اقتصاد

تقوية سلسلة التوريد أساسي للتحول إلى مركز إقليمي للتصنيع

محمود سليماني *

نشأت وتربيت في بلد كان فيه النفط هو عصب الاقتصاد والمورد الرئيسي للدولة من أجل تحقيق النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية، إلا أنّ هذه الصورة آخذة في التغير تمامًا للأجيال الناشئة. فالمملكة العربية السعودية مازالت أكبر منتج وثاني أكبر الدول المصدرة للبترول في العالم، إلا أنها تمر حاليًا بمرحلة من أكبر مراحل التحول في تاريخها على كافة المستويات والأصعدة، خصوصا على المستوى الاقتصادي، بما يمهد الطريق لمستقبل أكثر استدامة ينتظر الجميع. إنّ المملكة تتغير أمام أعيننا لحظة بعد أخرى، وأشعر بكل الفخر والامتنان أنني أحد شهود هذه التغييرات التاريخية والنهضة غير المسبوقة، فضلًا عن مساهمتي في صناعة هذا التغيير.

فمنذ انطلاق رؤية 2030، تسعى المملكة حكومة وشعبًا لتنويع الاقتصاد السعودي من خلال تنمية وتطوير قطاعات اقتصادية غير بترولية، وإنشاء صناعات جديدة لم تعهدها المملكة من قبل وهو ما يأتي في إطار الجهود الوطنية الرامية لجعل المملكة مركزًا صناعيًا إقليميًا في قلب المنطقة العربية بما يتيح لنا اجتذاب تدفقات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتصدير المنتجات المصنوعة في المملكة لكل دول العالم. إنّ توطين سلاسل التوريد لدعم وتعزيز قدرات التصنيع المحلي في البلاد، هو جزء لا يتجزأ من رؤية المملكة 2030.

لقد حققنا العديد من الإنجازات الملموسة منذ انطلاق رؤية المملكة 2030 في عام 2016، حيث قفزت البلاد بخطى واثقة وتمكنت من تطوير سلاسل توريد ذات مستوى عالمي لديها قدرات تصديرية كبيرة. ولكن علينا العمل على سد فجوات كبيرة والتغلب على تحديات حقيقية تعيق سرعة تحول السعودية لمركز إقليمي للتصنيع بكل جدارة.

إنّ التقدم الذي حققناه كان سريع الخطى، ومن أمثلته ما سبق للمملكة الإعلان عنه من بدء توطين إنتاج لوحات توليد الطاقة الشمسية، والسيارات الكهربائية بل ومحركات السفن العملاقة على أراضيها. وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، قفز عدد المصانع في المملكة العربية السعودية لأكثر من 10000 مصنع بعد أن كان في حدود 7000 مصنع في 2016. وتتضمن خطط التنمية الوطنية مضاعفة هذا الرقم لأكثر من 3 مرات ليصل إلى 36000 مصنع بحلول عام 2035، مع العمل على زيادة معدلات التوطين الصناعي في البلاد خلال الفترة نفسها، من ناحية أخرى أعلنت وزارة الطاقة السعودي نيتها زيادة معدلات توطين قطاع الطاقة في البلاد إلى 70% بدلًا من معدلات التوطين الحالية والبالغة 59%.

إن نقل المعرفة وتعزيز البنية التحتية الصناعية وتحسين الوصول لمصادر التمويل وتشجيع الابتكار والتطوير تمثل أهم سبل وأدوات تحويل المملكة لمركز إقليمي للصناعة في المنطقة. تعمل المملكة تدريجيًا على رفع نسبة مساهمة المُصنّعين المحليين في إجمالي المشتريات الحكومية داخل المنشآت والمصانع المملوكة للدولة. إننا نرى تقدمًا ملحوظًا في إطار هذا التوجه الوطني. ومن الأمثلة المشرفة لهذا التوجه، برنامج تعزيز القيمة المُضافة الإجمالية لقطاع التوريد في المملكة (اكتفاء) الذي أطلقته أرامكو السعودية، حيث أصبح يمثل نموذجًا يحتذى في تعزيز جهود توطين الصناعة في البلاد.

وبينما تشهد معدلات التوطين مستويات غير مسبوقة في بعض الصناعات، نجد أنّ هذه المعدلات وصلت لحد التشبع في عدد من الصناعات الأخرى نظرًا لنقص بعض المواد الخام الضرورية وقطع الغيار التي لا غنى عنها والمنتجات النهائية التي تمثل مدخلات أساسية لبعض العمليات التصنيعية. إنّ التصنيع عملية معقدة، وعلى الرغم من جهود ومساعي العديد من الشركات لزيادة المكون المحلي، إلا أنها تجد نفسها مضطرة لاستيراد بعض المكونات من الخارج، إما لأن هذه المكونات غير متاحة محليًا أو لأن المكونات المتاحة لا تتوافق مع المعايير والمواصفات الفنية المطلوبة. هذه هي أوجه القصور التي يجب التعامل معها على المدى القصير والمتوسط، بحيث نتمكن من تحقيق أهدافنا التصنيعية على المستوى الوطني.

إن المملكة العربية السعودية غنية بالموارد الطبيعية مثل النحاس والألومنيوم والتيتانيوم وغيرها، إلا أن المنتجات النهائية المصنوعة من هذه المعادن تحتاج لمزيد من التطوير لكي تلبي احتياجات التصنيع المحلية في البلاد، ولكي تحل محل المنتجات والمكونات المستوردة من الخارج.

لقد تمكنا في سيمنس للطاقة من توطين صناعة النظم الفرعية والخدمات الصناعية المتخصصة، وتوطين صناعة تجميع وحدات ضواغط الهواء والتوربينات الغازية في المملكة، إلا أننا مازلنا في حاجة لاستيراد بعض المواد الخام (الأنابيب والمواسير)، بالإضافة لبعض المكونات الضرورية الأخرى مثل المحركات الكهربائية وضواغط الهواء وصناديق التروس والشفرات المتحركة للتوربينات والأغلفة الخارجية للتوربينات الغازية. هذه المكونات مجتمعة تمثل أكثر من نصف حجم سلاسل التوريد التي نحتاج إليها، وبالتالي فإنّ توطين هذه المكونات سيمكننا من زيادة معدلات التوطين في قطاع الطاقة السعودي.

من ناحية أخرى يمثل التعاون والشراكات نقطة محورية تتيح لنا المزيد من التقدم في هذا الإطار. فلكي نتمكن من التعامل مع الفجوات الكبيرة في سلاسل التوريد المحلية، أطلقنا برنامجا لتأهيل وتنمية قدرات الموردين المحليين. إنها مسيرة طويلة ورحلة شاقة بدأت عام 2017 وهي مستمرة حتى يومنا الحالي، إيمانًا منا بأهمية زيادة عدد الموردين المحليين المُعتمَدين والمؤهلين داخل سلاسل التوريد المحلية. ومن بين هؤلاء الموردين شركة ENPRO السعودية، والتي تمكنا بالتعاون معها من توطين نظم معقدة لمنع تسريب الغاز ونظم لزيوت تشحيم الماكينات والمعدات. إنّ ENPRO الصناعية من الموردين الذين اعتمدهم برنامج اكتفاء، وتمكنت حتى الآن من تحقيق معدلات توطين وصلت إلى 35%. ومن خلال جهودهم المتواصلة في التطوير وزيادة القدرات المحلية، تستهدف الشركة تحقيق معدلات توطين تصل لأكثر من 50% بحلول عام 2025.

لقد شهدنا تقدمًا كبيرًا في الاتجاه الصحيح اعتمادًا على خطط لتطوير الصناعات النهائية/التحويلية (downstream manufacturing) وكمثال على ذلك الشراكة بين أرامكو السعودية ودوسان ودسر طويق التي ستبدأ صناعات الصب والطرق للمعادن بحلول عام 2025، بما يتيح للسوق السعودي الاستغناء عن استيراد المنتجات المعدنية من الخارج، ودعم جهود توطين الصناعات في المملكة. إنّ هذه الخطوة ستعمل على رفع نسبة المكون المحلي وتوطين صناعة وحدات ضواغط الهواء وصب التوربينات الغازية وغيرها من المكونات مثل الصمامات والمضخات.

وبصورة مشابهة، ستنتج شركة Gulf Special Steel Industries (SGSI) أنابيب الإستينليس استيل دون لحامات، مما يعزز جهود توطين العديد من الصناعات في المملكة. إنّ أنابيب الإستينليس استيل بدون لحامات من المكونات الرئيسية لتعبئة ضواغط الهواء وكذلك للأنظمة المساعدة/الفرعية. ويستفيد العديد من الموردين والمنتجين من هذا الإضافة المهمة للصناعة السعودية، بالإضافة لتحسين معدلات توطين الصناعة في البلاد بشكل كبير.

إنّ تطوير قطاع الصناعات المعدنية من الأمور بالغة الأهمية للإسراع بوتيرة بناء قدرات التصنيع المحلية في المملكة، نظرًا لأنّه من القطاعات الإستراتيجية التي تساعد على قيام وتمكين عدد من الصناعات الأخرى. تعمل الصناعات المعدنية أيضًا على سرعة تحول المملكة لمركز إقليمي وإستراتيجي مهم للتصنيع، وزيادة مرونة التعامل مع الأزمات المرتبطة بسلاسل التوريد العالمية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال وهو ما يمثل عاملًا رئيسيًا لتحقيق الاستدامة والتنمية الاقتصادية. وتشكل الصناعات المعدنية أهمية خاصة نظرًا لإطلاق المملكة لعدد من المشروعات الكبيرة والعملاقة مثل مدينة نيوم، ومشروع البحر الأحمر والمبادرة السعودية الخضراء، وهي مشروعات من شأنها زيادة الطلب على السلع والخدمات بشكل هائل، مما يتطلب وجود سلاسل توريد أكثر مرونة داخل البلاد.

* المدير التنفيذي لسيمنس للطاقة في السعودية.