الاضطرابات الشعبية يبدأ من حل مشكلات المواطن نفسه، يبدأ من اهتمام الحكومة بتلبية متطلبات حياته اليومية والمعيشية الأساسية، والالتفات لاحتياجاته والسعي الجاد لتوفيرها بدلاً من اللهاث لتحقيق هدف امتلاك قنبلة نووية، تقض مضجع العالم وتزيد من توتراته واضطراباته، ومن المؤكد أن الاستماع لهموم المواطن والسعي لتلبية احتياجاته لن يحدث إلا بتوقف إيران عن إكمال مشروعها النووي بالكامل والبدء في عملية الإصلاح من الداخل، فحل شرطة الأخلاق لن يؤتي ثماره بمفرده ما لم تتوازَ معه مجموعة من القرارات الحاسمة التي تصب جميعها في صالح المواطن الإيراني البسيط، والتي تتعلق بتحسين أحواله المعيشية وتلبية احتياجاته الأساسية، وهو ما لن يحدث إلا عندما يتوقف النظام عن إكمال مشروعه النووي وحل منظومته بالكامل على غرار ما فعله بشرطة الأخلاق.