ثقافة وفن

مستورة العرابي: شعر المرأة لم يكن أداة للنضال

قالت إنه شيء نعرفه ولا نستطيع تعريفه

مستورة العرابي

حاورها: يزن نايف yazenjh@

شاعرةٌ تلبسها الجمال حتى تفرد وتميز بها، وغاب عن شاعريتها العادي والمكرر حتى أصبحت شاعرة بهية الحضور في المشهد الشعري السعودي. وردة الطائف التي لا تذبل، وشاعرتها التي لطالما تغزلت في جبالها ووردها وتاريخها المتوهج بالأدب والشعر، حتى أُطلق بفضلها وفضل شعراء الطائف على مدينتهم الجميلة لقب «عاصمة الشعر العربي».

مستورة العرابي شاعرةٌ من شاعرات الوطن وأكاديمية وناقدة معروفة صالت وجالت في ميادين الأدب والشعر.. «عكاظ» تحاورها وتكشف في إجاباتها واقع الأدب السعودي عامة والشعر خاصة من خلال رؤيتها المتفردة.. فإلى نص الحوار:

• ما الرسالة التي تحملها الدكتورة مستورة العرابي كشاعرة وناقدة لمبدعي هذا العصر سواء الشباب أو الكبار؟

•• الثقافة بشكل عام نافذة من نوافذ التربية المجتمعية والتنشئة الاجتماعية والفنية؛ لأنّها تعني في أيسر مفاهيمها: السلوك، فمن دونها نكون مجتمعاً فوضويّاً لا قيم لديه ولا مبادئ ولا فنون، لذلك أرى أن على المبدعين كافة، من شعراء ونقّاد وغيرهم أن يكونوا على قدر هذه المسؤولية الأخلاقية والجمالية؛ فهم قادة الثقافة، وصنّاع الرأي العام الواعي، ورعاة الفن والجمال. هكذا أنظر إلى الشعر والنقد كرسالة تنويرية جمالية أهتم بها وأعمل على تفعيلها عبر ما أكتبه أو أقدّمه.

وأعتقد أن الرسالة التي أحملها -شأني شأن كل الشعراء والنقاد- هي الإخلاص للذات المبدعة التي يحملها كل واحد منا بين جنباته، من أجل عطف القلوب والعقول على القيم الجمالية والأخلاقية وبث روح التفكير والسعي المستمر نحو المختلف، والإضافة، وأن يقدم كل مبدع نموذجه الخاص، ويسعى ليحقق الفرادة والتميّز. وهي رسالة كل مثقف يمتلك رؤية ومشروعاً يسهم به في خدمة الفعل الثقافي في وطنه.

• ما الشيء الذي يرتبط به الشعر ارتباطاً وثيقاً في زمننا الحالي، وفي قصائد شعراء هذا العصر؟

•• درجة الوعي بماهية الشعر ووظيفته في صناعة حياة ثقافية جمالية آمنة هو الذي يتحكّم بتوجهات (الشعراء والنقّاد) وميولهم؛ لذلك تجد من المبدعين من يكتب الأدب الذاتي ولا يخرج عن إطاره، ونقلاً حرفياً لا يتجاوز الذكريات والهموم الذاتية، ومنهم من يجعل من هذه المواقف والتجارب جسراً يعبر من خلاله إلى معاناة الآخر، أو يصوّر لهم منافذ للخلاص بحكم الإفادة من تجاربه الذاتية. وهكذا هي آثار الأعمال الأدبية الخالدة التي كانت تتجاوز الخاص إلى العام والذاتي إلى الكوني.

الشعر اليوم يغيّر من لبوسه مع كل نص هو لا يخضع لنموذج سابق، ويأنف الشعراء أن يكتبوا على مثال سابق، لأن الزمن الحالي فرض على الشعراء أن يرتبطوا بالراهن، وأن ينتبهوا إلى الموضوعات التي كانت سابقاً هامشية، وتستهويهم التفاصيل، ولا يرتهنوا إلى المعاني التامة بل هم في سعي دؤوب لاكتشاف معانٍ جديدة، ومضامين أخرى، تفرضها الرؤية الشعرية ذاتها التي تغيرت بحكم ما طرأ على واقعنا من تغيرات سوسيوثقافية، وما تفرضه التكنولوجيا اليوم من تواصل مختلف، أصبحت فيه الرؤية الشعرية منفتحة على كل الآفاق، لذلك يختلف الشعراء وتتعدد طرائقهم في الإبداع وفي توليد الصور وابتداع لغة جديدة، وتشكيلات مختلفة.

• ما رأيك في تحويل الثقافة إلى سلعة؟ هل هذا يقلل من قيمتها أم يرفعها؟

•• إذا آمنّا بوظيفة الثقافة وما يمكن أن تقدّمه من خدمة لبناء حياة آمنة، مليئة بالسلام والتعايش وكلّ ما ينثّ فرحاً في حياة الآخرين، بغض النظر عن الكيفية التي نصف فيها الثقافة، فالمدار بالأثر لا بالوصف. وفي ما يتعلق بقضية تسليع الثقافة، فهناك موقفان منها قد يبدوان متعارضين أحياناً؛ موقف يدعو إلى التعاطي مع الثقافة بوصفها منتجاً مثل أي منتج آخر يخضع لسوق العرض والطلب وينبغي الاستثمار فيه من هذا المنطلق، وهناك فريق يعارض هذا التوجه من منطلق أن تسليع الثقافة يضعف الجوانب الأدبية والإبداعية في المنتجات الثقافية، وأنا أتبنى موقفاً وسطاً، فلا يمكن إلغاء الأهمية الاقتصادية للمنتجات الثقافية في دعم المبدعين أنفسهم وكذلك في دعم الاقتصاد الوطني بشكل عام، ولكن ينبغي أن يتم كل ذلك بطريقة تضمن الحفاظ على القيم الجمالية والفنية الرفيعة للثقافة بشتى أنواعها.

صحيح نحن نعيش في عصر الثقافة الاستهلاكية أو ما يسمى بعصر السيولة، الذي تلعب فيه السرعة على جعل الإبداع جزءاً من هذه الثقافة، غير أن المبدع الواعي ينبغي عليه أن يرتب قناعاته وفق ما يقتضيه مفهوم الإبداع في حياة الإنسان، ووظيفته في تقدير الذات والحفاظ على القيمة، والارتباط بالهوية وبالثقافة المنتجة، وليس بالاستهلاك السريع الذي تفرضه ثقافة العولمة؛ بل ينبغي أن يكون أداة لمقاومة المبتذل وأفول المعنى وتشويه اللغة.

• ما الفرق بين حالة الكتابة الشعرية الغنائية وحالة الكتابة الشعرية من خلال تجاربك وتجارب رواد القصيدة الغنائية؟

•• الموقف أو الحالة الشعورية هي التي تفرض على الشاعر سير نصّه، فهذا المحفز للكتابة هو الذي يجعل من القصيدة قصيدة ذهنية، أو غنائية، أو غير ذلك من الأنماط الشعرية، فالشاعر المتصنّع الذي يقتحم عالم القصيدة بلا محفّزات حقيقية هو مصمّم غير حقيقي لإثارة الإحساس، فلذلك يكون الموقف دائماً هو الصانعُ للحظةَ الشاعرة التي تؤثث الشعر، ومن ثم تصنع القناة الأولية للتأثير في المتلقي. فقد نرى أحياناً أن بعض القصائد هي مجرد حروف مسوّدة على الورق، وحين ينشدها كاتبها لا تجد في أفق انتظار المتلقي ما يرحّب بها ويتفاعل معها، فتحصل القطيعة بينهما ولا يتحقق التفاعل المرجو بين أقطاب التواصل الإبداعي الرئيسة: (المؤلف – النصّ – المتلقي)، على خلاف النصوص الشعرية التي تصنعها اللحظةُ الشاعرة؛ إذ تكون فيها الحروف التي يدونها الشاعر في ورقته عبارة عن معاناة حقيقية يدركها كلّ من يقع ناظره عليها ويتفاعل معها، فيستشعر ألمها ويبتسم لأملها، فتكون حين ينشدها شاعرُها موضعَ ترحابٍ ودهشة وجمال عند المتلقي.

والقصيدة الغنائية في ذاتها ليست نقيصة إذا كان الشاعر يمتلك من الأدوات اللغوية، ومن القدرة على ابتداع علاقات جديدة بين الكلمات من أجل إنتاج نص مؤثر، ولكن الإشكال حين توقع الغنائية الشاعر في الانطواء على الذات وتكرار المعاني ومعاودة الصور، ولكي يتجاوز الشاعر هذا الإشكال عليه أن ينفتح على التجريب، وألا يلزم نفسه بموضوعات بعينها تحصره في دائرة مغلقة، عليه أن يحترس من الوقوع في غنائية بكماء لا تقول الشيء الكثير، ويسلك التنوع والتعدد في الطرائق والأساليب التي يبني بها استعاراته لكي يحدث الدهشة التي لا تجعل المتلقي يتذكر قصيدة سابقة له، بل يقرؤه، كأنه لم يسمعه من قبل.

• هل ساهمت الجوائز والمسابقات الشعرية في الحركة الشعرية في المملكة؟ وهل تتفقين مع آراء بعض النقاد حول المسابقات أنها مسابقات تجارية وتعمل ضد الكتابة الشعرية؟

•• الجوائز والمسابقات صنيعة بشرية، تتبع نوايا وغايات المؤسسة البشرية التي أسست لها، فإن كانت النوايا والغايات مهنية، فستكون الإجراءات المتبعة في تنفيذها من لجان ومحكّمين وما يستتبعها من نشاطات، مهنية أيضاً، وتكون النتائج جيدة تفيد الثقافة والأدب على نحو عام، أمّا إذا كان ما سبق ذكره غير مهنيّ، فستكون الإجراءات غير مهنية، ومن ثم ستكون النتائج وخيمة على الثقافة والأدب. لذلك لا يمكن إعطاء حكم عام قطعي، سلباً كان أم إيجاباً، على هذه الجوائز، فالأمور نسبية في النهاية، ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأهمية هذه الجوائز في تحريك الساحة الثقافية والأدبية متى ما أُحسن منحها وتوظيفها.

• الشعرية الرقمية وجدل الرقمنة، هلّا حدثتِنا أكثر حول هذا الموضوع من خلال تجربة نادي مكة الأدبي بإقامة ملتقى الشعرية الرقمية؟

•• الرقمية لغة العصر المعيش والآتي، والحديث عن عدم جدواه هو ضرب من ضروب شتم الحقيقة، والشعرية الرقمية هي سؤال حتّمه علينا الواقع الإبداعي العالمي والعربي، بعدما بات النتاج الرقمي الأدبي حاضراً، ولا تضرّه قلّة النماذج العربية، فالقلّة دالّة على الوجود لا العدم، لذا جاءت مبادرة نادي مكّة الأدبي والثقافي خطوة في الزمان والمكان الصحيحين لجمع الكتّاب والمبدعين عالميّاً وعربيّاً ممّن يهتمّ بالرقمنة والإبداع الرقمي، وقد تهيأت لهم الظروف والإمكانات اللازمة لإقامة حوار بناء حول هذا الوليد الفتي: الشعرية الرقمية. وقد حقق هذا المؤتمر نجاحاً أشاد به كثير من المختصين والمهتمين بالإبداع الأدبي الرقمي.

• ما الشعر؟ وما الفرق بينه وبين الأجناس الأخرى في فلسفتك الخاصة؟

•• قال القدامى: «الشعر لمح تكفي إشارته»، وقال المحدثون «إنه تشكيل بالكلمات وليس بالأفكار»، ونظر إليه على أنه موقف من الحياة ورؤية مجازية للكون، وحدس، وغيرها من التعريفات التي لا تحصى، لذلك يصعب حد الشعر بتعريف واحد، وربما تكون من أفضل الإجابات على هذا السؤال هي أن الشعر هو الشعر! شيء نعرفه ولا نستطيع تعريفه، أو ربما نجلّه عن التعريف. ومع ذلك، فهو -من وجهة نظري- جماع مشاعر فاضت بها النفس وصهرتها اللغة بإيقاعات الحياة. الشعر موقف من الأحداث والظواهر ومن الحياة، ولذلك الشاعر لا يكتب الأحداث مثل الروائي، بل يعطي موقفه منها، ويصور لنا الأثر الذي يحدثه شيء ما أو موقف أو حدث أو فكرة في نفسه، هو إحساس باللغة بطريقة مختلفة، لذلك نجد الشاعر يتعامل بحساسية أكثر، لأنه مرتبط بلحظات معينة يبلغ فيها حدسه درجة قصوى فيكثفها في هيئة مجاز. وهو بعكس الرواية التي تقوم على رؤية مختلفة، هي الرؤية الجزئية ولذلك يهتم الروائي بالوصف والتفاصيل، ويسرد بطرق مختلفة، ويتنقل بين الأزمنة، وقد ينفتح على أشكال مختلفة، في حين أن الشاعر يتمركز ضمن رؤية كلية هي أقرب إلى رؤية الفيلسوف، لذلك ربط أرسطو قديماً بين الشعر والفلسفة.

• هل بنظرك يجب أن يتوقف الشعراء عن كتابة القصيدة العمودية؟ ولماذا؟

•• استمرار كتابة الشعر بشكل معين لا يقرره عادة الشاعر أو المؤسسة الثقافية، وإنما يقرره الذوق السائد في المجتمع، وهذا يعزى -عادة- إلى الذائقة الجماهيرية وإن كان للشعراء دور في تشكيل هذا الذوق العام بطبيعة الحال، وما دامت هناك ذائقة تستقبل نمطاً معيناً من الشعر، فإنّه سيستمر حتماً، وهذا يرتبط كذلك بعاملي التجديد الشعري ومواكبة التجارب الحياتية العصرية، فالشعر العمودي لا يمكن أن يُكتب في العصر الحاضر بالروح الجاهلية أو العباسية، بل لا بدّ أن يكون مكتوباً بروح العصر الذي يُكتب فيه، لذلك عمل كثير من الشعراء على تحديث الشعر العمودي، سواء على مستوى المضمون، وذلك من خلال تضمين قضايا العصر في روح القصيدة العمودية، أو على مستوى الشكل، وذلك باجتراح شكل العمود الومضة، والنصوص العمودية الفلاشية المكثفة؛ لمواكبة الإيقاع السريع للحياة المعاصرة.

وهذا يعني أن القصيدة العمودية ستظل قائمة كما ظلت منذ أن أعلن الشعر الحر الثورة عليها، ربما تراجعت في مرحلة معينة نتيجة حركة الحداثة والانتصار للجديد، ولكنها بقيت، وهناك -كما قلت- أساليب جديدة في تحديثها، وما دام هناك من يمارسها ويتذوقها، فإنها لا يمكن أن تنتهي، بل إن هناك مبررات جديدة تفرض وجودها بطريقة مختلفة اليوم، وهي تلك المسابقات التي تقام هنا وهناك، وتعرف فيه حضوراً مكثفاً، وتخضع لاشتراطات العصر الحاضر وإيقاع الحياة المعاصرة، ولذلك فالشعراء ليسوا معنيين بمن يقترح عليهم أن يكتبوا بهذه الطريقة أو تلك لأن الشعر هو الذي يختار عباءته، وأعتقد أن عباءة العمودي ستظل حتى إن تمّ تغيير لونها، بابتكار مجاز جديد ومواكبة لروح العصر، وإصرار على البقاء في إطار المختلف الذي تتعدد فيه الأشكال وتتلاقح فيه المعارف.

• في تجربتك في إدارة شرفة الشعر، وقربك من الشعراء الشباب.. ما أهم ما ينقص المبدع الشاب؟ وما أهم ما يميزه؟

•• شرفت بإدارة هذه الشرفة التي كانت أحد مناشط أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف، دعماً لرسالة المملكة 2030 في رعاية المواهب الشبابية وتنميتها، وخلق بيئة إبداعية شبابية فاعلة في المشهد السعودي، وقد حرصت هذه الشرفة على تقديم مجموعة متميزة من الشاعرات والشعراء السعوديين للساحة الأدبية من خلال المسابقات الشعرية التي أبرزها مسابقة الأمير عبدالله الفيصل للمواهب الشعرية، وكذلك إقامة الأمسيات الشعرية التي كانت تقيمها ويشارك فيها المواهب الشبابية من شتى مناطق المملكة، إضافة إلى الندوات النقدية التي كانت تقام مصاحبة لهذه الأمسيات أو منفصلة عنها خدمة لهذه النصوص، وذلك بنقدها وتقويمها، وكذلك بالإشادة بمستوياتها الشعرية العالية وتبنّيها وإبراز شعرائها، وفتح قنوات الحوار بين المبدعين الشباب والنقاد والشعراء الكبار للإفادة من مقترحاتهم وتجاربهم، لذلك فالشعراء الشباب هم في حاجة لمن يكتشف نتاجاتهم، ويقدم لهم الدعم والتشجيع المستمرين، وهم بحاجة إلى مؤسسات تأخذ بأيديهم، لأن تأطير الفعل الإبداعي يحفز المواهب ويدفعهم إلى التنافس والابتكار، ولعل إقامة مسابقات وندوات وورش للإبداع يعد من الاستراتيجيات الضرورية من أجل اندماجهم في الفعل الِثقافي بصفة عامة.

• كيف تقيمين مستوى النقد والنقاد في المملكة العربية السعودية؟ هل هو على ما يرام؟ أم أن هناك غياباً كبيراً للنقد في الأدب السعودي؟

•• لدينا حركة نقدية جيدة في المملكة العربية السعودية استطاعت أن تلفت الانتباه وأن تثري الساحة النقدية العربية حقيقة، ولدينا نقاد متميزون أيضاً في النقد الأدبي العام وفي نقد أجناس أدبية بعينها يشار إليهم بالبنان، ولكن هناك حقيقة بارزة يدركها ربما الجميع، وهي أن النقد رغم هذا الإنجاز الذي حققه يظل متأخراً نسبيّاً عن حركة الإبداع الأدبي التي نشهدها في المملكة في شتى الأنواع الأدبية، ولعل هذه المسافة الفاصلة بين حركة الإبداع والنقد تأخذ في التقلص والانحسار قريباً.

• هل أنتِ مع التفريق بين شعراء الفصحى والعامية؟ وشعراء القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنثر؟ هل الشعر واحد؟ أم يتغير مع اللغة المكتوبة وتركيبة النص؟

•• أنا بالطبع مع القصيدة العربية الفصيحة بحكم تجربتي الشعرية وعملي الأكاديمي في تدريس الشعر العربي الفصيح، ولكني أهتم -أيضاً- بالشعر الشعبي تحديداً وبالتراث الأدبي الشعبي بشكل عام، وأستمتع به وأتناوله في دراساتي النقدية أحياناً.

نحن في عصر الانفتاح وحرية الإبداع؛ أي أننا -شئنا أم أبينا- في عصر تتوارى فيه القوانين الصارمة وتزول الحدود بين الأجناس الأدبية، ونلاحظ عودة للمهمش، مما يستجيب لطبيعة الحياة المعاصرة وموجهات التكنولوجيات الجديدة وما تتيحه من إمكانات هائلة للإبداع والتفاعل، ومنطق الشعر لا يخضع لأشكال خارجية تفرض، بل إن كل شكل تخلقه الحالة والموقف والرؤية. وعلى الناقد كذلك ألا يحصر نفسه في نمط معين من الممارسات الشعرية وينتصر لهذا على حساب الآخر، لأنه هو كذلك يعيش في عصر التعدد والتنوع، وينبغي أن ترتبط رؤيته النقدية بالكلي الذي هو الإبداع وليس بالجزئي أو التجليات الشكلية. فالشعر واحد وتجلياته مختلفة ومتعددة؛ لأن الشعر يوجد في كل شيء، والنقد يستجيب للتعدد والاختلاف أيضاً، وهو ما يسهم في تطوير الوعي النقدي لديه.

• كيف تقيمين تجارب الشاعرات السعوديات؟ ما أهم التجارب؟ وأين موقعها من المشهد الأدبي السعودي؟

•• تجربة الشاعرة السعودية هي جزء من التجربة العامة للشعر السعودي، وهي تسير في المجرى نفسه الذي تسير فيه منذ بدء حركة الحداثة الشعرية في المملكة، ومن ثم لا أعتقد أن هناك خصوصية جندرية ترتبط بالشعر النسوي في المملكة، لأن هاجس التحرر هو جزء من حركة الحداثة في كل مستوياتها، ولم يكن الشعر لدى المرأة الشاعرة أداة للنضال وتعبيراً عن حركة نسوية، تهدف به إلى تعرية المجتمع الذكوري، بل أعتقد أنها عبرت به عن تحول في الحركة الإبداعية السعودية عامة، وعن فلسفة الكتابة الشعرية، وليس عن توجه اجتماعي أو جندري.

وينبغي لنا، أولاً، أن ندرك بأن عدد الشاعرات السعوديات عدد قليل نسبيّاً إذا ما قورن بعدد الشعراء لأسباب ثقافية واجتماعية لا يحتمل المجال الإسهاب في ذكرها، وبطبيعة الحال، هذا مجرد رأي لا يزال في حاجة إلى بعض الدراسات الإحصائية التي قد تثبته أو تنفيه. ومع ذلك فإن للشاعرات السعوديات حضوراً بارزاً في المشهد الأدبي السعودي وربما في المشهد الأدبي العربي. والتجارب الشعرية النسائية تشبه إلى حد كبير التجارب الشعرية الرجالية من حيث الأشكال التي كتبت بها، وتختلف في طبيعة بعض الموضوعات والثيمات الشعرية التي تطرقها هؤلاء الشاعرات إذا ما قورنت بتلك التي يكثر ارتيادها من قبل الشعراء، رغم اشتراك الفريقين في عدد من الموضوعات التي تقلقهم وتستحوذ على اهتمامهم جميعاً. ويمكن أن يشار هنا إلى بعض التجارب الشعرية النسائية الرائدة في بلادنا مثل تجربة الشاعرة فوزية أبو خالد وأشجان هندي وهدى الدغفق ولطيفة قاري وغيرهن.

• هل نحن بحاجة إلى مؤسسات حكومية ترعى المجال الثقافي والأدبي في السعودية؟ أم دور الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة كافٍ بنظرك؟

•• بطبيعة الحال يحتاج المجال الثقافي والأدبي باستمرار إلى الدعم المادي والمعنوي من المؤسسات الحكومية والخاصة، وهذا ما راعته الاستراتيجية الثقافية في المملكة التي أنشئت استناداً إليها وزارة كاملة متخصصة في رعاية الثقافة بشتى أشكالها المادية والرمزية والمعنوية ودعمها وإبرازها وتجديدها لتواكب متطلبات العصر. وقد شهدنا المبادرات الثقافية الكثيرة التي أطلقتها وزارة الثقافة واستفاد منها المثقفات والمثقفون في شتى مناطق المملكة. أما في ما يتعلق بدور الأندية الأدبية وجمعيات الفنون فلا شك أنها لعبت دوراً مهمّاً في النهضة الثقافية التي شهدتها المملكة وبخاصة قبل إنشاء وزارة الثقافة، وما زالت هذه المؤسسات الثقافية مع غيرها تقدم إسهاماً واضحاً في المشهد الثقافي السعودي.

• ما التجارب السعودية التي تستحق أن تكون تجارب عربية وعالمية وتطالبين بترجمتها وتقديمها للعالم؟

•• لدينا تجارب إبداعية سعودية مميزة في مجال الشعر والرواية والقصة وغيرها من الفنون، وقد ترجم بعضها إلى لغات أجنبية متعددة، كما بّين ذلك كتاب الأستاذ خالد اليوسف (الترجمة في الأدب السعودي من اللغات الأخرى وإليها)، وكما يتضح ذلك للمتابعين والمهتمين بموضوع الترجمة. وقد بدأ الاهتمام بأمور الترجمة يتضح في المملكة من خلال جعل الترجمة أحد فروع هيئة الأدب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة. وما زالت الحاجة ملحة إلى جهود مكثفة تبذل في سبيل ترجمة التجارب الأدبية السعودية إلى الثقافات الأخرى. ولعل من أهم أنواع الترجمات التي نطمح أن نراها شائعة هي تلك الترجمات التي يقوم بها مترجمون أجانب للأدب السعودي، كما يرى بعض النقاد، وهذا ليس تقليلاً من الجهود التي يبذلها الأدباء السعوديون في ترجمة أعمالهم أو التي تقوم بها بعض المؤسسات الثقافية السعودية، فهي جهود جديرة بالشكر والإشادة، ولكنها لا تكفي وحدها من وجهة نظري.

• أين تجد مستورة نفسها أكثر.. في الشعر أم النقد والبحث؟

•• سأجيب عن هذا السؤال بإجابة ربما تبدو تقليدية نسمعها كثيراً، وهي أنني عندما أتهيأ لكتابة جنس كتابي معين أنسى أو أتناسى تماماً، أنني أكتب لحظتها في جنس كتابي آخر. فكتابة الشعر مثلاً لها مثيراتها ومحفزاتها وطقوسها وأدواتها الإبداعية، وقس على ذلك بقية الأنواع الكتابية الأخرى التي أمارسها. وأنا، حقيقة، أجد نفسي في هذه الأشكال الكتابية التي أمارسها كلها، ولا أمارس الكتابة إلا في ما أجيد أو أعتقد أنني أجيد.

• في تجربة التدريس بجامعة الطائف.. مارأيك في مشروع الجامعات السعودية في تدريس مواد النقد والأدب؟ ما أهم ما ينقصها؟

•• تجربتي في تدريس الأدب والنقد في قسم اللغة العربية بجامعة الطائف تجربة ثرية، فقد استفدت منها بقدر ما أفدتُ طالباتي، وبطبيعة الحال لكل قسم خطته الدراسية التي يتبناها بعد جهود مضنية من العمل الدؤوب، ويسعى دائماً إلى تطويرها والارتقاء بها، والتأكد من أن هذه الخطة تحقق المخرجات التي يُصمم البرنامج لتحقيقها. ولدينا هذه الأيام تجربة مهمة يقوم بها القسم في مسعاه للحصول على الاعتماد الأكاديمي لبرنامجه الدراسي، وفي هذه التجربة تُراجع خطة البرنامج الدراسية (بما في ذلك مقررات الأدب والنقد) بعناية وتُناقش كل الأمور المرتبطة بإنجازها على أفضل السبل، ويتم التأكد من أنها تحقق أهداف البرنامج وتجوّد مخرجاته من الطلاب والبحوث العلمية التي ينجزها منسوبوه ومن الخدمات الجليلة التي يقدمها للمجتمع. وهذه التجربة كفيلة بالتعرف إلى جوانب القوة للبرنامج فيسعى القسم إلى المحافظة عليها وتنميتها وإلى الجوانب التي قد تحتاج إلى مزيد من التطوير، فتوضع الخطط اللازمة لتحقيق ذلك.

• ظهرت إحصائية من وزارة الثقافة حول مشاركة وتفاعل المجتمع مع البرامج والفعاليات الأدبية، وكانت نسبة الغياب عنها أكثر من حضورها بفارق كبير.. بنظرك ما سبب غياب المجتمع عن الفعاليات الثقافية؟ وما الحل؟

•• كتبت مقالاً في أواخر العام المنصرم 2022 عن مشروع (الشريك الثقافي) وعنونته بـ(التثاقف بالترفيه من أجل جودة الحياة)، وكنت قد رصدت فيه ذكاء التخطيط لإنعاش المجتمع السعودي وتوعيته عبر الثقافة، فتحقيق ذلك يكون بأحد هذين الأمرين؛ نزول الثقافة إلى القاعدة الشعبية، أو رفع القاعدة الشعبية إلى منصّة الثقافة، ولأنّ السبيل الثاني معقّد ويحتاج إلى وسائل عملية وسقوف زمنية طويلة الأمد، عمد التخطيط في هيئة الأدب والنشر والترجمة إلى اختيار السبيل الأول، وذلك بنزول الثقافة إلى القاعدة الشعبية، عبر ذهاب المثقفين إلى المقاهي، وتقديم نتاجاتهم بلغة يتفاعل معها العامة والخاصة، وهو إجراء استراتيجي لاستدراج القاعدة نحو القمّة، فيكون الارتقاء واعياً عفويّاً وسلساً ومتاحاً للجميع.