كتاب ومقالات

المؤسس والمؤسسة

طلال صالح بنان

يومان تاريخيان يمران سنويا يحتفل فيهما الشعب السعودي بحدثين تاريخيين، لهما علاقة بتاريخية زعيم وتجربة مسيرة بناء دولة (يوم التأسيس ٢٢ فبراير ١٧٢٧، واليوم الوطني ٢٣ سبتمبر ١٩٣٢).

البطل الحقيقي لكلا الحدثين التاريخيين هو جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود ( ١٨٧٦ – ١٩٥٣ ). الملك عبد العزيز، تاريخياً، لم يضع حجر الأساس لدولة عمرها ٢٩٥ سنة، لكنه كان البَنّاء الحقيقي لها على أُسسٍ أكثر ثباتاً واستقراراً واستدامة. صَرحُ الدولة السعودية الأولى ( ١٧٢٧ – ١٨١٨ ) قُوِضَ بفعل تدخل أجنبي. تجربة الدولة السعودية الثانية ( ١٨١٨- ١٨٩١ )، سقطت من الداخل.

أما تجربة المملكة العربية السعودية الثالثة (الحالية)، فقد نجحت في التغلب على صعاب التجربتين الأولى والثانية، وإن أخذت فترة التأسيس لاكتمال توحيدها وإعلانها بشكلها العصري الحديث عقدين من الزمان (١٩٠٢ - ١٩٣٢). الملك عبدالعزيز عندما فتح الرياض (١٥ يناير ١٩٠٢)، مستعيداً عاصمة ملك آبائه وأجداده، كما كان يردد، كان في ذهنه حدود كيان مملكته العتيدة، بأبعاد امتدادها التاريخي والجغرافي، وبواقع إمكانات قدراته المتاحة والمحتملة، مقدراً بواقعية دقيقة الأوضاع الإقليمية والدولية، السائدة حينها.

حينها: كان الأشراف يحكمون الحجاز.. في عسير آل عائض.. والأحساء تحت سيطرة العثمانيين.. أما تهامة وجيزان بطول الساحل جنوباً حتى الحُدَيدَة كان الأدارسة، حيث كانت إمارتهم ضمن أطماع إمام اليمن التوسعية. أما مشيخات الخليج، وسلطنات جنوب الجزيرة حتى عدن، كانت محميات إنجليزية. بينما مناطق شمال الجزيرة العربية في العراق وبادية الشام والهلال الخصيب، حتى الساحل الشرقي للبحر المتوسط كانت تابعة للدولة العثمانية، وليست بعيدة عن حسابات الدول الاستعمارية، مما يجعل منها جبهة مركبة شديدة التعقيد والخطورة، لدرجة تشكيلها التهديد الأمني الأول للمملكة العربية السعودية، حتى تسعينيات القرن الماضي، وما زالت.

الملكُ عبد العزيز، بوعيه الفطري لحركة التاريخ، كان «متواضعاً» في طموحاته السياسية، وإن كانت ضمن الامتداد الجغرافي للدولة السعودية الأولى والثانية. لم يكن طموحه، بناء إمارة محدودة الموارد والإمكانات، كما لم تكن في ذهنه إنشاء إمامة أو خلافة، وإن كانت أحلام الخلافة راودت زعماء إقليميين، قد تكون لديهم الإمكانات والفرص، كما زُين لهم حينها، إلا أنهم كانوا يفتقرون لبعد النظر والبصيرة الثاقبة لمسيرة حركة التاريخ، التي كانت تُطوى أمام بصيرة الملك عبدالعزيز الثاقبة، حيث تراءت له حدود إمكاناته ودوره الحقيقي في حركة التاريخ، بصيرة فطرية لم تتوفر لأحدٍ في عصره، سواه.

الملكُ عبد العزيز بعبقريةٍ سياسيةٍ وإستراتيجيةٍ فذة، واجه تحديات تشكيل ورسم حدود مملكته، بشجاعة وبصيرة فطرية، مكّنته من التغلب على المتغير الخارجي، الذي كان وراء فشل تجربة الدولة السعودية الأولى. هذا النجاح المنقطع النظير في التعامل الأمني والسياسي والإستراتيجي، مع تحديات المتغير الخارجي، استمر إلى يومنا هذا، ولم يكن نجاحاً ظرفياً ووقتياً، فقط. دليلٌ آخر على إمكانات جلالته السياسية والإستراتيجية الفذة، بعيدة النظر.

الملكُ عبد العزيز، لم تفته المشاكل السياسية، التي عصفت بتجربة الدولة السعودية الثانية. كان يرمي جلالته لبناءِ دولةٍ عصريةٍ مستقرة، تواجه بنفس الحسم والحزم احتمالات عدم استقرارها الداخلي، بنفس الإرادة الماضية التي تواجه بها تحديات البيئة الخارجية حولها. أنشأ الملكُ عبد العزيز نظاماً مؤسساتياً لمواجهة تحديات استقرار العرش. وأنشأ ما يمكن أن يوصفَ بميثاقٍ وطنيٍ أو عقدٍ اجتماعيٍ، غير مكتوبٍ مع الشعب. والتزم بتنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة.. وبمسؤولية اجتماعية للدولة، سخية وشاملة.

الملكُ عبد العزيز، باختصار: أسّسَ دولة عصرية (المملكة العربية السعودية)، منيعة ومؤثرة تحتوي إقليم المنطقة.. ويمتد حضورها ونفوذها العالم بأسره، خدمةً للسلام. كما أسس نظاماً سياسياً داخلياً مستقراً وفعالاً قادراً على الاستجابة المرنة مع مدخلاته، لإقامة مجتمعٍ مستقرٍ ونظامٍ سياسيٍ فاعلٍ ومقتدرٍ. ليس بأقل الوفاء ببعض حق هذا الزعيم العظيم، أن نتذكره سنوياً في مناسبتين تاريخيتين، بوصفه المؤسس الأول لأعظم «مؤسسة» سياسية دولية عصرية، شهدها تاريخ المنطقة الحديث (المملكة العربية السعودية).

رحم الله جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود.