كتاب ومقالات

الوجه الآخر للجريمة

محمد مفتي

لا يخلو أي مجتمع في أي دولة من الجريمة، وهو ما يحدث من بداية التاريخ البشري، فالجريمة مرتبطة غالباً بالنفس غير السوية التي تشذ عن المجتمع وتقاليده، والمملكة كأي مجتمع ليست بمنأى عن الخارجين عن القانون، لكن القبضة الأمنية الحازمة للقيادة السعودية ساهمت بشكل كبير في الحد من نسبة الجريمة، وهو ما يتمثل في سرعة القبض على الجناة وتقديمهم للعدالة، ومن ثم توقيع العقوبة الملائمة للأفراد المنخرطين فيها، التي قد تصل إلى حد القصاص.

الصراعات بين البشر ضرورة حتمية لا بد منها، ويقع على عاتق الأسرة والمؤسسات التعليمية والتوعوية والإعلامية دور كبير في تهذيبها والحد منها، وهو ما يمكننا اعتباره الجانب الوقائي الذي من شأنه الحد من حدوث المشكلات التي قد تتحول لجرائم في مرحلة تالية، غير أن التعويل على هذا الجانب وحده لا يكفي، فالنفس البشرية أمّارة بالسوء، وبعض المجرمين يعتقد أنه سينجو بفعلته وينسى أن يد العدالة لا تزال قائمة وصارمة.

حتى خلال أزهى العصور الحضارية والأزمنة الذهبية لكافة الحضارات لم تخل المجتمعات وقتها من الجرائم على شدة تفاوتاتها، وحدوث الجرائم مهما بلغ ازدهار الدولة هو إحدى الحقائق الكونية التي لا شك فيها، كما أنه يعكس فهماً حقيقياً لطبيعة الوجود البشري وحقيقة صراعاته، والاعتقاد بأن قوة المجتمعات ونظمها الحاكمة تعني خلو المجتمع من الجريمة هو تقدير سطحي يدل على انخفاض في مدى الإدراك والوعي، فقوة انضباط أي مجتمع تقاس بالعديد من المعايير المختلفة، لعل أهمها قوة نظمه القضائية وعدالة إجراءاته القانونية، وسرعة تنفيذ الأحكام الصادرة، وكل هذا يؤدي تباعاً إلى انخفاض معدلات الجريمة.

يحلو للمنتقدين المتصيدين في الماء العكر دوماً تصوير أي حدث فردي في المملكة على أنه ظاهرة ضاربة في المجتمع، كما نجدهم يسارعون بتوجيه التهم للدولة من خلال إيجاد تهم جاهزة، ولا شك أنهم يقومون بالإساءة للمجتمع ذاته من خلال تعميم الأحداث الشاذة وتصويرها على أنها متكررة الحدوث، فنجدهم وقد بدأوا في الترويج لأي حادث ونشره عبر جميع وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف مع إرفاقه بالعديد من الصور -ومنها المفبركة- ليصل لأكبر قدر ممكن من المتابعين، وإرفاقه أيضاً بالكثير من التعليقات التي تحتوي على تحريض مباشر بهدف الإثارة وتأليب المواطنين واستثارة غضبهم وحنقهم، مصورين تلك الجرائم الدخيلة على أنها باتت سلوكاً شائعاً ينبئ بوجود خلل ومشكلات في بنية المجتمع نفسه.

في واقع الأمر هؤلاء المرجفون والمدلسون يعرفون حق المعرفة أن نسبة الجرائم بالمملكة لا يمكن اعتبارها بالخطيرة أو المهددة لأمن المجتمع، بل إن الكثيرين منهم يعلمون تماماً أن المملكة تعتبر بكل المقاييس الرسمية وغير الرسمية دولة تتمتع بالاستقرار والهدوء، كما أنهم يعلمون أنهم يلوون عنق الحقائق بتحويلهم الحوادث الفردية لظواهر شائعة وقلبهم لكافة الحقائق ليتمكنوا من إدانة الدولة، وتحميلها عبء كل حادث يقوم به مجرم أو مستهتر، وعلى الرغم من معرفتهم التامة بكل هذا إلا أنهم يصرّون على القيام بهذا الدور الخبيث لزرع الفتن وتفكيك الصفوف المتماسكة، وتفتيت اللحمة القوية التي تربط بين أبناء المجتمع بعضهم البعض وبينهم وبين القيادة.

ولكن على الجانب الآخر (وهو ما يجب أن يدركه كل مواطن غيور على بلده وأسرته) فإن مثل هذه الحوادث وغيرها على الرغم من سوئها البالغ ووجهها المظلم، إلا أنها تعطي لمحة عابرة وسريعة عما يمكن أن يحدث في حالة حدوث انفلات أمني حقيقي لا قدر الله، وهذا الوجه الكالح ليس بالبعيد عن أراضينا ولا هو بالخيال الذي يصعب تصوره، بل هو -للأسف- واقع قريب، فبنظرة سريعة لما حولنا نجد العديد من الدول تعاني هذه الحالة المزرية من الانفلات الأمني الذي تباح فيه الأرواح والدماء وتستباح الممتلكات والخصوصيات، وهو ما يُدخل تلك الدول في حالة شغور سياسي وفراغ أمني تعتلي فيه المليشيات الأجيرة والمرتزقة سدة الحكم، وتعيث فساداً في كل مكان مدمرة الأخضر واليابس، ومما لا جدال فيه أن تلك الدول دخلت مرحلة اللاعودة، وستحتاج إلى عقود طويلة من الزمن لتعود إلى حالة الاستقرار مرة أخرى، وخلال هذه العقود ينشط تجار الحرب في استثمار الكوارث، ممن يهمهم أن تظل النار موقدة في كل بيت وزاوية، في كل مدينة وقرية، حتى يزيد الغني غنى والفقير فقراً بعد أن يموت مئات الآلاف من الأبرياء بعد أن تُهدم منازلهم فوق رؤوسهم.

هذه الدول التي انتشرت فيها الحروب الأهلية باتت مسرحاً للتدخل الخارجي الذي لا يرجى منه أمل، وما إن ينفرط عقد دولة ما حتى تصبح شراذم مهلهلة، وبصفة شخصية لا أراهن على توبة هؤلاء المدلسين ولا على توقفهم عن سرد ترهاتهم الهادفة لخلخلة دعائم المجتمع، بل أراهن بثقة على شعب المملكة الذي أثبت في كل وقت أنه على قدر المسؤولية في مواجهة أعدائه من الداخل والخارج، فالشعب السعودي بطبيعته شعب ناضج وواعٍ، يعرف جيداً تبعات الانفلات الأمني ونتائج التصارع الداخلي؛ لذلك فهو لن يسمح لأي مدلس أو جاهل بنشر الأفكار الكاذبة أو وجهات النظر المحرضة والمغرضة، وسيحارب تلك الجهود الخبيثة مع قيادته بوعي وإصرار ليحافظ على بلده آمناً مستقراً.