لا ملائكة ولا شياطين
الجمعة / 02 / رمضان / 1444 هـ الجمعة 24 مارس 2023 01:18
علي بن محمد الرباعي
ترتقي مكانة الدِّين في المجتمع، بقدر ارتقاء أخلاق معتنقيه، فالأخلاق مشترك؛ نتعبّد بها ربنا، ونؤسّس بها علاقات متينة مع البشرية في كل مكان وزمان، وتركز رسالة الإسلام على العلاقة الإنسانية الصحيّة، كونها العامل الأكبر لتحقيق التعاون على البر والتقوى.
ليس مقصد الله الأسمى من إنزال القرآن؛ التوحيد فقط، على جلالة قدره، ولا غايته من إرسال المصطفى عليه الصلاة والسلام أن نعبد الله بالصلاة والصوم والزكاة والحج، برغم أهميتها، بل سرُّ عَظَمَةِ الدِّين، ما يترتب على العبادة من سموّ روحي يُغذّينا بطاقة أخلاقية، فيغدو تعبّدنا بما هو عليه من تذلل (رِفعةً) تزودنا بالانسجام، مع كل ما يحيط بنا، من بيئة وأفلاك وأحياء.
أتصوّر أن من التلبيس؛ حشر المسلم وإغراقه في محيط العبادات، وحرمانه من التأمّل والتفكّر والتدبّر في غاية العبادة، ومقاصد التشريع، المتمثل في (الأدب) والتهذيب؛ فالسلوك المُهذّب يُنبئ عن عقيدةٍ مُهذِّبَة، وعبادةٍ مُتقبّلة.
لسنا ملائكة، ولسنا شياطين، نحن بشر من طين زرع الله فينا قابلية الارتقاء لملائكية؛ تتجلى في مثل هذه المواسم الخصبة، كما جعل فينا ميلاً لشيطنة تتمادى إذا أفلتنا عقالها، ووسعنا ميدانها، وغلّبنا حظ الجسد على حظوظ الروح.
في القرآن الكريم خاطب الله خلقه (ببني آدم) وآدم خُلِق من أَدَمةِ الأَرض بمعنى: (جلدتها) أو قشرتها الظاهرة، أو أديمها بمعنى (ترابها) والتراب ضعيف، وسرعان ما يلين إذا صببت عليه بعض الماء، أو هطلت عليه سحائب رحمة، وفي بلاد الشام يقولون على سبيل المدح لزائر أو ضيف (آدمي) دليل عن أن الآدمية ضد البهائمية، التي تدفع صاحبها للصول والجول بغريزة نهمة (أكلاً وشرباً وشهوةً).
ووصفنا عزّ وعلا بالبشر، والبشرة ما ظهر من الشيء، قال الإمام القُرطبي؛ أما تفسير كونه بشراً، فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي، والملائكة والجن لا يباشرون بسبب لُطف أجسامهم، كما نادانا سبحانه بـ(يا أيها الإنسان) وهذه قيمة إضافية للآدميين، فالبشرية حسيّة، والإنسانية صفة معنوية تشير لقابلية الاستئناس، والتواصل، والتعارف، والحُبّ والاحترام.
تركيبة البشر معقدة، بما فيهم (كاتب المقال) وأحياناً نتصور أننا خبراء في نفسيات، ودواخل الآخرين وقادرين على علاجها، ونحن أعجز ما نكون عن معرفة أنفسنا ودواخلنا، وبحكم (شكلانية) خطاباتنا الوعظية نشتغل على البراني (الآخر) أكثر من الجواني (نحن)، ونحيّد الله أثناء تعاملنا مع بعضنا، فنتلخبط ونتخبط (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
تعود لنا مواسم الخير، ومنها شهر رمضان؛ لنتساءل مُجدداً ما دورنا في هذه الحياة؟ وما مبلغ وعينا بأسباب تكليفنا بهذه العبادات؟ وهل مجرد الأداء الشكلي لشعائر دليل كافٍ على تأديتنا الرسالة المطلوبة منا؟ ربما لا ننشغل بطرح أسئلة كهذه التساؤلات بحكم أننا بداية كل رمضان، ننشغل بكم ركعة صلينا، وكم جزءٍ من القرآن تلونا، وكم خطوةٍ من وإلى المسجد مشينا؟!.
دخل رمضان، وكالعادة الحديثة، تصاحبه حملة دعوية ودعائية ليغدو كثيراً في الألواح، قليلاً في الأرواح، نلقاه في الكتب، والصُحف، والمسجد والإذاعة، والتلفزة، حد طرح سؤال عن سرّ تلاطم أمواج الوعظية، الناتجة عن الأصابع الواعظة والممتعظة، المهجوسة، بتدوين المواعظ صباح مساء على الواتساب وتويتر وفيس بوك، إضافةً للصور الملوّنة التي تهدر على المحطات، والسناب شات، والتيك توك، والانستغرام، وكل منكم يعرف الجواب أكثر مني.
يا ليت رمضان يكون حاضراً في أرواحنا، منقوشاً في وجداننا، وهو ثقيل (مسؤوليةً) لأنه يحمّلنا عبء تفقد أنفسنا ومراجعة كشوف حساباتنا مع الله ومع الناس، ورمضان شفيف من السهل أن يعرّي أمراض كل صائم، ويكشف النقائص والعيوب، فيبدأ كل واحد منا رحلة استشفاء خاصة، ليحوز التقوى، والتقوى ليست ما نسطره في لوح أو قرطاس، بل ما سكن قلوب الناس، وانعكس على تعاملهم.
أدركت قبل خمسين عاماً جيلاً، رمضانهم؛ في إنتاجهم العملي الكادح، ودليل صدقهم (أمانتهم) وجواز سفرهم لبعضهم (أخلاقهم) وهمزة وصلهم مع الحياة (ثقتهم بالله) علماً بأنه لم يكن زمن آبائنا وأجدادنا وجداتنا (وُعّاظ كُثر) إلا أن كل واحد منهم واعظه من نفسه، وربما لا أُبالغ إن قلتُ أنهم أكثر معرفةً بالله عملياً.
تنزع النفوس إلى كسر القيود، والقفز على الحواجز والمزاحمة في طابور، والتدافع على مطعم أو مشرب، والتقدم على الآخرين في صف أوادم أو مركبات، وهناك سلوكيات متأصلة في بعضنا، لم تعالجها كثرة الرمضانات التي طافت، والدليل جنوح البعض للفساد وارتكاب المخالفة والجناية بذريعة (ما أحد شافني).
يغلب في هذه الأيام الأدب بكل مبناه ومعناه وتجلياته، على الغالب الأعم من المسلمين الصائمين، الذين يدركون لذة العبادة كل مساء، وهم يفطرون مطمئنين أن صيامهم لم ينجرح، والتمرين يحتاج مواصلة ليؤتي أُكله، وتُجنى وتُقطف ثماره.
ليس كل شيء مباحاً، وليس كل شيء مُحرماً، وما كان مُباحاً بالأمس يحرم عليك اليوم، وما حَرُم عليك اليوم يباح لك غداً، وبمثل هذا التدريب العملي على كبح الرغبات، وتقنين المشتهيات، تتعود النفس على العفة والزهد والحذر من التطاول على ما ليس لك.
نرجو أن يُهذّب صيام رمضان سلوكنا طيلة العام، ففي نهار الصوم تحوطك كل المغريات، من المفطرات، ولا وجود لرقيب، إلا أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ولو كنت من ذوي الأعذار الذين يباح لهم الفطر، ليقينك أن الصوم أدب، وانضباط، ورحمة، وتعاون، وعفة، وكرم، والله أكرم.
لم يهمل الدِّين النظام، فهو دليل من أدلة التعبد لله، ولا يقل أهمية عن التديّن، فبدون النظام تعم الفوضى ويسود الخراب، فكيف نتعلم من الصيام احترام النظام؟ وكيف ننقل رمضان من الأصابع إلى الطبائع؟.
ليس مقصد الله الأسمى من إنزال القرآن؛ التوحيد فقط، على جلالة قدره، ولا غايته من إرسال المصطفى عليه الصلاة والسلام أن نعبد الله بالصلاة والصوم والزكاة والحج، برغم أهميتها، بل سرُّ عَظَمَةِ الدِّين، ما يترتب على العبادة من سموّ روحي يُغذّينا بطاقة أخلاقية، فيغدو تعبّدنا بما هو عليه من تذلل (رِفعةً) تزودنا بالانسجام، مع كل ما يحيط بنا، من بيئة وأفلاك وأحياء.
أتصوّر أن من التلبيس؛ حشر المسلم وإغراقه في محيط العبادات، وحرمانه من التأمّل والتفكّر والتدبّر في غاية العبادة، ومقاصد التشريع، المتمثل في (الأدب) والتهذيب؛ فالسلوك المُهذّب يُنبئ عن عقيدةٍ مُهذِّبَة، وعبادةٍ مُتقبّلة.
لسنا ملائكة، ولسنا شياطين، نحن بشر من طين زرع الله فينا قابلية الارتقاء لملائكية؛ تتجلى في مثل هذه المواسم الخصبة، كما جعل فينا ميلاً لشيطنة تتمادى إذا أفلتنا عقالها، ووسعنا ميدانها، وغلّبنا حظ الجسد على حظوظ الروح.
في القرآن الكريم خاطب الله خلقه (ببني آدم) وآدم خُلِق من أَدَمةِ الأَرض بمعنى: (جلدتها) أو قشرتها الظاهرة، أو أديمها بمعنى (ترابها) والتراب ضعيف، وسرعان ما يلين إذا صببت عليه بعض الماء، أو هطلت عليه سحائب رحمة، وفي بلاد الشام يقولون على سبيل المدح لزائر أو ضيف (آدمي) دليل عن أن الآدمية ضد البهائمية، التي تدفع صاحبها للصول والجول بغريزة نهمة (أكلاً وشرباً وشهوةً).
ووصفنا عزّ وعلا بالبشر، والبشرة ما ظهر من الشيء، قال الإمام القُرطبي؛ أما تفسير كونه بشراً، فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي، والملائكة والجن لا يباشرون بسبب لُطف أجسامهم، كما نادانا سبحانه بـ(يا أيها الإنسان) وهذه قيمة إضافية للآدميين، فالبشرية حسيّة، والإنسانية صفة معنوية تشير لقابلية الاستئناس، والتواصل، والتعارف، والحُبّ والاحترام.
تركيبة البشر معقدة، بما فيهم (كاتب المقال) وأحياناً نتصور أننا خبراء في نفسيات، ودواخل الآخرين وقادرين على علاجها، ونحن أعجز ما نكون عن معرفة أنفسنا ودواخلنا، وبحكم (شكلانية) خطاباتنا الوعظية نشتغل على البراني (الآخر) أكثر من الجواني (نحن)، ونحيّد الله أثناء تعاملنا مع بعضنا، فنتلخبط ونتخبط (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
تعود لنا مواسم الخير، ومنها شهر رمضان؛ لنتساءل مُجدداً ما دورنا في هذه الحياة؟ وما مبلغ وعينا بأسباب تكليفنا بهذه العبادات؟ وهل مجرد الأداء الشكلي لشعائر دليل كافٍ على تأديتنا الرسالة المطلوبة منا؟ ربما لا ننشغل بطرح أسئلة كهذه التساؤلات بحكم أننا بداية كل رمضان، ننشغل بكم ركعة صلينا، وكم جزءٍ من القرآن تلونا، وكم خطوةٍ من وإلى المسجد مشينا؟!.
دخل رمضان، وكالعادة الحديثة، تصاحبه حملة دعوية ودعائية ليغدو كثيراً في الألواح، قليلاً في الأرواح، نلقاه في الكتب، والصُحف، والمسجد والإذاعة، والتلفزة، حد طرح سؤال عن سرّ تلاطم أمواج الوعظية، الناتجة عن الأصابع الواعظة والممتعظة، المهجوسة، بتدوين المواعظ صباح مساء على الواتساب وتويتر وفيس بوك، إضافةً للصور الملوّنة التي تهدر على المحطات، والسناب شات، والتيك توك، والانستغرام، وكل منكم يعرف الجواب أكثر مني.
يا ليت رمضان يكون حاضراً في أرواحنا، منقوشاً في وجداننا، وهو ثقيل (مسؤوليةً) لأنه يحمّلنا عبء تفقد أنفسنا ومراجعة كشوف حساباتنا مع الله ومع الناس، ورمضان شفيف من السهل أن يعرّي أمراض كل صائم، ويكشف النقائص والعيوب، فيبدأ كل واحد منا رحلة استشفاء خاصة، ليحوز التقوى، والتقوى ليست ما نسطره في لوح أو قرطاس، بل ما سكن قلوب الناس، وانعكس على تعاملهم.
أدركت قبل خمسين عاماً جيلاً، رمضانهم؛ في إنتاجهم العملي الكادح، ودليل صدقهم (أمانتهم) وجواز سفرهم لبعضهم (أخلاقهم) وهمزة وصلهم مع الحياة (ثقتهم بالله) علماً بأنه لم يكن زمن آبائنا وأجدادنا وجداتنا (وُعّاظ كُثر) إلا أن كل واحد منهم واعظه من نفسه، وربما لا أُبالغ إن قلتُ أنهم أكثر معرفةً بالله عملياً.
تنزع النفوس إلى كسر القيود، والقفز على الحواجز والمزاحمة في طابور، والتدافع على مطعم أو مشرب، والتقدم على الآخرين في صف أوادم أو مركبات، وهناك سلوكيات متأصلة في بعضنا، لم تعالجها كثرة الرمضانات التي طافت، والدليل جنوح البعض للفساد وارتكاب المخالفة والجناية بذريعة (ما أحد شافني).
يغلب في هذه الأيام الأدب بكل مبناه ومعناه وتجلياته، على الغالب الأعم من المسلمين الصائمين، الذين يدركون لذة العبادة كل مساء، وهم يفطرون مطمئنين أن صيامهم لم ينجرح، والتمرين يحتاج مواصلة ليؤتي أُكله، وتُجنى وتُقطف ثماره.
ليس كل شيء مباحاً، وليس كل شيء مُحرماً، وما كان مُباحاً بالأمس يحرم عليك اليوم، وما حَرُم عليك اليوم يباح لك غداً، وبمثل هذا التدريب العملي على كبح الرغبات، وتقنين المشتهيات، تتعود النفس على العفة والزهد والحذر من التطاول على ما ليس لك.
نرجو أن يُهذّب صيام رمضان سلوكنا طيلة العام، ففي نهار الصوم تحوطك كل المغريات، من المفطرات، ولا وجود لرقيب، إلا أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ولو كنت من ذوي الأعذار الذين يباح لهم الفطر، ليقينك أن الصوم أدب، وانضباط، ورحمة، وتعاون، وعفة، وكرم، والله أكرم.
لم يهمل الدِّين النظام، فهو دليل من أدلة التعبد لله، ولا يقل أهمية عن التديّن، فبدون النظام تعم الفوضى ويسود الخراب، فكيف نتعلم من الصيام احترام النظام؟ وكيف ننقل رمضان من الأصابع إلى الطبائع؟.