كتاب ومقالات

وطن للبيع !

محمد مفتي

كثرت مؤخراً منابر النقد الموجه؛ سواء للشخصيات العامة أو المسؤولين أو الدول، تحت ستار الإصلاح والصحوة وغيرها من الشعارات، إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه المنابر تجارة تباع للدول والمنظمات المعادية والعبرة بمن يدفع أكثر، ومع التغيرات التي خلفتها فوضى ما يسمى بالربيع العربي لمنطقة الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، اتجهت بعض الدول للاستثمار في تلك المنابر؛ سواء كانت قنوات تليفزيونية أو وسائل تواصل اجتماعي مثل منصات تويتر والفيس بوك وإنستغرام وغيرها، ومع كل حملة إصلاح ناجحة وتحقيق إنجاز تقوم به المملكة تتعالى أصوات النقد لتشويه الحقائق والإساءة لكل إنجاز من خلال إظهار الجانب السلبي فقط وتضخيمه لإفساد العلاقة بين المواطن وحكومته.

من الصعوبة بمكان التصديق أو حتى تخيُّل أن تقوم بعض القنوات الفضائية باستضافة شخصيات مشبوهة على فترات متقاربة دون أن تقدم لهم مقابلاً مالياً، وتلك القنوات -بل وأغلب القنوات التليفزيونية- تجارية بحتة، وتكاليف تشغيلها عالية جداً وتحتاج باستمرار إلى الدعم المادي لتحتفظ بمكانتها في عالم الفضاء الإعلامي، والكثير من تلك القنوات الرخيصة ترى أن أقصر الطرق للتربح السريع هو الابتزاز، وفي المقابل فإن هناك الكثير من الدول المعادية ترى أن الحرب الإعلامية لا تقل أهميةً عن الحرب العسكرية، لذلك تستخدم تلك القنوات كأذرع لها، كما تؤمن أن الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي لا ضير في أن تستعين تلك الدول بتلك الفضائيات، والتي -بدورها- تجد أنه لا غضاضة في أن تخصص جزءاً من برامجها لبث تلك السموم مقابل حصولها على عائد مادي مجزٍ.

من المؤكد أن الشخصيات المشبوهة -المستضافة في تلك القنوات- لا مكان لها داخل حدود أي وطن، فهم شخصيات منبوذة مرفوضة من الجميع قيادة وشعباً، فهذه الفئة تتاجر بوطنها تحت ستار الإصلاح، لذلك فهي سرعان ما تتخذ من بعض الدول الغربية مقراً لها، وهي على استعداد لتقبل أي منحة مالية من أي جهة معادية لأوطانهم لتستمر منابرها في نشر الفساد والتحريض والتدليس، ولدى هؤلاء القدرة على تبديل آرائهم ومعتقداتهم بل وقيمهم مع كل مستجد يطرح على الساحة، والمتتبع لأطروحاتهم يجد تناقضاً كبيراً بين ما يطالبون به اليوم ثم ينتقدونه غداً.

قد يتعجب البعض من قدرة هؤلاء المعارضين على المعيشة بالخارج وتصويب سهام نقدهم للداخل بهذه الشجاعة، فيظن أن وجودهم بالخارج هو دليل على قوة حجتهم وصحة مطالبهم، وإلا ما قامت بعض الدول الغربية باستضافتهم وتقديم كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي لهم، ولكن دعونا ندقق بعض الشيء في مدى صحة هذه الفكرة التي تسيطر على أذهان البعض، ولا سيما المغرر بهم ممن لا يجيدون قراءة التاريخ جيداً.

بداية هناك عدد من الأسئلة التي ينبغي طرحها على كل من يعتقد أن كل هارب اتخذ من بعض الدول الغربية منصة للتهجم على بلده وعلى منجزاتها شخصٌ إصلاحيٌ يستحق الدعم، لعل أولها هو: هل يعقل أن تقوم تلك الدول التي آوتهم بفتح منافذها البرية والجوية لكل من ادعى أنه لاجئ مطلوب من دولته الأم، وهل يتم التعامل مع هؤلاء المعارضين على أنهم معارضون بالفعل؟ هل يُسمح لهؤلاء المعارضين بالتعبير عما يجول بخاطرهم وقتما وأينما وكلما رغبوا في ذلك، أم أن هناك مخططاً محدداً سلفاً ينظم كل كلمة يتفوهون بها، خاصة أن بعض الدول الغربية التي يعيشون فيها تعج بالكثير من أنواع الفساد الخلقي ومع ذلك نجدهم يغضون البصر عنها تماماً.

من المؤكد أن هؤلاء المعارضين يتم انتقاؤهم بعناية، ممن يمكنهم أن يفيدوا أجهزة استخبارات تلك الدول الغربية المضيفة، فهؤلاء المعارضون مستقطبون وربما من قبل أن يغادروا أوطانهم، فأمرهم قد قضي في ليل، وبمجرد أن تطأ أقدامهم تراب تلك الدول يستقبلهم أشخاص بعينهم من ذوي المراكز الاستخباراتية الحساسة، ويقومون بإجراء تحقيقات مفصلة مطولة معهم للغاية، يعرفون من خلالها أدق أدق التفاصيل وأكثرها حساسية وفائدة لهم وإضراراً للدولة التي قدم منها هؤلاء، ولا شك أن تلك التفاصيل تتضمن أسئلة عن نشأتهم وأعمالهم وأسرهم وثرواتهم والجهات الأخرى التي تدعمهم بالداخل، والأطراف الإقليمية التي تساندهم بالخارج.

من الواضح أن هذه الاستجوابات المفصلة تبحث في الأساس عن جميع الأسرار الخفية غير المعروفة التي يمكن أن تفيد أجهزة الاستخبارات الغربية لتستخدمها في وقت لاحق ضد دول هؤلاء الهاربين، وقبل أن تمنحهم تلك الدول الغربية اللجوء يظلون داخل الدولة المضيفة لوقت لا يعلمه سوى المضيفين أنفسهم، حيث يتعين على اللاجئين التعهد بأن يظلوا على اتصال دائم ووثيق ببعض ممثلي أجهزة استخبارات هذه الدول لكي يقوموا بإمدادهم بكل ما هو جديد، كما عليهم أن يتعهدوا بأن يستمروا في تقديم معلومات نافعة ومفيدة لهم حتى يضمنوا بقاءهم، وبمعنى أدق عليهم التعهد بما يفيد خيانتهم لأوطانهم، وإلا فسيتم لفظهم وطردهم إلى أن يجدوا من يقبل بهم ويوافق على استضافتهم بشروط جديدة أكثر قسوة.

لعله من السذاجة البالغة أن يتصور البعض أن هؤلاء الهاربين من رافعي راية الإصلاح مناضلون بحق، استبعدتهم أوطانهم لأنهم يحملون أجندة إصلاحية، ولما لم يجدوا آذاناً صاغية لهم داخل وطنهم قرروا الهجرة لأرض الله الواسعة، فاستضافتهم بعض الدول الغربية التي تزعم أنها تحمل لواء الحرية والديمقراطية لتقدم لهم كافة أنواع الدعم والمساندة التي يحتاجونها دون أي مقابل، فمن المؤكد أن معتنقي هذا التصور لا يعلمون ما تحيكه الدول الغربية لأوطانهم، وليس لديهم علم بجهودهم الهادفة للسيطرة والهيمنة على الدول الأخرى طمعاً في خيراتها ورغبة في الاستحواذ على مواردها، وهذه الدول لا تجد طُعماً أسهل وأرخص من هؤلاء اللاجئين لتبتزهم ثم تلفظهم وترمي بهم في مزبلة التاريخ ليعيشوا منفيين خونة، فهم من جحدوا فضل أوطانهم وباعوها بأرخص الأثمان وعرّضوا أمن وحياة شعوبها للخطر دون أن يطرف لهم جفن.